سياسة صحف وآراء

التاريخ الكبير “يسحق” الوطن الصغير

 *جهاد الزين

خلال خمسين عاما في #لبنان وبعد حربين أهليتين واحدة ساخنة حول السلاح الفلسطيني (1975- 1990) وثانية باردة حول المرجعيةالسورية على الدولة اللبنانية (1990 – 2005) خرجنا بادعاء ميثاقي في المرتين الأولى والثانية، أننا لن نلجأ “بعد الآن” إلى الاستقواء بـ “عامل خارجي” في علاقاتنا الداخلية كلبنانيين..

لكن التاريخ الكبير، تاريخ المنطقة، ليس فقط أكثر تعقيدا مما يظن اللبنانيون في وطنهم الصغير أنهم قادرون على الاتفاق عليه، بل أيضاً اكثر قسريةً في الحجم والإرادات والمسارات والنتائج. التاريخ الكبير للمنطقة أكثر قرقعةً وصهيل الأقدار وأحصنتها السوداء تملأ الساحات بغبار المعارك ونزاعات الشعوب.

إنه الأمر الجلل. وكم أمضى الجميع يتهيّب الأمر الجلل أوقاتا سياسية وعسكرية وحياتية منذ مائة عام ونيّف إلى اليوم.

بلد بكامله محكوم بالتهيّب. بل منطقة بكاملها.

هاهي حرب غزة تنشر بقعة المشاعر المتهيبة على كامل لا المنطقة فحسب، بل العالم. وها هو الوطن الصغير لبنان الذي لا يريد الحرب بمعظم أبنائه يأخذه التاريخ الكبير مرة أخرى إلى المجهول، وينضبط منتظراً بل يستنفر منتظرا ولسان حاله يحتاج إلى كفاءة كاتب كبير كشكسبير للتعبير عن اعتمالاته، وليس إلى مجرد تعليق متواضع عابر في الصحافة.

ولنتصوّر هول التحولات. تكاد أوروبا، وقبل حرب غزة، وبسبب الهجرات الملحمية للهاربين من بلدانهم المنهارة، تكاد تصبح جزءاً من الشرق الأوسط . وحرب أوكرانيا جعلت الشعور بعدم الأمان مشتركاً بين الأوروبيين والشرق أوسطيين رغم الفوارق الهائلة في المستويات الحضارية والقوة السياسية، عدم أمان ديموغرافي، وبعد حرب غزة عدم أمان عسكري. لقد ساهم كبار الأوروبيين في صناعة هذا الشرق الأوسط الذي يخيفهم الآن. القصة معروفة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية ولا داعي لتكرارها. لكن ما يدفع رئيس الوزراء اليوناني في قمة القاهرة قبل أيام إلى وصف مصر بـ “جارتنا مصر” هو في اعتقادي تجدّدُ هذا الشعور الأوروبي بالخطر المشترك وبعد حرب غزة وتداعياتها،وليس مجرد كليشيه بروتوكولية حتى لو كان واقع الجيرة المصرية اليونانية هو من وقائع التاريخ القديم قبل المسيحية وقبل الاسلام ولاحقا حتى القرن التاسع عشر، حين كانت الإسكندرية مدينة يونانية باعتبار ذلك الجزء الطاغي من كوزموبوليتية المدينة العريقة.

يمكن لدويِّ المدافع في غزة وإسرائيل أن يُسمع في أثينا وليس في قبرص المجاورة جدا لنا، وأكاد أقول أن دويَّ المدافع النفسي وليس الواقعي طبعا يمكن أن يُسمع اليوم في باريس ولندن وروما، لأن حرب أوكرانيا تحولت إلى مكبِّر صوت في الشرق الأوسط، فكيف لو ثبت أن الفخ الذي أوقعت فيه واشنطن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في اوكرانيا، يجري الرد عليه عمليا في فخ إيراني روسي صيني مضاد وقعت أو المُراد أن تقع فيه واشنطن في غزة التي تمتد سياسيا اليوم على مساحة الشرق الأوسط بل العالم.

مسكين لبنان، وأعني ما أقول، لا يكاد يفلت من مطب تاريخي حتى يقع في مطب جديد أحيانا أكبر من السابق. يلاحقنا التاريخ الكبير كما يلاحق الغول فريسته. فكيف حين يواصل التاريخ الكبير التهام الشعب الفلسطيني وينتقل لِيَلْتَهِمْ دولا ومجتمعات أخرى تبدو إسرائيل للمرة الأولى واحدة منها. لم يستمع اليمين الإسرائيلي العنصري لنداءات أقطاب العالم منذ ثلاثين عاما بضرورة حل الدولتين، وإلا ستأكل الديموغرافيا إسرائيل مهما فعلت في نظام التمييز العنصري الذي أقامته. تبدو غزة في 7 أكتوبر وقد أصابها الحَجْر القاسي المزمن بالجنون ، فأفلتت لساعات من السجن الكبير تمارس الحرية والانتقام الدموي معا. وأكرر هنا فقرة مما كتبتُ في مقال سابق مع بداية الأحداث: “المجتمع الإسرائيلي، ذو الأغلبية اليمينية، هو أصلا في حالة استنفار تتحول إلى حالة هستيريا جماعية بعد المفاجأة في غزة،أما المجتمع الفلسطيني الذي يزداد غرقُه في بحر الدماء تحت القصف الإسرائيلي الحاقد بعد اندلاع الحرب، فأية عقلانية سياسية يمكنها أن تقوده؟ ليست المرة الأولى التي ينتصر فيها التطرف على الجهتين، لكن المثير هذه المرة أن العقلانية تبدو غير عقلانية، وستحتاج المنطقة إلى جهود ضخمة، لإمكان استعادتها سياسياً”.

مسكين لبنان. الوطن الجميل، “يسحقه” التاريخ الكبير نظريا هذه المرة (وحتى الآن)، ويحاول التكيف فيما الموجة المرتدة تصيب مرة أخرى بعض أبنائه وكأنه لا خيار لهم غير السمع والطاعة لجلال التاريخ الكبير .

*نشرت في النهار بتاريخ 26-10-2023                     

Leave a Comment