ثقافة

مروج المستقبل

قصة قصيرة

بقلم عائدة خداج أبي فراج

 

بدأ الليل يزحف ببطء عجوز أنهكه ثقل السنين. اختفى وجه النهار بعدما غطست شمسه في زرقة مياه البحر لتستحم وتستفيق مبشرة مع انبلاج فجر جديد في المقلب الآخر للأفق.

أحس نزار أن العالم يرمي بثقله فوق جسده السجين داخل حدوده الزائلة. أخذ يتلمس يده حيث اخترقتها طلقة رصاص في إحدى التظاهرات الحاشدة في العاصمة بيروت التي سقط فيها عدد من الشهداء برصاص من اوكل أليهم حماية الوطن والمواطن، وأصيب من رفاقه العديد. تظاهرة تصدرت عناوين الصحف المحلية منها والأجنبية في حينه، نظرا للحشود الهائلة المشاركة والمنددة وتطالب بتحرير بالاستعمار وعملائه، والاحتلال الصهيوني لفلسطين والدعوة لتحريرها من العدو الغاشم. شعر ان الذاكرة بدأت ترش الملح فوق الجراح، فحاول أقفال نوافذها المطلة على الماضي الذي لا جدوى من نبشه لأن الحاضر أشد ألماً وظلمة منه.

أحس نزار أنه يدور في دوامة لا يستطيع سبر خواتيمها. فقصته هي قصة صدام بين الوعي واللاوعي، التذكر والنسيان، الحاضر والماضي، الحق والباطل، والصدق والبهتان.

فهو يعيش وسط المتناقضات والمتغيرات، فلا الرؤية واضحة، ولا المستقبل يمكن استشرافه. أخذ يجول مع الافكار التي تتصادم في باله، فأعادت الى الذاكرة كلاماً نسي الآن اسم قائله من المفكرين بعدما أصبحت ذاكرته تخلع عنها الأسماء لكثرة ما احتشد فيها من افكار وأحداث وذكريات، كلاماً يقول: “ان الرجعيين لا يستطيعون عرقلة أو اعاقة مسار التاريخ، بل ان أقصى ما يمكنهم فعله هو تأخيره، لأن التاريخ هو دوماً الى الأمام”. ثم أخذ يطرح السؤال على نفسه ويقول: “هل فعلاً أن مسار التاريخ هو دوماً الى الأمام؟ والذي يحدث اليوم في عالمنا العربي أين هو من التاريخ والجغرافيا؟”

أحتدمت الافكار مجدداً في رأس نزار، وحضره كلام للمفكر عينه يقول:

إ”ان التقدم التاريخي منوط بأصحاب الضمائر والادمغة النيرة الخارقة للحجب……الذين ربطوا أنفسهم بمقدمة التاريخ، يجرونه فوق العقبات إلى أمام، إلى مروج المستقبل.”

ومجدداً قال لنفسه: “اين هم أصحاب الضمائر والأدمغة النيرة، واين هي مروج المستقبل التي تسلقتها مياه البحار الشديدة الملوحة، فأصابها الجدب والجفاف؟”

عاد يتحسس جرحه القديم الذي ظن انه قد اندمل منذ حين، فوجد أن الجرح أعمق من أن يبرأ منه، وأنه ما زال يشعر بحرارة الدم النازف في العمق، عمقه الإنساني والوجودي.

تناول علبة السجائر عن المنضدة التي أثقلها تراكم الغبار وأعقاب السجائر، فوقع نظره على صورة قديمة كانت تتربع وسط المنضدة في غرفة الجلوس التي كانت تشهد اجتماعات حماسية ساخنة يدور فيها النقاش حول العلمانية، واليسار، والتغيير السلمي او الثوري المسلح، ومقولات اخرى كثيرة حول حرية الشعوب وحركات التحرر الوطني، والمساواة والعدالة. صورة كان قد نسي وجودها بعدما اعتاد على وجودها منذ زمن. صورة ضمته هو و “وشلة المشاكسين” كما كان يطلق عليهم، يتوسطها الرفيق خليل، المشاكس الاكبر، الدمث الخلق، الخفيف الظل والسريع البديهة، الذي كان ينهي كل جلسة بحكمته التهكمية:

“يبدأ بنا الأمر بالنضال لتغيير العالم، وينتهي بنا الامر بتغيير الرأس، رأسنا نحن، لكي يشبه هذا العالم.”

جال نظره بين الوجوه، وجوه رفاق الأمس، بخيبة وأسى. لقد أصابت نبوءة خليل وحكمته التهكمية الجميع. زاغت عيناه: وهو يتنقل من وجه لآخر. فهذا قد تحول الى أصولي رجعي بعدما ارتد الى الطائفة، وذاك الى شيخ يعتمر العمامة، متمسكاً بحبال الأيمان الديني بعدما خانته قيادات الثورات الكبرى ويئس من جدوى النضال.

أما خليل رأس الحربة فقد تحول من مناضل مناهض للرأسمالية يجاهد من أجل تحرير شعوب الأرض قاطبة الى سياسي انتهازي بارز، يعرف من اين تؤكل الكتف ويناضل من أجل كسب المال وعقد الصفقات. أما سليم القابع في الجهة اليسرى من الصورة، فقد أصابه اليأس، يعيش على المهدئات، يدافع عن الاستعمار ويردد على الدوام: ” نحن شعوب دهماء. يجب ان تحكمنا جزمة المستعمر الحضارية”. ثم توقف نزار أمام رسمه هو المحشور في أسفل الصورة وتساءل: “أين أنا من حكمة خليل؟”

عاد يتلمس الندبة التي خلفتها الرصاصة في يده اليسرى وتذكر من سقط من الرفاق في تلك التظاهرة دفاعاً عن القضية. تلامحت أمامه الوجوه، وصمّت أذناه الهتافات الواعدة بالتغيير، والعدالة، وحرية الرأي، والمعتقد. أمعن النظر في وجهه الظاهر في الصورة وقال لنفسه:

” انا الوحيد الذي لم يغير رأسه كي يشبه هذا العالم “.

أخذ يقلب الصحف والمجلات المكدسة فوق الطاولات والارائك. أعاد قراءة بعضاً من المقالات المذيلة باسمه ليتأكد انه لم يتغير، بل جلَّ ما فعله هو تدوير بعض الزوايا الحادة كي تتلاءم قليلاً. المستجدات الوطنية والقومية والعالمية مسحت الذكريات الغبار عن حياته النضالية السابقة، فانكشفت أمام حياته الحالية المتعثرة والمنطوية على الذات. انتفض واقفاً ينفض عنه ما تراكم من غبار السنين. نظر إلى طاولة تجاور أريكة اعتاد أن يستلقي عليها، فوجدها مكدسة بأبحاث طلابه في الجامعة حول موضوعات فكرية تشعبت مضامينها. قرر أن يباشر تصحيحها بعدما تركها مركونة على الطاولة منسية منذ أسابيع. أخذ يفتش بين الابحاث عن عقل صالح للحراثة لم تغسله العصبيات، عن تربة صالحة يلقي فيها بذاره المعرفي التنويري المنفتح كي يعيد للكلمة وقعها وللثقافة فعلها وللفكر وهجه. فاذا كان جيله قد أصابه الاحباط فانه سيحاول جر عربة التاريخ بدم جديد، وبطلابه المستنيرين “فوق العقبات، الى أمام، الى مروج المستقبل”. نظر مجدداً الى صورة “شلة المشاكسين”، وقرر الا يبقى رسمه محشوراً في اسفلها، بل سيتوسطها مع ثلة من طلابه في الاتي القريب.

جمع أبحاث طلابه التي استشرف فيها روح التقدم بالتاريخ ليبدأ من جديد، وكي لا تبقى حياته محض كلمات وأفكار مصادفات غارت في أعماق وعيه تقول انه يجب صوغ حاضرنا عن طريق قراءة الماضي بعيون نقدية، لأن العودة إلى الماضي لبعثه من جديد على أنه الخلاص يحمل عناصر فنائه في داخله. أخذ يتفحص الأوراق بحثاً عن إشارات ضوئية تبعث الأمل في صوابية سيرورة التاريخ.

لم ينم دكتور نزار تلك الليلة، بقي يساهر البحث تلو الآخر حتى شق الفجر رحم السماء ليوقظ الطبيعة وما عليها، مشكلا بشارة أمل لبداية واعدة.

أعد لنفسه كوباً من الشاي وتناول قطعاً من البسكويت. ثم نظر الى نفسه في المرآة، فأذهله ما رأى. شعر وكأنه يرى وجهه للمرة الاولى بعد غياب طويل. لقد خط الزمن سطوره فوق وجه شاحب تغطيه لحية تفضح سنين عمره بعدما غزاها الشيب. أدرك ان ما تبقى له من سنوات التعليم الجامعي لا يتعدى اصابع اليد الواحدة عليه ان ينهيها كما بدأها بحماس قدامى فلاسفة الاغريق الباحثين عن الحقيقة، والذين همسوا في اذن أثينا كي تستفيق من سبات عصور الظلمة. عليه أن يوقظ عقول طلابه كما فعل هؤلاء الفلاسفة — الحكماء. شعر انه انسان جديد يصحو من غفلة قد طالت. يجب ان يستبدل الصورة التي بهتت وتاهت معالمها بصورة جديدة له ولنخبة من طلابه يؤمنون مثله “ان على المثقف ان يكون كالمخل ينحني كي يرفع”، كما قال رئيف خوري. سيستبدل رفاق الامس الذين خذلوا مبادئهم وعادوا إلى ماض سحيق مظلم لا يسكنه سوى الخلد الأعمى الذي يحفر قبره بيديه، سيستبدلهم بوجوه تنظر إلى الأمام الواعد بالتغيير وليس إلى الخلف..

جاء موعد ذهابه الى الجامعة.. استحم وتهندم. تناول قارورة العطر على غير عادته ليتنسم رذاذ عطرها. شعر انه يخرج من نفق تلك الدوامة إلى فسحة الضوء. وما إن ولج بوابة الجامعة حتى بدأ يقول لنفسه:

هذا هو الحقل الذي سأنثر فيه بذار الوعي والمعرفة كي تتفتح العقول وتتحرر من شرنقة الذات الخانقة للاعتراف بالآخر والحوار معه. أصغى إلى هذا الهمس: “الاعتراف بالآخر”، وقرر ان يكون عنوان محاضرته لهذا اليوم. وهو في طريقه إلى غرفة المحاضرات، سلك أحد ممرات حديقة الجامعة التي تتشابك فيها النباتات والازهار على اختلاف الوانها وفصائلها، فحضرته فلسفة وصوفية كل من سبينوزا وآينشتاين الذي علمته الفيزياء وحدة هذا الكون وتناغمه. لمح زميلته قادمة نحوه بعدما انهت حصتها في الصف الذي ينوي دخوله. أحس وكأنه يراها لأول مرة. كانت جميلة كالصمت يحكي دون كلام. أيقظت فيه شعوراً غريباً كان قد دفنه منذ زمن. حيّاها بحرارة، فاستغربت واستدارت نحوه باستهجان، فهو لم يكن يشعر بوجودها من قبل. لقد أحس بأنوثتها وبالحاجة إلى زوجة تؤنس وحدته بعدما كان قد أسقط الفكرة من قاموسه، ظناً منه ان الزوجة والاولاد يشكلون حجر عثرة في طريق النضال من اجل القضايا الكبرى. دخل غرفة المحاضرات، حيّا طلابه تحية مفعمة بالتفاؤل والأمل. توجه نحو اللوح المثبت إلى احدى الجدران وخط عليه قولاً لآينشتاين: “الأنا هي الجحيم، والآخر هو الكلمة التي تتمم معنى الجملة والغاية التي تبرر وجود الفرد.”

سأل طلابه أن يحددوا مواصفات الآخر الذي تطل نوافذ عقولهم عليه. فاختلفت الإجابات بين قبول الآخر أو رفضه. نظر ملياً في عيون طلابه المتحمسين للحوار وقبول الآخر، فتخيل نفسه يتوسط صورة فتيات وشبان تخطوا حواجز العصبيات والطوائف والأعراق والقوميات والاثنيات ورواسب الماضي المقيتة، يسلكون طريقاً يشكل فيه الآخر المستنير رفيق الدرب لدخول “مروج المستقبل “في إطار انساني كوني شامل. ابتسم في سره. فتح نافذة الصف فرأى السماء زرقاء صافية تمتد نحو الافق، وموج البحر يرفرف أبيض كأجنحة الحمام، يعد بمدٍ قادمٍ لا محالة.

Leave a Comment