مجتمع

كورونا فيروس و”الجيش الأبيض”: أكلاف وحصيلة المواجهة..

كتب الدكتور ابراهيم فرج

في المعارك العسكرية الطاحنة يضعُ القادة في حساباتهم إمكانية تعويض الخسائر البشريّة على أرضِ الصراع، بحشدِ المزيد من القوات عن طريق تحريك بعضها من منطقة بعيدة إلى الميدان الملتهب, ناهيكَ عن ملاحقة الفارين من الخدمة وخفض سن ومدة التدريب على حملِ السلاح (دورة تدريبية لبضعة أيام)…  أمّا خلال  المعركة ضد وباء كورونا المتفشي فتحتلُ  مهمّة الحفاظ على “الجيش الأبيض” المقاتل ضد عدوّ غير مرئي وغير مسموع، (لا إمكانيّة لتقليص الدورة التدريبية التي يلزمها سنوات!) أهميّة إستثنائيّة وتتصدّر كل الأولويات…

كورونا فيروس، شأنه شأن أي وباء، يطال بتداعياتِه المواقع القريبة والبعيدة، ويشمل كلّ الأصعدة، وهو حتماً سيترك بصمته وأثره البالغ على من “يشتبك” معه وجهاً لوجه: موتاً أو مضاعفات صحيّة و/ أو نفسيّة….!

أصحاب هذا اللباس والمهنة، وعلى اختلاف أدوارهم ومواقعهم ومسؤولياتهم، يتحملون، وعلى عاتقهم، تقع تبعات المواجهة المباشرة: عملاً مضنياً، تعباً ثقيلاً وتدهوراً في صحتهم ونفسيتهم…

المواجهة تحصلُ تحت الضغطِ العصبي” stress” المزمن والمتصاعد، والذي يتعمّق ويشّتد كلّما زادت عدوانية الوباء ووسِعَ مدار انتشاره وطالَت مدّته….

يخضعُ الطبيب منذ اللحظةِ الأولى لتداعيات النداء السريع:  تتعدّل  برامجه ويتغيّر نمط حياته، مواعيده، مكان عمله، طريقة ونوعية لباسه، وجوه العاملين معه، فينقطع بلحظةٍ عن جميع عاداتِه وهواياتهِ وأفراد عائلتِه. يتعرضُ كل صباح لضغطٍ عصبي هائل منذُ لحظة دخوله وتبديل ملابسه وتجهيز حمايته: نهاره طويل مُتّصلّ بليلِهِ، مؤلم وحزين (ألم، وفيّات وتدهور حالات مرضيّة..) ومع ذلك عليه البقاء مشدوداً، يقظاً، يحيط بكل ما حوله ومَن حوله، مسؤوليته التصرّف بشكل صحيح وإعطاء التعليمات الدقيقة والفعّالة…

علاماتُ الضغط العصبي المُزمن والمُتواصل تبدأ بالظهور: إرتياب، قلق، عدم استقرار، تغيير في الطباع، عدم ارتياح عام، تملّمل وعدم إقتناع بالنتائج والجهود، لا مبالاة، عدم المبادرة، شعور بالذنب والفشل، فقدان الرغبة على تنفيذ عملٍ ما من أولَه إلى آخرِه، إحباط وقنوط… عوارضٌ تدريجية مُبهمة تبدأ بعدمِ القدرة على النوم مع ألمٍ غير مبرّر في المعدة، وعدم الإكتراث للراحة حتى في أيام الإستراحة…!! 

يزدادُ العمل… يتقلّصُ الحوار مع الزملاء وتتغير العلاقة مع المرضى (كلّهم سواسية بادئ الأمر..؟! ) ثم ينتقل إلى تحمّل وِزرَ فرزهم (premiére triage)، بعد تزايد أعدادهم وعدم القدرة على استيعابهم،  معتمداً على  معاييّر درجة الخطورة والعمر والعدد، وصولاً إلى قرار إدخالهم المستشفى ثمّ إخضاعهم  لِفرزٍ آخر، أقسى وأشد،  (deuxiéme triage)         لجهةِ وضعِهم على أجهزةِ التنفس أو حجبهم عنها.. الخوفُ والقلق من الإصابة الذاتية، ومن تحميله مسؤولية نشر الوباء داخل العائلة والأصحاب والمحيط (وكأنه  (spreader، يدفعون بالطبيب نحو العزلة الذاتيّة (هو محجور دائماً!) فيميل نحو تشديدِ الإنعزال الإجتماعي إلى حد الإنطواء مع مسحةٍ كبيرةٍ من الحزن المتعاظِم  الظاهر والدفين.. الكادر الصحي يبقى وحيدا وقتَ راحتِه، لا يبدو منسجماً مع عائلته ومع محيطهِ (خوفه وقلقه!) وهو يعيش بين نظرتين متناقضتين :

 هو بطلٌ في مهمّتِه وأدائِه من جهة. وهو ناشرٌ محتمل، أو شبه أكيد، للوباء بين أهلهِ ومحبيه وأصدقائهِ من جهةٍ أخرى ….

قد يصلُ الطبيب بحالته النفسية، إثناء عمله، إلى كل ما سبق ذكره، وهو  ما باتَ يُعرف بمتلازمة الاحتراق النفسي: (Sindrome  burn – out…)

عوامل تساهم في عدم الإصابة بالمتلازمة أو تخفيفها : 

إدارة صادقة وعلميّة تضع الجسم الطبي في صورة الواقع الحقيقي، داخل وخارج المستشفى، دون تضخيم أو إستخفاف.. تحديد مصادر المعلومات (عدد المصابين والمتوفين والمتعافين..) المعترف بها، وتعزيز الثقة المتبادلة معها…. نقل شهادات وأراء للمواطنين تُمجّد الفريق الطبي، وتعترف بدورهِ الشجاع وتُقدّر له تضحياتِه (دور الإعلام) ونشر فيديوهات دعم مع أغانٍ وطنيّة تضعه في مصافِ القادة الكبار، وتُعبّر بحزنٍ وفخر عن كلّ من سقطَ مِن صفوفهِ وغادرَ الحياة…. إرسال وجبات طعام مميّزة، من مواطنين عادييّن أو مطاعم، مدفوعة الثمن عربون محبةٍ وتقدير.. العمل كفريق متكامل متضامنil buddy system)) مما يُشعرّ الطبيب بالأمان كون زميله على مقربةٍ منه وهو مسؤولٌ عن أمنِه الصحي وسلامتِه وبالعكس.. تزويد القسُم بهاتف مع شاشةٍ تسمحُ له التواصل مع عائلتِه أو مع زملاءٍ له في مكان عملهم (Skype, Webb) وكذلك تتيح له التوجه إلى المواطنين مباشرةً لشرحِ حقيقة ما يدور في داخلِ الأقسام المُغلقة وإعطاء النصائح والتوجهات للخارج… تناول الأطعمة الصحيّة الساخنة والسوائل والإبتعاد عن المنبّهات والنيكوتين، والقيام ببعض التمارين الجسديّة وقتَ الراحة إذا أمكن… تكرار الحديثُ عن مرضى ومصابين خطرين غادروا مُعافين إلى بيوتِهم، والتخفيف من الحُزن على مرضى غادرونا إلى السماء.. تعزيزُ الحوار مع النفس والإقتناع أنّ لا شيئاً (عادات وسلوكيات…) بعد الوباء سيعود إلى ما قبلهِ…. جميعها عواملٌ تحمي الجسم الطبي وتعزّز من قدرتِه وفعاليتِه وتُجنّبه الوقوعِ في فخِ آلإنهيار الجسدي والنفسي، وعدم الوصول إلى طلب الإستغاثة والمساعدة النفسيّة، وبالتالي إخراج جزء منه خارجَ حلبة وميدان المواجهة وبالتالي تعطيل قدراته… 

لبنانيّاً الوضع أكثر تعقيداً بوجود سلّطة تحكُم وتتنصّل من المسؤوليّة، وتُمارس نزواتها وهي مستقيلة :

 إمكانية إنزلاق الطبيب اللبناني إلى دائرة “متلازمة الإحتراق  النفسي” مرتفعة، وهي  تعود إلى كلّ ما سبق ذكره، إضافةً إلى تقاعسِ السلّطة عن القيام بما عليها من واجبات تجاه تعزيز صموده وتمكين ثباته… الطبيب هو غالباً ربُّ أسرة مسؤول عن عائلته الكبيرة (الأهل والإخوة.)  ولذلك هو يرزح تحت ضغوط إضافيّة ناتجة عن سرقةِ ونهب حقوقه السابقة، وعدم دفعِ مستحقاته الحاليّة، وعن سنوات خلت ، فتتراكم عليه الأعباء الباهظة من دفع أتعاب العاملين معه و إيجارات (منزله وعيادته) وفواتير رسميّة (كهرباء وهاتف…) وأقساط مدرسية و/أو جامعية لأبنائِهِ ناهيكَ عن إنهيار العملة الوطنيّة وتبخرّ مدخّراته في البنوك مما يجعله أكثر عرضةً من غيرهِ للوقوعِ في فخ التداعيات النفسية، أو الهروبِ من خلالِ  باب الهجرة إلى أي بلد ممكن… ومن المُفارقة أنّ  كل بلاد العالم تستدرج بعروضها المُغرية الأطباء والممرضين، لمواجهة الوباء… أمّا في لبنان فالمنظومة الحاكمة تكاد، بسلوكِها وممارساتها، تُنظّم هجرة الطاقِم الصحيّ، بجناحيه الطبيّ والتمريضيّ، إلى خارج البلد وكأنْها موكلة بإفراغه منه بعد تهشيمهِ.. وهو ما يجعل مواجهة الجائحة متعذرة وعملية ترميم أو إعادة تأسيس الجهاز الصحي، مستقبلاً، مهمّة طويلة ومكّلفة وشاقة..

Leave a Comment