سياسة

كي لا تذهب دماء الشهداء ومعاناة الصمود الفلسطيني هدراً

كتب محرر الشؤون العربية

الانتفاضة الفلسطينية التي شهدها شهر أيار المنصرم التي انطلقت من حي الشيخ جرّاح وامتدت إلى أحياء القدس القديمة، وشملت أنحاء الضفة الغربية والمناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948، وبلغت ذروتها في المواجهة التي شهدها قطاع غزة من الجانب الفلسطيني رداً على حملة التهويد التي تستهدف عروبة القدس، ومن الجانب الاسرائيلي عبر التدمير المنهجي الذي تعرض له قطاع غزة، وما نجم عنه من ضحايا بشرية وتدمير وخسائر مادية فادحة.. هذه الانتفاضة يجب ألا تذهب دماء شهدائها وجرحاها هدراً، ما يلقي على القوى الفلسطينية مسؤولية بالغة الأهمية لجعلها خطوة إضافية في رحلة الألف ميل نحو انتزاع الحقوق الوطنية المشروعة، بما هي إزاحة الاحتلال وتحقيق الاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس .

إذ من البديهي القول إن الانتفاضة أكدت على وحدة المجتمع الفلسطيني رغم تمزقه الجغرافي والمكاني، إذ ليس أمراً عرضياً أن تتوحد القدس والضفة الغربية والوجود الفلسطيني داخل الخط الأخضر وقطاع غزة في حمأة الصراع. وأن يتسع نطاق المواجهة ليشمل الشتات الفلسطيني في الدول العربية وفي الاميركيتين واوروبا وغيرهما.

ورغم ما رافق دخول غزة الصاروخي على خط المواجهة، وكذلك اعتماد خيار العمل الدبلوماسي الوحيد الجانب من جدل، لكن القوى السياسية الفلسطينية الرئيسية مطالبة على ضوء المعركة وضرورة إعادة إعمار قطاع غزة، بإعادة صوغ برنامج عمل موحد يجمع بين الدبلوماسية والسياسات الناعمة، وأشكال النضال الجماهيري من تظاهرات واحتجاجات وصولاً إلى اطلاق الصواريخ. وهو ما يتطلب بحده الأدنى تفعيل ما سبق واتفق عليه الأمناء العامون للفصائل .ومعاودة الحوار الهادف لإنتاج سياسة موحدة ذات دينامية عالية، لا سيما وأن تشكيل الحكومة الاسرائيلية لا يعني تغييراً في سياسات الاستيطان والتهويد والقمع المعتمدة.  

ومما لاشك فيه أن الفلسطينيين أفشلوا عبر دمائهم وجراحهم جملة مراهنات كانت القيادة اليمينية في اسرائيل تعوِّل عليها في تحقيق المزيد من خطواتها العنصرية. فقد جاءت مشاركة فلسطينيي العام 1948 لتعلن فشل “الأسرلة” وجهود عقود من محاولات تطبيقها في هذا الاطار من جهة، ومن جهة ثانية وفي الوقت نفسه أفشلوا سياسة الإخضاع والتمييز العنصري والاستيطان والتهويد في القدس والضفة والحصار المفروض على القطاع بهدف إركاعه وإخراجه من دائرة الصراع، وهو ما أعلنه نتنياهو مراراً وتكرراً ويتابعه بينيت، من أجل  بقاء فلسطين ممزقة بالاحتلال وقوانينه وقواته ولكل منها أحكامها الخاصة.  

 والثابت أن المدن الاسرائيلية وفي مقدمها تل أبيب تلقت ضربات موجعة، وعانت من خسائر اقتصادية ومادية ونفسية فادحة بفعل مناخات الحرب، مع كل ما يرافقها من اجراءات أمنية من خلال القوة العسكرية الفلسطينية دون حد أدنى من الإسناد العربي وغير العربي ( ايراني وتركي ). ولم ينجح التفوق التكنولوجي لآلة حرب دولة الاحتلال في تأمين الحماية للسكان المستوطنين وعجزت “القبة الحديدية” عن درء الصواريخ المنهمرة ما أدى إلى شل الحياة طوال أيام المواجهة.

رغم وقف اطلاق النار على جبهة غزة بفعل جهود اميركية مصرية قطرية، لا يبدو في الأفق حتى الآن أي تقدم سياسي جوهري لجهة الاعتراف الاسرائيلي بالحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، ما يفتح على ضرورة البحث عن العطب في الموقفين الفلسطيني والعربي . إذ يتمثل الأول في العجز عن جني ثمار ما تحقق بالدم والمعاناة، وهو ما يطرح على نحو مؤكد مسألة الانقسام من جانب قيادتي حماس وفتح وعجزهما معاً عن صياغة برنامج عمل مشترك وسط إشكالية وضع السلطة وبنية منظمة التحرير الفلسطينية. وهو ما يثير مسألة القصور عن تجديد مشروع وقيادة الحركة الوطنية الفلسطينية.من خلال صناديق الاقتراع كفعل مقاوم للاحتلال.  أما على الصعيد العربي فتبدو الدول العربية منفردة ومعها الجامعة العربية مشدودة إلى قضاياها الداخلية والذاتية عن إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية ومركزيتها. وعليه، بدا الموقف العربي بالغ الهزال وعديم الفاعلية في غضون المواجهة، وينسحب العجز عن الاسناد على الدول فرادى، ومؤسسة الجامعة العربية على حد سواء. ما يفرض النقاش في عوامل الضعف في هذا الموقف، وكذلك في آليات استعادة دور الاحتضان للنضال الفلسسطيني سياسياً ودبلوماسياً على الأقل، باعتبار أن المشاركة العسكرية لا محل لها في قواميس الأنظمة. 

رغم نقاط الضعف هذه، بدا الداخل الاسرائيلي مواجهاً بالمأزق الذي طالما هرب من التوقف عنده، ليس على صعيد تشكيل الحكومة التي حازت الثقة بصوت واحد ما يجعلها هشة وقابلة للسقوط، رغم ثبات التوجهات اليمينية الكاسحة داخل الهياكل السياسية والمجتمع الاسرائيلي، لكن الأهم هو ما يواجهه حول الفلسفة الأصلية التي نهض عليها الكيان أساساً. إذ لم يعد متيسراً مواصلة الحديث عن أرض بلا شعب أو ارض أكثر وسكان أقل وتسريع الاستيطان، وتذويب فلسطينيي العام 1948 في الكيان كأقلية تتعرض لشكل من أشكال العنصرية القانونية، والثبات على إنكار وجود شعب فلسطيني الذي ثبت اصراره بعد 73 عاما على النكبة وإقامة الكيان العنصري على انتزاع حقوقه السياسية بقيام دولته المستقلة وعودة اللاجئين وقيام عاصمته في القدس المحتلة.

لقد أبرزت الانتفاضة  تحولات مهمة على الصعيد العالمي، تتمثل في تحطيم التظاهرات التي شهدتها عواصم ومدن العالم “تابو” المقارنة بين اسرائيل و النظام السابق في جنوب أفريقيا العنصرية. فقد شهدت هذه المدن تهاوي تهمة معاداة السامية التي كانت دوماً جاهزة لكل من يتصدى بالنقد للسياسة الاسرائيلية، التي ضنت أنها باتت تملك ما يشبه “العصمة” عن النقد والمساءلة الفكرية والسياسية والاخلاقية. وهو ما من شأنه القضاء على محاولة ترامب وإدارته السابقة في دمجها في النظامين الاقليمي والعالمي، إذ عادت اسرائيل رغم حالات التطبيع العربية لتظهر دولة عنصرية واحتلال مكشوف وعارٍ أمام الرأي العام.  فالولايات المتحدة التي طالما ظهرت كحصن منيع للوبي الصهيوني وخزان الدعم السياسي والمادي اللامحدود للكيان الاستيطاني وحروبه المتواصلة، شهدت مواقف متقدمة داخل الحزب الديموقراطي وعلى مستوى الرأى العام والصحافة التي باتت أكثر تجرؤاً على المس بـ” المحرمات السابقة”، بعد أن تراجع اعتبار دعم ومساندة اسرائيل وسياسات الاستيطان من المسلمات، بل المقدسات.

وقد تجرأت المزيد من المنظمات على رفع صوتها داخل الكيان الاسرائيلي ضد سياسات التمييز العنصري الاسرائيلية، ما يؤشر إلى اقتراب عودة الروح إلى معارضة الصهيونية اليمينية داخلياً بعد غيبوبة طويلة الأمد. ولعل المواقف التي تصدرها منظمة بتسيلم الإسرائيلية، وأبرزها تقريرها الصادر في كانون الثاني/ يناير والذي تحدث عن “نظام تفوق يهودي من نهر الأردن إلى البحر المتوسط: نظام الفصل العنصري”. كذلك اتهمت منظمة هيومن رايتس في نيسان/ أبريل، إسرائيل بارتكاب “جرائم تمييز عنصري” بعد مرحلة ظل فيه أنصار إسرائيل يرفضون المقارنة بينها وبين جنوب أفريقيا، ويعتبرون مثل هذه المواقف معاداة للسامية، لأنها تشير إلى أن الدولة اليهودية هي عبارة عن مشروع عنصري. ولا ننسى مطالبة المزيد من المنظمات والهيئات والشخصيات باعتبار ما تقدم عليه اسرائيل من هجمات بمثابة جرائم حرب ما يهددها بالمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية.

إن الإفادة من المناخ الشعبي العربي والدولي لإعادة وضع الفكر الصهيوني في موقعه الطبيعي بما هو نظام ونسق تمييز عنصري، واستعادة إحياء ما سبق وتخلت عنه الأمم المتحدة من اعتبار الصهيونية شكل من أشكال العنصرية، يظل مرهوناً بالموقف الفلسطيني المطالب وبإلحاح العودة إلى البحث الجدي والحقيقي بعيداً عن السياسات الفصائلية في آلية التعامل مع المنعطف الذي تجتازه القضية في هذا المفصل. ولعل المدخل الطبيعي يتمثل في استكمال ما سبق وشرعت فيه القيادة الفلسطينية بعموم فصائلها من بحث جدي في ترتيب الوضع الداخلي بين قوى ومكونات المجتمع الفلسطيني، التي لا يمكن أن تختصر بفتح وحماس، وأن تشمل جميع قوى المجتمع الفلسطيني الحية في أي من أماكن الانتشار، وصياغة برنامج تحرر وطني يعمل على تجميع هذه الطاقات ويرسم أدوارها في عملية إدارة الصراع المفتوحة والطويلة الأمد، توصلاً لإرغام الاحتلال ومستوطنيه على الخروج من الاراضي المحتلة عام 1967 والاعتراف بالقدس عاصمة لفلسطين، وبالحقوق الوطنية الفلسطينية بما فيها داخل الخط الأخضر. وهو مسار طويل ومتعرج خلاف ما يتصوره البعض من قرب المواعيد للعودة وبناء الدولة وغيرها من حقوق… عدا ذلك مرشح إلى تبديد دماء الشهداء والجرحى ومعاناة الأسرى وصمود الشعب الفلسطيني في الداخل وفي ديار الشتات على حد سواء.

Leave a Comment