ثقافة مجتمع

” لبنان الكبير” بين الأنوية الأوروبية ومنظور إبن خلدون

بول طبر*

الدولة-الأمة هي نتاج الحداثة ومرادفها الرأسمالية المتطورة. وكما اكتسحت الرأسمالية الوافدة من أوروبا المنطقة العربية، وفرضت نفسها ومصالحها على الأنشطة الإقتصادية وأنظمتها المحلية، كذلك ترافق هذا الإكتساح مع فرض الدولة-الأمة كإطار للإنتظام السياسي في تلك المنطقة.

يقوم كتاب سهيل القش، “المرآة المتكسرة: تشظِّي الكيان اللبناني”، بتبيان العلاقة بين الإستشراق السياسي (تمييزاً له عن الإستشراق العلمي) وبين نشوء لبنان “المكبَّر” واللبنانوية كإيديولوجية لهذا الكيان، ويحاول أن يظهر أن للحداثة جوانب فلسفية وسياسية واجتماعية وبالطبع إقتصادية. ويكشف في هذا السياق بأن المنظور الأنوي-الأوروبي لا يشكِّل الطريق الوحيد للوصول إلى الحداثة، ولا يجوز إعتباره النسخة الكونيِّة التي يتم بموجبها قياس المسار التاريخي لجميع البلدان غير الأوروبية. ويقوم الكاتب بإلصاق تهمة الأنوية-الأوروبية بالشيوعيين العرب (أساساً يحيل الكاتب إلى الشيوعيين اللبنانيين والمصريين) وذلك عبر تحليلاتهم للمجتمعات العربية مستخدمين المنظور الماركسي. ويشير في هذا الصدد، عكس ما يعتقده المثقفون الشيوعيون، أن مسار تطور المجتمعات العربية ليس محكوماً بالمسار الذي سلكته البلدان الأوروبية، أي أن على هذه المجتمعات أن تمر من مرحلة المجتمع الإقطاعي إلى مرحلة المجتمع البرجوازي الحديث، وصولاً إلى المجتمع الإشتراكي المنشود. وكذلك ينتقد القش طرح النهضويين العرب الذين توقعوا أن المجتمعات العربية ستنتقل حتماً إلى مرحلة الحداثة، وذلك انطلاقاً من المنظور الأنوي-الأوروبي نفسه.

وإذا كان التحقيب الماركسي الغالب في كتابات الشيوعيين العرب يعاني ليس فقط من الغائية في فهمه لمسار تطور المجتمعات (هذا ما لا يذكره الكاتب)، وإنما أيضاً من النزعة الإختزالية الإقتصادية في تحليلهم لتلك المجتمعات ولمسار تطورها من الرأسمالية الطرفية إلى الإشتراكية، أو من “نمط الإنتاج الكولونيالي” إلى “نمط الإنتاج الإشتراكي”، فإن المنظور الحداثوي الليبرالي يسْتسهل عملية الإنتقال إلى المجتمع الرأسمالي ومؤسساته الحديثة ضارباً عرض الحائط (والكلام دائماً للمؤلف) بالمعوقات البنيوية والناتجة عن تبعية المجتمعات العربية للأنظمة الرأسمالية المتطورة ولنفوذها السياسي، وكذلك العوائق المتمثلة بالتشكيلات التقليدية التي لا تزال نافذة ومؤثرة في تلك المجتمعات.

وفي سياق تقديم القش لهذا النقد المزدوج للتيار الماركسي العربي (مبيناً أيضاً تناسله من كتابات المدرسة الألتوسيرية في فرنسا) وللتيار النهضوي في العالم العربي، يقوم الكاتب أيضاً بقراءة نقدية لما كُتب عن المجتمع اللبناني مركزاً على الظاهرة “اللبنانوية” وعلى الكتابات التي تناولت بالتحليل المجتمع والسلطة في مصر وسوريا والعراق. وفي هذا المجال، يميِّز الكاتب بين ما يدعوه بـ “دولة القطب” و”دولة الزبون” مشيراً إلى أن لبنان ينتمي إلى الصنف الثاني، وعليه لا يمكن قراءة ما يدور في هذا البلد بالتركيز على العوامل الداخلية كعوامل حاسمة في فهم المجتمع اللبناني، وإنما ينبغي الإنطلاق من مصالح وصراعات “دول الأقطاب” التي تدخل في التركيبة “الجوانية” لهذا المجتمع. وبذلك تكون الحدود بين “الداخل” و”الخارج” حدوداً واهية للغاية، ويصح تشبيه المجتمع اللبناني ب”المرآة المتكسرة”.

وتفادياً للإستطالة في عرض الأفكار والطروحات المعروضة في الكتاب، سوف أعرض ما أعتبره المحاور الأساسية المتضمنة بين دفتيه:
  1. 1 يظهر الكتاب بوضوح العلاقة بين الإستشراق بنسخته الفرنسية وبين نشوء وبنية الإيديولوجيا اللبنانوية التي سوَّغت لفكرة “لبنان المكبَّر”، كما يسميه القش. وهنا يعود الكاتب إلى مرحلة “الإصلاح” الذي قامت به الكنيسة الكاثوليكية جواباً على الإنشقاق البروتستانتي عنها، وإلى تداعياته على الكنيسة المارونية ودور “جمعية نشر الإيمان الكاثوليكي” في كسب أمراء لبنان للطائفة المارونية وصولاً إلى دور الإستشراق الفرنسي الملازم لدورها الكولونيالي التوسعي في تحقيق غلبة الطائفة المارونية وحملها للمشروع اللبنانوي.
  2.  يكشف الكاتب الجذر الفلسفي للأنوية-الأوروبية بالعودة إلى كتابات هيغل، لا سيما تلك التي تناولت تاريخ الفلسفة، وفي السياق نفسه ينتقد بصورة صارمة جميع الكتابات التي تستند إلى مسار وتطور تاريخ المجتمعات الأوروبية ناعتة إياها بالمنظور الأنوي-الأوروبي.
  3.  بعد أن يقوم الكاتب بتحليل النظام الشمولي (المتمثِّل بالنظام الشيوعي الستاليني وحكم هتلر النازي) وإظهار العلاقة بين نشوئه وبين “الفرْدَنة” التي أفرزتها الحداثة، معتمداً بذلك على كتابات حنة أرندت، يبين لنا كيف يمكن استخدام هذا المفهوم أيضاً لفهم طبيعة نظام البعث في سوريا والعراق والنظام الناصري في مصر. يقيم المؤلف هذا التماثل رغم إقراره بأن سلطة البعث كانت تعتمد على العصبية الطائفية، عكس الأنظمة الشمولية التي اختبرتها أوروبا وروسيا الشيوعية حيث فرْدنة المجتمع وتذرُّره كانا حصيلة تحرير الفرد من العصبيات الأهلية وإحلال المواطنة وسيادة الشعب المتجسدة بالدولة مكان هذه العصبيات التقليدية.

بالمقارنة يشير القش موضحاً إلى أن التذرُّر والفردنة في الأنظمة الشمولية العربية كانت نتيجة لممارسة الإرهاب من قبل السلطة، ونشر الرعب في وسط المجتمع (حكم المخابرات، إلغاء الحريات الفردية والعامة، الإغتيالات السياسية، الإعتقال التعسفي والتعذيب، إلخ.).

  1.  رغم وجود العديد من الكتابات التي تؤكد على دور “الشرق” (فنيقيا، بابل، مصر الفرعونية، إلخ.) في بناء الحضارة الإغريقية الكلاسيكية، فإن الكاتب يعيد التذكير بهذه الحقيقة المثبتة في سياق نقده للأنوية-الأوروبية وتأثيرها على الكتابات العربية النهضوية والماركسية. يفيد هذا التذكير بهذه الحقيقة التاريخية بأنه يأتي في سياق نقد الكاتب القش للكتابات العربية التي لا تزال محكومة بالمنظور الأوروبي في قراءتها للمجتمعات العربية المعاصرة.
  2.  يدعو الكاتب في نهاية الكتاب إلى التركيز على فهم وتحليل ما أصاب المجتمعات العربية، ومنها لبنان، جراء دخول الغرب الرأسمالي إلى تلك المجتمعات واستتباعه لها. وعند هذه النقطة، يدعو القش القارئ لنبذ الأنوية الأوروبية في قراءته لهذا الدخول وما أنتجه من خصائص أصبحت جزءاً لا يتجزء من تكوين لبنان وباقي الدول العربية. وفي هذا السياق يدعونا الكتاب للتخلي عن سعينا للوصول إلى النموذج العربي الحديث، أكان من منظور حداثوي ليبرالي أو من منظور ماركسي. ذلك أنه في كلا الحالتين، نبقى محكومين برؤية غائية لمسار وتطور مجتمعاتنا وعلى نسق التجربة في الغرب الرأسمالي الحديث. أي أن الكاتب يدعو إلى أن نبني حداثتنا بالأدوات المحلية والموروث الخاص بمجتمعاتنا. ويضرب الكاتب مثل اليابان التي يقول أنها دخلت الحداثة دون أن تتخلى عن موروثها البوذي والعديد من تقاليدها الإجتماعية. كذلك يدعو الكاتب اليسار الماركسي للتخلي عن المنظور الطبقي لتحليل المجتمعات العربية ومنها لبنان، ونبذ النزعة الإختزالية الإقتصادية في قراءتهم لهذه المجتمعات. وهنا يسارع الكاتب ليستشهد بكتابات ميشال سورا عن سوريا الأسد ليشير إلى صلاحية استخدامه لمفاهيم إبن خلدون كالعصبية، بدلاً من مفهوم الطبقة (برجوازية وطنية، برجوازية صغيرة، إلخ.)، وكيف أن هذه المفاهيم الخلدونية تؤدي إلى فهم أدق للمجتمع السوري والعراقي واللبناني.

وعند هذه النقطة، يشير الكاتب إلى 4 مفاهيم يعتبرها مفتاحية لفهم المجتمع والسلطة في لبنان، وهي: المقاطعجي والمدبِّر والملَّة والطائفة. ويؤكد القش في هذا السياق أن الملَّة تتحول إلى طائفة عندما تحمل مشروعاً سياسياً يبغي السيطرة على السلطة. وهذا قد حدث في لبنان ضمن سياق دخول العلاقات الرأسمالية إلى جبل لبنان ومدينة بيروت في القرن التاسع عشر. أي أن الطائفية السياسية والعصبية التي تستند إليها هي نتاج الحداثة بنسختها اللبنانية. في حقيقة الأمر، يرى الكاتب أن ما حدث في لبنان لا يدخل في باب الحداثة، وإنما هو كناية عن عملية “تفرْنج”.”.

ملاحظات نقدية

الكتاب قيِّم دون أدنى شك، لكنه يتضمن بين دفَّتيه كماً من المواضيع يصلح كل واحد منها أن يُكتب عنه كتاب. لنأخذ مثلاً الإستشراق وما نتج عنه من ممارسات سياسية وغيرها، وارتباط كل ذلك بنشوء لبنان كوطن، يستحق هذا الموضوع تأليف كتاب خاص لمناقشته وعرضه من جوانبه المختلفة. وكذلك بالنسبة إلى موضوع نشوء الدولة في سورية والعراق ومصر، والصفة الشمولية لتلك الدول. أما بالنسبة إلى نقده الرشيق للكتابات الماركسية العربية، فإنني أجد هنا لا بد من تسجيل المزيد من الملاحظات النقدية: ليس صحيحاً أن جميع الماركسيين العرب قد اعتمدوا في تحليلاتهم على المنظور الطبقي الصرف والمنهح الإقتصادي الإختزالي. أذكر هنا على سبيل المثال كتاب وضاح شرارة “أصول لبنان الطائفي” وكتابات حنا بطاطو عن سوريا والعراق وبعض كتابات فواز طرابلسي إلى حد ما. كذلك إن الإقرار بأهمية العلاقات والولاءات الأهلية (الطائفة والعشيرة والعائلة الممتدة، إلخ) في تحليل المجتمعات العربية، لا يعني ولا للحظة تغييب التحولات الرأسمالية والمصالح الفئوية والطبقية الناتجة عنها، كما يوحي بذلك القش في تحليله للمجتمع اللبناني والسوري والعراقي. وإذا اخترنا الحالة اللبنانية، فإننا نجد أنه لو لم يتم تحويل التركيب الطبقي داخل الطائفة المارونية (وهذا الأمر ليس صدفة، وإنما يعود إلى تداخل تقسيم العمل في النظام المقاطعجي مع التمايز على أساس الملل) بحكم غزو العلاقات الرأسمالية الوافدة من فرنسا وإنكلترا أساساً وضربها لأسس النظام المقاطعجي في جبل لبنان، لما تمكنت الكنيسة من خلق العصبية الطائفية التي وحدت الموارنة وراء مشروع المتصرفية وصولاً إلى بلورة الأيديولوجيا اللبنانيوية ونشوء لبنان الكبير.

ويبقى السؤال مطروحاً عن تداخل لا بل تمفصل هذه العلاقات والمصالح المترتبة عليها وعلاقة التعيين التي تنْتظمها. فما معنى أن البنية الإقتصادية بالمعنى الماركسي للكلمة، هي التي تحدد في التحليل الأخير البنى الفوقية للمجتمع (الدولة والسياسة والثقافة، إلخ)؟ وهل يمكن للبنية السياسية والإجتماعية أن تمتلك هذه القدرة التعيينية بحكم موازين القوى داخل التشكيلة الإجتماعية بمجملها؟

أنا من الذين يميلون لتبني الخيار الأخير بناء على المفاهيم التي تقدمها كتابات بيار بورديو في هذا المجال (مفهوم الحقل والرأسمال الإقتصادي والإجتماعي والثقافي والرمزي، إلخ.). إن هذه المفاهيم تمكِّن الباحث من تعيين وتحليل جميع العلاقات والحقول والممارسات المترتبة عليها، وأن تلحظ التحول في قدرة كل من هذه الرساميل (وما يتفرع عنها من حقول أخرى) على تحديد التوجه العام لباقي الرساميل وحقولها الخاصة، وذلك وفق موازين القوى بين مختلف الحقول وتثبيتها عبر مؤسسات الدولة. إن هذه الملاحظة تدخلنا حتماً بنقاش أوسع لا تتسع هذه المراجعة لكتاب سهيل القش للقيام بها.

*الدكتور بول طبر.. استاذ متقاعد في علم الاجتماع والانثروبولوجيا. عمل في الجامعة الامريكية اللبنانية في لبنان، وكان مديراً لمعهد دراسات الهجرة فيها. حالياً باحث ملحق في جامعة غرب سيدني.

Leave a Comment