سياسة مجتمع

قرار الغرب وإسرائيل تغيير خريطة الشرق الأوسط: عودة للبلطجة وسياسة الاساطيل والبوارج الحربية

زهير هواري

بيروت 27 تشرين الاول 2023 ـ بيروت الحرية

لم يحدث قبلاً أن تقاطر مثل هذا العدد من الرؤساء والوزراء والمسؤولين الغربيين نحو دولة أو عاصمة ما في العالم، بما في ذلك العاصمة الأوكرانية كييف مع بداية الهجوم الروسي عليها، كما فعلوا تجاه تل ابيب والكيان الإسرائيلي بعد السابع من تشرين الأول / اكتوبر. إذا أردنا أن نضع هؤلاء على سلم الأهمية يحظى الرئيس جو بايدن بالمقام الأبرز كونه الأكثر وزناً وقوة وتأثيراً، ثم الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، ومن بعدهما رؤساء الوزراء الكندي والروماني والبريطاني ريشي سوناك والمستشار الألماني أولاف شولتز والإيطالي والروماني و… لدى التدقيق يتبين أن بايدن أوفد قبله وبعده كلاً من وزيري خارجيته ودفاعه. آخرون اصطحبوا وزراءهم في الزيارة الطارئة والمستعجلة. لكن بايدن مثلاً استبق الجميع بإرسال حاملة طائرة أولى ثم أتبعها بثانية، مضافاً إليها شحنات متلاحقة من الأسلحة والأعتدة، قبل أن يطلب من مسؤوليه المدنيين والخبراء العسكريين أن يتوجهوا إلى تل ابيب. أكثر من ذلك تولت الولايات المتحدة مسؤولية قيادة العملية العسكرية التي تهدف إلى إعادة الاعتبار للكيان الإسرائيلي بعد الهزيمة التي تلقتها المؤسسة السياسية والعسكرية والاستخباراتية في مستوطنات وثكنات غلاف غزة. وحضر بايدن ومرافقيه اجتماعات حكومة الحرب التي فرضها على نتنياهو، وساهموا في نقاش الخطط العملانية للحرب المقررة على غزة والتي تتجاوزها إلى المنطقة، والتي جرى وصفها بأنها ستغير وجه الشرق الأوسط كله. وكذلك فعل البريطاني سوناك الذي حرَّك احدى القطع البحرية، ثم حضر بطائرة نقل عسكرية وهبط  في  مطار تل ابيب من الباب الخلفي المخصص لتحميل وإفراغ الحمولات الحربية. أصلاً كان الرئيس سوناك يتنقل بين صناديق الذخيرة والعتاد وهو في طريقه لمغادرة الطائرة أمام عدسات المصورين الصحافيين.

المواقف السياسية التي أدلى بها هؤلاء وسواهم من مسؤولي الدول الغربية كانت مكملة للمشهدية العامة التي أشرنا إليها متمثلة بالـ “حج ” إلى تل ابيب. مثلاً أعاد بايدن ما سبق وأدلى به من أقوال مأثورة عن والده من أن إسرائيل لو لم تكن موجودة لوجب أن نوجدها، وأن المرء يمكن أن يكون صهيونياً دون أن يكون يهودياً، وأن أمن إسرائيل لا يقبل الجدل لأنه من أولويات السياسة الاميركية. أما وزير خارجيته بلينكن فقد أعلمنا أنه يأتي كيهودي لأن جده كان يهودياً ومن الناجين من ِأوشفيتز. الرئيس الفرنسي الذي حول وزيرة خارجيته إلى ساعية بريد تنقل رسائل التهديد والوعيد الأميركية – الإسرائيلية لكل من السلطة الفلسطينية ولبنان والأردن وايران، لم يكتف بذلك، فقد خطا ماكرون بالوضع خطوات إلى الامام عندما اقترح تشكيل تحالف دولي على غرار التحالف الذي تشكل وقضى على دولة داعش للقضاء على حماس، باعتبار أن التوصيف الذي أطلق على الأخيرة وضعها على سوية مع سابقتها. أكثر من ذلك أبلغ الفرنسيون المسؤولين اللبنانيين أنهم إذا خيروا بين لبنان وإسرائيل فسيختارون إسرائيل. المستشار الألماني بدا وكأنه يقرأ فعل الندامة عما فعلته المانيا قبل أكثر من 80 عاماً في الهولوكوست، الذي تكرر ذكره ليس فقط في أحاديث المسؤولين الإسرائيليين بل في تصريحات الأوروبيين والاميركيين. ودون مزيد من التفاصيل يمكن القول إن أحداً من هؤلاء لم يتبرع بقول ولو كلمة عن الضحايا الفلسطينيين من نساء وأطفال وهم بعشرات الألوف، أو عن تدمير المؤسسات الصحية والاستشفائية والمساجد والكناس والمدارس والأحياء وتهجير معظم سكان القطاع نحو جنوبه، ومطاردتهم بالغارات الجوية قبل وصولهم إلى مناطق التجميع التي وجهتهم إسرائيل إليها في أماكن لجوئهم الجديدة، وحرمان الباقين أحياء من الحد الأدنى من مقومات الأمن، ومن حق الحصول على الكهرباء والماء والغذاء والدواء.

لقد تولى الحشد الغربي الذي قل وجود مثيل له في منطقتنا توفير كل مقومات الدعم السياسي والمعنوي والمادي لإسرائيل لتحقيق انتقامها من حماس والشعب الفلسطيني، ليس في غزة وقطاعها فقط، بل في الضفة الغربية أيضاً ولبنان لاحقاً. وكانت كلمة السر الدبلوماسية بين الجميع هي رفض وقف اطلاق النار، أو إدانة ما تمارسه إسرائيل بواسطة قواها النظامية من إبادة بشرية وتدمير معالم العمران في منطقة محاصرة لا تزيد عن 8 كيلومترات عرضاً و45 كلم طولاً، وتشهد أعلى كثافة بشرية في العالم، حيث يقيم فيها حوالي 2.2 مليون نسمة في ظروف بيئية ومعيشية مزرية لا يحتملها البشر.

محورا المخطط الاميركي

لقد أصبح واضحاً أن المخطط الأميركي – الإسرائيلي ينهض على محورين رئيسين يعتبران بالنسبة لكليهما الثمن الذي يتوجب دفعه من جانب الفلسطينيين وليس حماس فقط: الأول منهما يقوم على تهجير سكان قطاع غزة نحو صحراء سيناء المصرية، بمعنى إعادة تهجيرهم من أرض فلسطين التاريخية تمهيداً لتسوية هذه المساحة بالأرض. باعتبار أن هناك أكثر من مشروع اقتصادي جاهز لاستثمارها كرد أميركي على طريق الحرير الصيني، وتنفيذ ما يعرف بقناة بن غوريون كبديل عن قناة السويس في وصل أوروبا والمتوسط بآسيا وافريقيا، وتأمين سلامة خطوط الغاز والنفط الاسرائيلية في شرقي المتوسط. وهو ما أثار مصر لأنه يعني نقل المشكلة الفلسطينية من إسرائيل إلى مصر. ومن شأن ذلك أن يتسبب بإشكالات وحتى حروب مع إسرائيل في المقبل من الأيام. وهو ما رفضته مصر باعتباره مس بوحدة الأراضي المصرية كخط أحمر. ثم أن قناة السويس واحدة من أكبر مصادر الدخل في مصر ولن تسمح بخسارتها.

أما المحور الثاني فتمثل في رفع وتيرة التهجير من القدس والضفة الغربية نحو الأردن للتخلص من الوجود الفلسطيني، وتفريغ المساحات الباقية من الضفة لإقامة المزيد من المستوطنات والمستوطنين. وهو ما باشرته إسرائيل منذ عقود عبر تكثيف الاستيطان وتسليح المستوطنين ومساندة الجيش والمخابرات لهم في ممارسة الاعتداءات وحصار المدن والقرى والمخيمات وقصفها بالطيران واغتيال الناشطين من أبنائها وسوق المئات منهم إلى المعتقلات. ومن المعروف أن اليمين الصهيوني المتطرف يطمح أن يتجاوز ذلك ويصل إلى دفع الفلسطينيين الباقين في أراضي العام 1948 أيضاً نحو الأردن، وهو ما رفضه الأردن بطبيعة الحال.

إذن يمكن القول إن تغيير خريطة الشرق الأوسط الذي وعد به المسؤولون الاميركيون والإسرائيليون على الجبهة الفلسطينية كان يهدف إلى الإنتهاء من حسم مسألة الوجود الفلسطيني في مناطق التماس مع الاحتلال الصهيوني في فلسطين التاريخية والضفة وقطاع غزة. والحسم كما تبين من ممارسات إسرائيل يعني جعل هذه المناطق غير قابلة للعيش أو البقاء بالنسبة لأبنائها الاصليين. وهو ما يمكن تلمسه من عملية التدمير الممنهجة لمدن ومخيمات القطاع والضفة دون ألأخذ بنظر الاعتبار الكلفة البشرية المدفوعة من جانب أبناء الشعب الفلسطيني الذين تجري عمليات الضغط عليهم تمهيداً لترحيلهم، أو إبادتهم بدم بارد أمام نظر الرأي العام الدولي والغربي.

الكتلة الغربية والقضية الفلسطينية

الحراك السياسي الأميركي الفرنسي البريطاني  يهدف إلى تعبيد الطريق أمام المخطط الأميركي ـ الإسرائيلي بصيغته المطروحة، والذي يصب في المحصلة في إعادة رسم خريطة المنطقة. فإذا كانت سوريا والعراق ولبنان وليبيا والسودان عبارة عن كيانات موقوفة وحدتُها حتى إشعار آخر، فإن وضع مصر والأردن في نطاق عمليات إعادة “الضم والفرز” المقررة من شأنه أن يقود إلى تفجير ما تبقى من خرائط سايكس بيكو، وإنما من مدخل اعتبار الكيان الإسرائيلي هو الثابت الوحيد في المنطقة، وما عداه مجرد مشاريع تحتاج إلى عمليات “حصر إرث” كي يجري وضعها على الصحيفة العقارية الدولية.

والملفت في الحراك الذي شهدته المنطقة هو الخيبة التي نالها الرئيس الأميركي بايدن بعد رفض كل من رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس والملك عبد الله والرئيس السيسي عقد لقاء قمة معه في الأردن، يضاف إلى ذلك الموقف السعودي الذي رفض الانسياق في المخطط المرسوم. وفشل اللقاء مرده ليس فقط فجاجة المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي، بل أيضاً دماء شهداء وجرحى مستشفى المعمداني، الذين سارع بايدن إلى غسل أيدي إسرائيل من المسؤولية عن مذبحتهم، وهو ما تابعته الاستخبارات الفرنسية وغيرها والتي كرسته تارة من فعل حركة حماس وطوراً الجهاد الاسلامي.

من المهم القول أن جولات كل من الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء البريطاني وغيرهم من مسؤولين أوروبيين، قد ظهّرت مستوى من الصفاقة لم تشهده المشاريع الاستعمارية منذ عقود طويلة، بما يذكر بدبلوماسية البوارج المعروفة التي شهدها العالم في القرون الوسطى المنصرمة. لقد أعادت دول الاستعمار الأوروبي تلك الممارسات بما يشبه عملية النسخ من المأثور المعروف، عندما كان القناصل والسفراء يعطفون على مطالبهم فيحركون الاساطيل لتحقيق مصالح دولهم وشركاتهم التجارية.

الاستسلام أو السلام؟

كانت الصيغة الاوضح التي حاولت دول الغرب الاستعماري فرضها على المنطقة العربية هي تلك التي شهدها مؤتمر “السلام” في القاهرة وكذلك أروقة وقاعات مجلس الأمن الدولي. فقد حاول السيسي من خلال انعقاد القمة ايجاد حلّ مشترك للوضع يبدأ من وقف اطلاق النار وإرسال المساعدات العاجلة، وعدم تهجير الفلسطينيين في قطاع غزّة إلى سيناء، ثم إعادة الروح إلى الحل السياسي وفق صيغة حلّ الدولتين على أراضي الـ67 ، على أن تكون القاهرة محطة اضافية في مسار السلام العادل والشامل للقضية الفلسطينية، بعد فشل أوسلو والقمّة العربية في بيروت عام 2002 في إنجاح المبادرة العربية للسلام وبالتالي تأمين الوصول إلى حل سلمي دائم للصراع.

والملفت أن المراهنة المصرية كانت تنطلق من إمكانية الوصول إلى تسوية بين هذا الطرح، وبين الإصرار الإسرائيلي الغربي على تنفيذ الهجوم العسكري بما يعيد للمؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية هيبتها أمام الرأي العام الداخلي والخارجي بعد الطعنة التي تلقتها وأصابت منها مقتلاً. لكن في قمة القاهرة للسلام بدا أن لا إمكانية للاتفاق على نقطة مشتركة بين الطرحين، بعد أن ردت اميركا على إلغاء القمة الرباعية في عمان بتخفيض مشاركتها إلى مستوى سفيرتها في القاهرة. أيضاً غياب ايران التي كان وزير خارجيتها يجول هو الآخر على المنطقة، بينما تصريحات مسؤوليها تتلاحق مؤكدة حضورها وضرورة مخاطبتها كونها معنية بالحل.

 على أي حال إن الخلاف يتمحور حول نقطتين هما:

الاولى ـ تصنيف حركة حماس على انها ارهابية كما يطالب الغرب، بينما يتحفظ العرب على ذلك مقابل الموافقة على الحديث عن “قتل المدنيين من الجهتين”.

الثانية ـ رفض الغرب مطلب الوقف الفوري لإطلاق النار، لتكريس ما يوصف بأنه حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بالوسائل التي تراها مناسبة وهو ما تحفّظ عليه العرب، مقابل الإصرار على وقف اطلاق النار وارسال المساعدات. وبالنهاية فشل التوافق على بيان ختامي تعبيراً عن ازدواجية المعايير حول مجريات الأمور وحول حقوق الانسان وتطبيق القوانين الدولية التي باتت مخصصة حصرياً للاسرائيليين يحرم منها الفلسطينيون. حدث ذلك في القاهرة وفي الأمم المتحدة بنيويورك وفي كل محفل تتولى إدارة شؤون سياساته اميركا وتابعيها. والضحية لن تقتصر على فلسطين وشعبها ، بل ستتسع نحو المزيد من الدول والشعوب العربية.

Leave a Comment