ثقافة

لا ديمقراطية من دون ديمقراطيين

كمال اللقيس

قلبت بنات أفكاري بحثًا عن عنوان لمقالي فلم أعثر على أفضل من هذا العنوان الذي اقدمت على استعارته من مقال للأستاذ كريم مروة منشور في صحفية النهار اللبنانية تاريخ 16 كانون الثاني 2001، وإذا كانت فعلتي هذه تندرج تحت مسمى “اداء غير ديمقراطي” أو  تصنف في باب “القرصنة” أو “الاعتداء على حق الملكية الفكرية” فإني اقدم شديد اعتذاري لمفكرنا الكبير.

وإنسجامًا مع قناعتي بصوابية هذا العنوان كنت على الدوام في نقاشاتي اللغوية أميل وادافع عن الرأي النحوي القائل بأن مصدر الاشتقاق في الكلمة هو الفعل وليس الاسم. من هنا فالأصل في الديمقراطية هو فعل ممارستها التي لا تبلغ مرادها إلا في مناخ الحرية صنو الديمقراطية وتوأمها.

ومع انحلال المجتمع المشاعي البدائي واكتشاف المحراث الخشبي وظهور الزراعة، انقسم المجتمع إلى فريقين ما لبثا أن دخلا في صراع دموي مرير كان من البديهي معه أن يتسلح الفريقان ببنية فوقية ( المؤسسة الفكرية الحقوقية) شكلت الديمقراطية جوهرها لإضفاء الشرعية والأحقية في الدفاع عن مصالح الطرفين، ولإجتذاب انصار يؤيدون هذا الفريق أو ذاك.

وفي مخاض تطور المجتمع البشري تاسست الجمعيات السياسية ( الأحزاب) الأهلية، النوادي والروابط  والنقابات القطاعية التي ضمنت جميعها انظمتها الداخلية بند الديمقراطية التي تعزز الدفاع عنها بفعل المتابعة اليومية والنضال الدؤوب عبر محطات تاريخية بارزة من مرافعة سقراط الشهيرة حول انحراف اثينا عن مبادىء الديمقراطية، مرورًا بخطب شيشرون الاربع عشرة ضد مارك انطوني الذي ابتعد عن اسس الجمهورية، وصولًا إلى مقاومة ابن رشد لمنفى عقله القسري، وتشبث غاليلو بعقلانية عقله امام محاكم التفتيش والسبحة تكر ههنا في تعداد حالات الدفاع عن فعل ممارسة الديمقراطية. لكن  الدفاع الدائم عنها يؤكد بالملموس غياب الديمقراطية او على الاصح تغييبها، وذلك لأن التجارب التاريخية المتراكمة في الزمان والمكان تظهر أن الديمقراطية هي نفخ في الفراغ من دون وجود ديمقراطيين. وبأن مدعيها هو جلادها وحفار قبرها. فكم من المجازر الجماعية ارتكبت ومن الحروب خيضت ومن الثروات نهبت بإدعاء اشاعة الديمقراطية وتثبيتها؟!  وكم من ثورة التهمت صانعيها؟! وكم من التصفيات الجسدية وعمليات الاغتيال والانقلابات اقترفت تحت شعار “استعادة الحياة الديمقراطية”.

وفي الدول ما قبل الوطنية ( السلطانية ـ الاستبدادية) حيث تسود البنى ما قبل الحداثية (قبائل وطوائف ومذاهب..) يطالعنا اصحاب السيادة والفخامة والجلالة والسمو بمعزوفة تطرب سمعنا تتجلى بالتغني بالثقافة الديمقراطية. وإذ بمثقفي السلطة  ينبرون هنا وهناك لشرح وتفصيل هذه التميمة السحرية  والوصفة العصرية لشعوب بلادنا،  التي ما زالت تعيش خارج التاريخ فكأنك تطلب من الأبكم أن يتكلم، او تحاول فك رموز لغز الكون ذلك لأن المرسل ليس ديمقراطيًا ولن يكون في بلدنا، والمتلقي ليس مثقفًا  وإن كان فليس نقديًا بل متسلحاً بوعي زائف.

هذا عن العامة من الناس، اما أن تتسلل عدوى انعدام وجود ديمقراطيين فينسحب تهميش الديمقراطية إلى جسد اليسار “اللبيس”، فهذا كرب ما بعده كرب وبلاء ما بعده بلاء، إذ كيف يكون اليسار الرافعة الموضوعية لحركة التغيير وتدب فيه شتى صنوف الأمراض؟!

اوليس عصاب الأنا المركزية رهاب الآخر المتآمر، احتكار الحقيقة، ازدواجية الخطاب، الانفصام بين الشعارات المعلنة والممارسة العملية النقيضة، إدعاء الديمقراطية وسحقها عند كل استحقاق.

اوليس هذا كله مرض اليسار العضال؟!

أما الحديث عن فرادة “الديمقراطية  اللبنانية” فذو شجون، ويكتسب على الدوام راهنية ملحة لأنها – أي الديمقراطية اللبنانية-  تعزف منفردة وخارج السياق البديهي للحياة الديمقراطية. وهذا مرده إلى مراعاة التوازنات الطائفية، وتأمين بدعتي “الميثاقية” و “الديمقراطية التوافقية” اللتين اقرهما الميثاق ـ العرف في العام 1943 وكرسهما اتفاق الطائف في العام 1989.

هذه حالتنا مع الهويات اللبنانية القاتلة بعلاقاتها ما قبل الحداثية وولاءاتها ما فوق الوطنية وعند كل استحقاق وطني تعود إلى معزوفة “التوازنات الطائفية”.

وبقطع النظر عن موقفي الضدي من الدين، فالطائفة – في اعتقادي- هي تمظهر مسخ للدين في الاجتماع. وبالتالي كيف يمكن للطائفي الذي يدعي حصرية امتلاك الحقيقة أن يكون ديمقراطيًا؟

ومع تغييب الثقافة الديمقراطية يغيب قبول الآخر المختلف كما هو لا كما نريده أن يكون ويغدو ركنا المعادلة الاجتماعية (سلطةـ مواطن) غير ديمقراطيين.

واستطرادًا، ولكن داخل السياق فمنذ عقد ونيف تنادى بعض الشباب – وأنا منهم – لتاسيس نادٍ ثقافي في محلة سكني. في اليوم المتفق عليه عقدنا اجتماعًا في بيت من يكبرنا سنًا وتجربةً لمناقشة الموضوع ولاختيار اسم للنادي، ومن بين الاسماء التي اقترحت كان اقتراحي لإسم يتضمن كلمة “ديمقراطي” فاعترض كبيرنا وقال: “الكل يدعي الديمقراطية لكن الأهم هو ممارستها، وبالتالي لا داعي لزج كلمة (ديمقراطية) في الاسم”. عُرضت الاقتراحات على التصويت ففاز اقتراحي. وفي اليوم التالي تغير اسم النادي بضغط من كبيرنا، فما كان مني الا أن مارست ديمقراطيتي وانسحبت من النادي العتيد الذي ولد ميتًا.

خلاصة القول في ما سلف عرضه هي أن الديمقراطية تنظيم سياسي اجتماعي مفتوح الأفق غايته اقامة العلاقة بين الفرد والدولة وفق مبدأي: المساواة في الحقوق والواجبات والمشاركة في صنع القرار. وبناءً عليه كان قول مونتسكيو” ” إن الشعب هو مصدر  السيادة والشرعية”. لكن هذه المعادلة لا تستقيم الا إذا كان طرفاها (سلطة ـ مواطن) ديمقراطيين. وبالتالي تكون مقاربة هذه المسألة علمية موضوعية عندما يجتهد المرء في تقويم سلوكه باتجاه ممارسة ديمقراطية  أرقى لكنها غير مكتملة.

Leave a Comment