ثقافة

لبنان الكبير .. من «سحر الخطأ التاريخيّ» إلى الدور الحضاريّ المُرتجى ـ الجزء الثاني والأخير

إعداد: أمين الياس

ربما يكون رئيس تيَّار المستقبل، الرئيس سعد الحريري قد أدرك هذا التوجُّه المسيحيّ (وربما قيادة حزب الله أيضًا). وربما كان هذا أحد أهمّ الأسباب التي دفعته – إضافة إلى أسبابٍ أخرى معروفة وغير معروفة- بعد رفضٍ طويل، إلى تبنّي ترشيح العماد عون للرئاسة الأولى، والقبول بتسويةٍ ثلاثيَّة الأبعاد تجمع ما بينه وبين التيَّار الوطني الحرّ وحزب الله. إنَّ هذه التسوية التي أُعلِن عنها أواخر صيف 2016 والتي أتى بموجبها العماد عون رئيسًا للجمهوريَّة اللبنانيَّة هي التي أعطت اتّفاق الطائف الأوكسجين الكافي ليستمرّ بالحياة. أمّا ما بعد سقوط هذه التسوية والانهيار التام الحالي الحاصل، السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا سيبقى من الطائف؟

بالتوازي مع هذا، هناك حراك مدنيّ-شعبيّ أيضًا انطلق العام 2011 تحت شعار “إسقاط النظام”، وتوضّحت ملامحه صيف 2015، حراك كان مطلبه الأساس إسقاط النظام الطائفيّ وبناء الدولة العلمانيَّة. ولم يترافق هذا الحراك بمطالب شعبيَّة فحسب، بل بمحاولات لتشريع الزواج المدنيّ في لبنان وشطب القيد الطائفيّ عن سجلّات النفوس. ثم كان 17 تشرين الأوَّل 2019 حيث انفجر اللبنانيُّون بوجه أطراف السلطة جميعًا تحت شعار “كلّن يعني كلّن”.

يبقى لافتًا، رغم كلّ هذا المخاض، ورغم كلّ هذه المسار التاريخيّ الذي فيه من الخيبات بقدر ما فيه من الآمال والتحدّيات، بقيَ لبنان الكبير صامدًا -هذا البلد الذي وصفه كثيرون بالخطأ التاريخيّ وبالكيان الاصطناعيّ- وها هو يحتفل بمئويّته الأولى. أمرٌ صادم حقًا، كيف استطاع هذا الكيان أنْ يمارس سحره على الأفرقاء الداخليّين والخارجيّين حتى يومنا هذا. لماذا يستمرّ اللبنانيَّون في العودة إلى هذا الكيان رغم كلّ خلافاتهم؟

نحو مئويَّة جديدة: أيّ نظام سياسيّ لأيّ لبنان؟

في افتتاحه السنة الاحتفاليَّة بمئويَّة لبنان الكبير خَتَمَ الرئيس ميشال عون كلمته بالتالي: «لبنان الكبير نريده لمئة سنةٍ أخرى، ولألف سنة، بلد الإشعاع، والحريَّات، وتفاعل الحضارات، والديمقراطيَّة، والابتكار، والتنوّع، وأرض الإيمان والتراث»([1]).

كيف يمكن أنْ نحافظ على لبنان لمئة سنةٍ أخرى؟ وما الفكرة الأمّ التي نحتاج إليها لوضع أسُس لبنان الجديد القادر على مواجهة تحدّيات المئويَّة المقبلة؟

قد يكون واقع أنَّ لبنان يُشكّل مساحة للحريَّات وللقاء بين «العائلات الروحيَّة» المتنوّعة في المشرق والفضاء العربي هو ما يعطيه الدور الحضاريّ الذي كان علّة وجوده. السؤال الكبير الذي يُطرح هنا: هل لا يزال لبنان فعلًا صاحب دورٍ حضاريّ؟ هل لا يزال يُشكّل نموذجًا يُحتذى؟ لا بل هناك اليوم أسئلة أكثر بديهيَّة من مثل: هل هو قادر على الاستمرار مئة سنة أخرى؟ هل لا يزال يتمتّع بمقوّمات البقاء والازدهار والإشعاع ليكون له هذا الدور؟ كثيرون باتوا مُقتنعين بأنَّ لبنان كما يُقدّم نفسه اليوم ليس قادرًا على البقاء. وإنْ بقيَ فلن يكون نموذجًا للدور الحضاريّ بل للدولة الفاشلة حيث يعمّ الفساد والتخلّف والانحطاط والفقر والبؤس والاقتتال.

ربما يكون أكثر ما يحتاجه لبنان اليوم هو هذه «الفكرة الأمّ» (Idée matrice) التي تكون قادرة في آنٍ على إخراج لبنان من المستنقع القابع فيه منذ العام 1969 وعلى إنارة مسيرته نحو المئويَّة المقبلة.

عددٌ مهمّ من التيّارات اللبنانيَّة([2]) ومن المُفكّرين اللبنانيّين، من مثل ناصيف نصّار، يُعبّرون عن قناعتهم بأنّ الحلّ الأجدى يتمثّل بالعلمانيَّة. الأطروحة المقابلة لها تقول إنّه يستحيل تطبيق علمانيَّة – بحسب النموذج الغربي- في مجتمعٍ شرقيّ طائفيّ. ما الحلّ إذًا؟

دفعت هذه الجدليَّة عددًا من المفكّرين لطرح السؤال التالي: أيّ علمانيَّة لأيّ لبنان؟ الغرابة في مسألة العلمانيَّة أنّها تبدو، من جهة، الجواب الأصحّ والأوضح لأزمة لبنان وحتّى أزمات كلّ مجتمعات دول الفضاء العربيّ، والمدخل إلى الحداثة والمستقبل والاستقرار والازدهار، ومن جهة ثانية، مستحيلة التطبيق لرفض المجتمع الشرقيّ-العربيّ لها لأسبابٍ دينيَّة وثقافيَّة. كان ثمة رأي هنا يقول إنَّ علينا تجاوز هذا الصراع الجدليّ باتّجاه «علمانيَّة» تكون نابعة من تراثنا ومعاناتنا وثقافتنا ومتوافقة مع البُنى المجتمعيَّة المشرقيَّة العربيَّة.

ثمة من ذهب باتجاه القول بـ«الدولة المدنيَّة». غير أنَّ هذا التعبير يُعَدّ نوعًا من المواربة لأسباب عدّة: منها أنّه مصطلحٌ غامضٌ وحمّالُ أوجه، ولا يعبّر إلّا عن حالة هرب من العلمانيَّة باتّجاه مفهومٍ يُلغي الطائفيَّة السياسيَّة ليُبقي على الأشكال الأخرى من الطائفيَّة من مثل الطائفيَّة الاجتماعيَّة والقانونيَّة والتربويَّة والثقافيَّة. هذا الأمر لن يكون إلَّا تجهيزًا لمرحلةٍ جديدة من الصراع الدامي في لبنان ما بين عائلاته أو جماعاته الطائفيَّة التاريخيَّة حول المشاركة في السلطة السياسيَّة. الأخطر من هذا الأمر هو أنَّ تعبير «المدنيَّة» إنّما هو اختراع الإسلام السياسيّ -لاسيّما الممثَّل بتيَّار الإخوان المسلمين- وهو تعبير حقّ يُراد به تكريس إسلاميَّة الدولة. بعض المفكّرين كان أكثر جذريَّة في طرحه، من مثل مشير باسيل عون الذي دعا جهارًا في كتابه أهؤلاء هم اللبنانيّون؟([3]) إلى علمانيَّة، لا تكون قاهرة بل «هنيَّة».

في كتابي الذي أصدرته في العام 2017 عن دار سائر المشرق والذي عَنْوَنتُه علمانيَّة من عندنا([4]) حاولتُ أنْ أظهرَ للقارئ اللبنانيّ والمشرقيّ والعربيّ كيف أنَّ مفكّرين لبنانيّين نجحوا من على منبر «الندوة اللبنانيَّة» (1946-1984) في بَلْوَرَة نموذجٍ علمانيّ سمّيتُه «من عندنا» تُحاكي البُنى المجتمعيَّة والفكريَّة في لبنان والمشرق. وهو نموذج يقوم على «التمييز» لا «القطع» بين الدينيّ والسياسيّ، أو بين الدين والدولة.

قبل هاتَيْن المحاولتَيْن، كان البابا بنيدكتوس السادس عشر في ورقةٍ تحضيريَّة للسينودس الخاصّ بكنائس الشرق الأوسط (2012) صادرة في حزيران 2010، قد دعا المسيحيّين الكاثوليك في الشرق الأوسط إلى «التعاون مع المسيحيّين الآخرين والمفكّرين والمُصْلِحِين المسلمين لتعميق مفهوم العلمانيَّة الإيجابيَّة في الدولة» (الفقرة 25) رابطًا إياها بـ”حرية الضمير” أي أنْ يكون «الفرد حرًّا في أنْ يؤمن أو لا يؤمن» وأنْ يكون حرًّا في تغيير ديانته.

هناك إذًا مسار فكريّ يُقدّم مشروع «فكرة أُمّ» تقوم على «علمانيَّة إيجابيَّة، رحبة، هنيَّة، من عندنا». لكن يبقى هناك أمرٌ ناقصٌ في هذا المسار يعكسه السؤال التالي: كيف نوائم بين حقوق الجماعات (التي هي في لبنان وفي المشرق جماعات تاريخيَّة ثقافيَّة طائفيَّة) وحقوق الأفراد؟

علمانية شخصانية

تقوم العلمانيَّة نظريًّا على محوريَّة المواطن-الفرد دون الاعتراف بالجماعات. لكنّ الجماعات في شرقنا واقعٌ تاريخيٌّ ثقافيٌّ طائفيٌّ يعود إلى مئات بل آلاف السنين. هل يُمكننا إلغاء هذا الواقع بشحطة قلم؟ بالطبع لا. إذًا علينا التفكير بعلمانيَّة لا تنفي البُعد الجماعي (من جماعة) من تكوينها. هنا يأتي مفهوم «الشخص».

ما هو مفهوم الشخص؟ إنّه مفهوم طوَّرته الفلسفة الشخصانيَّة (Le personnalisme) في فرنسا أوائل القرن العشرين مع المفكّر الفرنسيّ إيمانويل مونييه (1905-1950) ([5]). بحسب هذا الأخير يتكوُّن «الشخص» من عمليَّة مواءمةٍ ما بين أبعادٍ ثلاثة: البُعد الفرديّ والبُعد الجماعيّ والبُعد الروحيّ. فإذا كانت العلمانيَّة التي نريد في لبنان وفي المشرق قائمة على محوريَّة الشخص، فإنّه يجب أنْ تأخذَ في الاعتبار هذَين البُعدَين في تدابيرها على ألّا تَتَخلَّى في الوقت عينه عن أهمّ مُشتَرَكَيْن تَتَشَارَكهما كلُّ الأشكال العلمانيَّة العالميَّة وهما: احترام حريَّة الضمير لكلّ مواطنٍ بما تعنيه هذه الحريَّة من حريَّة الإيمان والاعتقاد والعبادة وتغيير الدين والتبشير وممارسة الدين فرديًّا أم جماعيًّا؛ والمساواة الكاملة بين جميع المواطنين.

لماذا «العلمانيَّة الشخصانيَّة»؟ لأنّها برأيي ربما تمثّل حلًّا لأزمتنا العميقة لا في لبنان فحسب بل في جميع مجتمعات الفضاء العربيّ. فبهذه العلمانيَّة نكون قد أعدنا الاعتبار إلى الفرد كقيمةٍ بحدّ ذاته، ونكون في الوقت عينه قد حافظنا على الحقوق الأساسيَّة للجماعات. إنَّها الأرضيَّة التي تسمح بالحفاظ على التنوّع الدينيّ والطائفيّ في لبنان والمشرق، فلا تكون قاهرة لها، وفي الوقت عينه، تُحرّر الفرد-الشخص -الذي هو المواطن- من طغيان هذه الجماعة، فتكون له الحريَّة بأنْ يؤمن بما يشاء ويعيش كيفما يشاء وأينما يشاء ووفق نمط العيش الذي يختاره.

من ناحيةٍ أخرى، تُمثّل هذه العلمانيَّة الشخصانيَّة أرضيَّةً مشتركة للتعاون بين مفكّرين ومتنوّرين مسيحيّين ومسلمين ومُلحدين ولاأدريّين لكي يُبَلْوروا نموذجًا جديدًا للعيش قد تستفيد منه كلّ مجتمعات الفضاء العربيّ.

من يُمكنه أنْ يلعب هذا الدور في أخْذ الإسلام نحو الحداثة والإصلاح أكثر من مسلمي لبنان المتنوّرين بالتعاون مع مسيحيّيه ولِمَ لا مع ملحديه ولاأدريّيه؟ أليس لبنان هو المساحة الأفضل والأسلم لإطلاق ورشة إصلاحٍ دينيّ مسيحيّ-إسلاميّ؟ أليست العلمانيَّة الشخصانيَّة الرحبة الهنيَّة -ضمن هذا الإطار وهذا المشروع- هي الأرضيَّة الأفضل التي تؤدّي إلى استقرار العلاقات بين الجماعات ما يلغي التوتّر الدائم القائم بينها ويدفعها إلى الحوار العميق؟

«إنَّ عُمْق أزمتنا في لبنان وفي كلّ مجتمعات الفضاء العربيّ أنَّنا نعيش في حالة من «اللاتاريخيَّة»([6]). لا أزال أذكر مقولة المفكّر الإسلامي الراحل جمال البنّا عندما قابلتُه في مكتبه في القاهرة في نوّار من العام 2010 حين قال لي بما معناه: نحن الشرقيّون والمسلمون نعيش في منظومةٍ فكريَّة تعود إلى القرن العاشر ميلادي. ولا أمل لنا إلَّا بتطوير هذه المنظومة الفكريَّة القرنوسطويَّة التي تميل إلى النقل والغيبيَّات والمطلقات أكثر مما تميل إلى العقلانيَّة والتاريخيَّة. هنا بالذات تأتي العلمانيَّة الشخصانيَّة لتنقلنا إلى مرحلة تُمَكّننا من تطوير منظومتنا الفكريَّة.

هذه، لعُمري، هي صرخةٌ موجَّهة إلى كلّ من يعنيه الإنسان في هذه المنطقة من العالم. العلمانيَّة الشخصانيَّة قد تكون التدبير الأسلم من أجل التلاقي الإنسانيّ في لبنان وفي مجتمعات الفضاء العربيّ. فيها سيتشجّع المسيحيُّون على العودة إلى الانخراط في قضايا مجتمعاتهم الشرقيّة وشؤونها فاعلين ومؤثّرين فيها لا مهمَّشين، وإلى الثبات في هذه الأرض لا أنْ ينتظروا تهجيرهم على يد موجةٍ جديدة من اللااستقرار والفقر والبؤس والحروب والحركات المتطرفّة دينيًّا. هذه العلمانيَّة هي التي ستطمئنهم إلى حاضرهم ومستقبلهم المشترك مع المسلم والملحد واللاأدري. هي التي ستدفعهم إلى استعادة الدور الذي لعبوه في تاريخ هذه المنطقة وخاصَّة إبَّان مرحلة النهضة العربيَّة ولمخاطبة الشريك الآخر المسلم بلغة العيش المشترك معه على قاعدة الحداثة والحريَّة والتعدديَّة والديمقراطيَّة والمواطَنة والاعتراف المتبادل، مُدركين أنَّ لا أمل لهم ولا معنى لوجودهم هنا إلَّا من خلال العيش الكريم مع المسلم؛ عيشًا يكون كريمًا لهم وللمسلم. لكنّ هذا العيش لن يكون عزيزًا إلَّا على قاعدة منظومةٍ فكريَّة حديثة. هذا بالذات ما سيسعون إلى بنائه مع المسلم من خلال حوارٍ خلَّاق، عميق، بنّاء، محترم، محبّ، تُطرَح فيه الإشكاليَّات الموجودة كما هي من دون مجاملات ولا تكاذب؛ حوار يخرج بتصوُّرات مُشتركة يُبنى على أساسها الإنسان اللبنانيّ والمشرقيّ. تصوُّرات تكون أساس المنظومة الفكريَّة الجديدة والحديثة. منظومة إنسانيَّة عقلانيَّة لا طابع دينيًّا لها. منظومة تُخرجنا من جدليَّة دار الإسلام ودار الكفر ودار الحرب ودار السلم. منظومة تأخذ أفضل ما في القيم المسيحيَّة والقيم الإسلاميَّة وتُهمل ما لا يفيد اليوم حتّى ولو كان موروثًا من السلف. منظومةٌ تُحرّر إنسان منطقتنا الحالي من ثقل تراثٍ «مُقدَّس» بات يأخذنا إلى الوراء أكثر ممَّا يدفعنا إلى الأمام. منظومةٌ تُحرّر الإنسان من كلّ شريعةٍ سلفيَّة، وتفصل الدين عن أوجه الحياة العامَّة جاعلة منه خيارًا شخصيًّا حُرًّا، وتفصله أيضًا عن التشريع الذي يجب أنْ يكون وضعيًّا مدنيًّا عقلانيًّا إنسانيًّا يُلائم حاجات إنسان اليوم وكرامته وقيمته بغضّ النظر عن جنسه وجندره ودينه ولغته ولونه وأصله وثقافته ونمط عيشه. منظومةٌ تبني «وطنيَّة لبنانيَّة إنسانيَّة» يكون فيها الانتماء الأوَّل للبنان الوطن والنموذج والرسالة الإنسانيَّة، على أنْ تكون انتماءات اللبنانييّن الأخرى ثانويَّة لا تعلو على الانتماء للبنان. فالمسلم في لبنان -سنيًّا كان أم شيعيًّا- مدعوّ إلى حسم الصراع الذي يعتريه في ما خصّ انتمائه، بحيث يخرج من دوامة الضياع التي تمزّقه ما بين انتماءٍ وطنيّ (لبنان)، وانتماءٍ قوميّ (العروبة)، وانتماءٍ دينيّ (الأمَّة الإسلاميَّة -أكانت بنموذجها السُنّي، أو بنموذجها الشيعيّ). هو مدعوّ ليفصل بين انتمائه السياسيّ للبنان وانتمائه إلى الأمَّة الإسلاميّة التي يرى أحيانًا تعويضًا عنها في عروبةٍ وهميَّة. فالانتماء الأوّل هو انتماء سياسيّ ووطنيّ قائم على العقد الاجتماعيّ مع الشريك الآخر، أمَّا الانتماء الثاني فهو دينيّ، وجدانيّ، روحيّ لا بُعدَ سياسيًّا له. من هنا ضرورة تحرّره من هذا المخيال الديني، الذي بناه الإيديولوجيّون الإسلاميّون والذي يشكّل له عائقًا لبناء وطنٍ تعدّديّ لا صبغة دينيَّة أو طائفيَّة له. وإنّي لمقتنع أنَّ هذا الأمر مرتبط بإرادة المسلمين وخيارهم. فالتحرّر من الإرث الثقيل رهن بقرارٍ يتّخذه الإنسان: إمَّا أنْ يبقى أسيرًا للتراث السلفيّ الأسطوريّ اللاتاريخيّ، وإمَّا أنْ يُقرّر التحرُّر ممّا هو غير مفيد في هذا التراث، فيعتمد العقلانيَّة نهجًا ويكون بالتالي قادرًا على تحقيق ذاته اليوم وفي المستقبل، وعلى صناعة الإنسان الجديد. وإنَّي لمقتنع -على غرار ما قاله في العام 1965 من على منبر الندوة اللبنانيَّة الأب يواكيم مبارك (1924-1995)([7])– بأنَّ الكثير من المسلمين باتوا جاهزين للخطو باتجاه الانعتاق من أسر الإسلام السياسيّ ومن شعار أنَّ الإٍسلام دين ودولة. دليل ذلك أنَّ عددًا مهمًّا من المفكّرين اللبنانيّين المسلمين قد نادوا بالعلمانيَّة بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، من مثل حسن صعب، ومهدي عامل وعادل ضاهر وغيرهم.

أمَّا العروبة، فهي لا تقوم إلَّا على الرابطة الحضاريَّة واللغويَّة. أمَّا بُعدها السياسيّ، فإنْ كان يُؤمل تحقّقه، فلن يكون إلَّا بعد مرحلة نجاح النموذج الوطنيّ وتطوّر مستوى المواطن-الفرد-الشخص. فاتّحادٌ عربيّ بهذه الضخامة لا يمكن أنْ يتحقّق في عالم اليوم إلَّا على أساس العلم والحداثة والعولمة وحقوق الإنسان، كلّ إنسان، وفصل الدين والفقه عن الدولة، والحريّات -لاسيَّما حريَّة الضمير منها- والديمقراطيَّة وتداول السلطة، والمواطَنة، والاقتصاد الحرّ الضامن في آن للرفاهيَّة وللعدالة الاجتماعيَّة وللمساواة الكاملة.

المسيحيّ بدوره مدعوّ أيضًا إلى الخروج من فكرة أنَّه «أقليَّة» في هذا المشرق والاتّجاه إلى رحاب المواطنيَّة. هذه الفكرة الأقلويَّة التي تدفعه عادة إمَّا إلى التمسّك بالحالة الراهنة في وطنه وعدم المخاطرة بالذهاب نحو آفاق جديدة بالشراكة مع المسلم، وإمَّا إلى السعي الحثيث والمدروس للهجرة إلى بلدانٍ حيث تحقّق فيها الاستقرار والحداثة وبحبوحة العيش. ولا ضير هنا من ذكر النصّ السياسيّ للكنيسة المارونيَّة الوارد في المجمع البطريركيّ المارونيّ، الصادرة أعماله في العام 2006، والذي يُعَدّ أوَّل وثيقة تاريخيَّة لإحدى طوائف الشرق ولبنان تطالب علنًا وصراحة بدولةٍ يُعتمد فيها مبدأ «التمييز الصريح، حتى حدود الفصل، بين الدين والدولة، بدلًا من اختزال الدين في السياسة، أو تأسيس السياسة على منطلقات دينيَّة لها صفة المطلق»([8]). إنَّها إقرارٌ بضرورة تخطِّي الطائفيَّة وعودةٌ إلى فكرة «التمييز» التي تفصل الممارسة السياسيَّة عن الدين ومطْلَقاته. هذا التمييز قادر على التوفيق بين كون اللبنانيّين مواطنين لبنانيّين مدنيّين علمانيّين، وكونهم ينتمون أيضًا إلى عائلات روحيَّة متنوّعة.

المسيحيّ مدعوّ أيضًا ليلعب دوره ابنًا أصيلًا لهذه الأرض -وهو الابن الأصيل لها- فيخاطب الآخر وفق إرادة العيش معًا على قاعدة الأخوّة والمساواة. ليس مسموحًا في عصرنا هذا أنْ يكون الإنسان المسلم بنظر الإنسان المسيحيّ هذا «الغريب». إنَّ دعوة «الحبّ» عند المسيحيّ ليست ترفًا. من هنا، واجبه يقضي ببناء علاقةٍ مع المسلم على أساس هذا «الحبّ». فالمسيحيّ كالمسلم، كالملحد، وكاللاأدريّ هم كلّهم أبناء هذه الأرض الرحبة يتشاركون معًا الأزمات والمآسي نفسها. كلّهم يعانون على السواء، يهاجرون على السواء،يُقتَلون على السواء. لكنّهم من ناحية ثانية، كلّهم يحلمون بالعيش الكريم على السواء. وإنّني على يقين أنّهم كلّهم يحلمون ببناء وطن يليق بالإنسان الحرّ. 

في الخلاصة، لا فضاء أرحب وأفضل وأسلم وأهنأ من الفضاء الذي يمكن أنْ تُوجِدَه العلمانيَّة الشخصانيَّة من أجل القيام بهذا الحوار الخلّاق.

وفي هذا النموذج بالذات ستَكمن ثورة لبنان الحضاريَّة، تلك الثورة التي يقوم بها الكلّ من أجل الكلّ على حدّ تعبير المفكّر رنيه حبشي. فهل سيكون لبنانيُّو المئويَّة الجديدة على قدر هذه المسؤوليَّة الوجوديَّة والحضاريَّة


[1]– مساء يوم السبت 31 آب 2019.

[2]– مثل التجمّع الديمقراطي العلماني في لبنان (انظر نشرة لنبدأ)، ومنظّمة العمل الشيوعي الذاهبة باتّجاه اعتماد العلمانية جزءًا أساسيًا من مشروعها النضالي ومن اسمها الجديد: انظر المؤتمر  العام الرابع، منظّمة العمل الشيوعي في لبنان،من أجل حزبٍ يساري ديمقراطي علماني، من أجل حركة علمانية ديمقراطية لبنانية وعربية، منظّمة العمل الشيوعي، بيروت، تشرين الثاني 2018.

[3]– مشير باسيل عون، أهؤلاء هم اللبنانيّون؟ عوارض الاضطراب البنيوي في الذات اللبنانية، بيروت، دار سائر المشرق، 2016.

[4]– أمين الياس، علمانية من عندنا، بيروت، دار سائر المشرق، 2017.

[5]– Emmanuel MOUNIER, Le Personnalisme, Paris, PUF, 2009.

[6]– هذا هو الوصف الذي أطلقه المفكّر اللبناني حسين مروة (1910-1987) على «الفكر العربي-الإسلامي»، لمزيدٍ من الاطلاع على فكر مروّة انظر لطيف الياس لطيف، «حسين مروّة (1910-1987) الماركسية والتراث الفلسفي العربي-الإسلامي»، الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان، تحرير مشير باسيل عون، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ص. 73-99.

[7]– يواكيم مبارك، «أضواء وتأملات»، محاضرات الندوة، 19(1965) 8-11، بيروت، ص: 166-192.

[8]– المجمع البطريركي الماروني، النصوص والتوصيات، الملفّ الثالث «الكنيسة المارونية وعالم اليوم»، النصّ 19 «الكنيسة المارونية والسياسة»، المقطع 44-45 «في بناء دولة ديمقراطية حديثة»، بكركي، 2006، ص. 721.

  • أمين الياس دكتور في التاريخ من جامعة لومان الفرنسية. هو متخصّص في تاريخ الأفكار في الفضائين العربي والمتوسطي، وأستاذ التاريخ والفلسفة في كلّية التربيّة في الجامعة اللبنانيّة، وأستاذ المواطَنية في الجامعة الأنطونيّة، وله العديد من المؤلفات باللغتين العربية والفرنسية.

Leave a Comment