ثقافة سياسة

قراءة في تقرير منظمة العمل

وليد نويهض

 

شكّل المؤتمر العام الخامس لمنظّمة العمل الشيوعي نقطة تحوّل في مسار النشاط السياسي اليساري في لبنان. فالمؤتمر أعاد قراءة التجربة وصاغ توجّهات لا تقطع مع الماركسيّة، وتطمح إلى التكيّف مع المتغيّرات التي طرأت إثر انهيار التجربة الاشتراكيّة في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقيّة.

جاءت تحوّلات المنظّمة نتيجة أزمات متراكمة التي “هي جزء من أزمة لبنان الكيان والدولة وقوى المجتمع” (ص 113 – 114)، لذلك قرّرت قيادتها تغيير اسمها و”تجديد حضورها، وتخطّي الكثير من صعوبات الخروج من الانكفاء” (ص 134).

بناءً على هذه الرغبة جدّدت “منظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني” قراءة أزمة الرأسماليّة وعجزها “عن التكيّف مع المستجدّات الكونيّة العاصفة” (ص 147) انطلاقاً “من مراجعتها وقراءتها النقديّة للماركسيّة وما انطوت عليه من حتميّات ومُسلّمات اعتبرتها لا تقبل الجدل” (ص 148).

هناك إذن “أزمة النظام الرأسمالي” وحصول “تبدّلات مهمّة في بنية الرأسماليّة” وضعت “صيغة الدولة” أمام تحدّيات كبرى “جدّدت البحث حول دور الدولة” (ص 12) مقابل “فشل التجربة الاشتراكية” و”تعثّر دولة التسوية الطبقيّة باسم الاشتراكيّة الديمقراطيّة” (ص 13).

أسهمت هذه الأزمة المزدوجة في تنشيط “الخيار الاشتراكي اليساري”، و”تجديد قراءة التطوّر النوعي في بنية الرأسماليّة وأزمتها الراهنة” (ص 22) وإعادة “وصل ما انقطع بين الديمقراطيّة تاريخيًاً وبين الاشتراكيّة” وجعل “الخيار الاشتراكي ردّاً على إشكاليّة تطور الديمقراطيّة المعاكسة لليبراليّة” (ص 23).

حتى تصل قيادة المنظّمة إلى هذا الطور من القناعة كان لا بدّ أن تمرّ في محطات بدأت ثمارها تنضج منذ العام 1993 حين قدّمت اللجنة المركزيّة مراجعتها النقديّة للماركسيّة – اللينينيّة و”ادّعائها أن ما جاءت به هو العِلم الخالص”. ورأت المنظّمة في مراجعتها “أن النصّ الماركسي التأسيسي ظلّ محكوماً بالمرحلة التي جرى إنتاجه فيها” ما “يوجب التحرّر من النظرة إليه كنصّ مقدّس، صالح لكلّ مكان وزمان ولكلّ المجتمعات” (ص 26).

إنطلاقًا من هذا الإطار النظري أخذت قيادة المنظمة تقرأ المتغيّرات استنادًاً إلى معطيات عينيّة ترى “أنّ بُنى العالم الثالث بمقدار ما هي محجوزة بفعل علاقات التبعيّة مع المراكز الرأسماليّة المتقدّمة، هي بالمقابل تحشد عناصر من التخلّف لا بدّ من مقاربتها” (ص25). فالمقاربة تتطلّب تسليط الضوء على الداخل وما يعكسه من امتدادات إقليميّة تتّصل بالوضع العربي ومعضلاته البنيويّة، التي “جعلت دول المنطقة مجرّد مساحات مستباحة” و”ميادين حروب أهلية” ما أسهم “في تجديد وتعميق انقساماتها على أسس عرقيّة أو دينيّة مذهبيّة ومناطقيّة” (ص 44).

النظام الإيراني مثلًا دخل المنطقة “متّكئًا على إشكاليّة الأقليّات الشيعيّة في دول الجوار الإقليمي والعربي”. والحكم التركي اندفع بحثًا عن مناطق لنفوذه مرتكزاً “على حوامل ومناخات دينيّة مذهبيّة، بهدف تثبيت دعائم “دور يحاكي توجّه النظام الإيراني” (ص 46). وجاءت هذه الاختراقات الإقليميّة معطوفة على “الاختناق السياسي والاقتصادي والاجتماعي” الذي عانته مجتمعات المنطقة ودولها “على أيدي أنظمتها الاستبداديّة” التي نجحت على امتداد عقود طويلة في تدمير كل “أشكال الحياة السياسيّة وتشكيلات المعارضة” حتى “بات الوضع العربي يشبه المسرح المفتوح” (ص 50).

على مثال التدهور العربي أصبح الوضع اللبناني رهينة التشابك الإقليمي، فهو “لم يعد ومنذ زمن يُدار عبر مؤسّساته الدستوريّة، بل من خارجها” (ص 73) ما أسهم “في تجديد انقسام اللبنانيّين حول الهُوية وصيغة النظام وتوازناته”. فهناك قاسم مشترك بين “الأحزاب والتيّارات الطائفيّة المكوِّنة للسلطة والمجلس النيابي والحكومة، إنّها ردائف طائفيّة متشابهة بالنظر لطبيعة بُنيتها وأدائها المليشياوي، وخطابها وأهدافها الفئويّة وأدوارها في معارك المحاصصة” (ص 75).

وبسبب استمرار أزمة لبنان على هذا النحو أصبحت ساحته مفتوحة وبات “مصيرها معلّقًا على نتائج الصراعات الإقليميّة والدوليّة المتعدّدة المحاور فيها وعليها” (ص 109).

بناءً على هذا التصوّر يطرح تقرير مؤتمر منظمة العمل سؤال: “ما العمل”؟ استناداً إلى قناعة ترى في “أن انفجار الصراعات بين مكوّنات النظام السياسي لا يعني البتّة القدرة على إزاحتها عن خشبة المسرح” لأن “أطراف السلطة فرادى ومُجتمعين قد أثبتوا قدرةً على استعادة أدوارهم” (ص 110). وأمام “هذه اللوحة المعقّدة من التشابكات بجوانبها الإقليمية التي تجتازها المنطقة العربيّة بأسرها، والأوضاع الداخليّة التي تضغط على حياة اللبنانيين اليوميّة” (ص 112) طرح التقرير سلسلة اقتراحات، يرى أنها ممكنة التطبيق، لتحقيق الإصلاح السياسي كإلغاء “ما يُسمّى المحاصصة السياسيّة” و”إعادة تحديد دور ووظيفة لبنان” و”استقلال القضاء” و”انتظام عمل القطاع العام” (ص 114 – 116)، ووضع “سياسات اجتماعيّة تؤمّن الحدّ الأدنى من متطلّبات العيش الكريم” و”تنويع مصادر الاقتصاد” و”ترشيد الإنفاق الاستهلاكي” و”استعادة حقوق الدولة والنهوض بدورها المجتمعي” و”معالجة التهرّب الضريبي” و”وقف التوظيف التعاقدي والزبائني” و”إعادة هيكلة وتحديث” قوانين المؤسسات اعتماداً على “كتل شعبيّة مجتمعيّة ضاغطة” (ص 118 – 119).

ملاحظات سريعة

لا شكّ أن إقدام منظمة العمل على اتّخاذ خطوات نقديّة ومراجعة تجربتها ومحاولة إعادة هيكلة منظومتها وتوضيح توجّهاتها، في سياق يقرأ تدهور الوضع اللبناني في إطار يتجاوز مساحته المحليّة، يعتبر قراءة جريئة تفتح النقاش على درجات متتالية تبدأ بالمنهج وتتصل بالوقائع وتنتهي بالاحتمالات.

من ناحية المنهج يبدو التحرّر النسبي من الماركسيّة مجرّد إعلان عام يتطلّب بعض التوضيحات حتى ترتسم خريطة الطريق للخروج من المأزق. فالحديث عن أزمة الرأسماليّة العالميّة لا معنى له في التطبيق العملي، لأن طبيعة “الرأسماليّة” وتكوينها التاريخي يقوم أساساً على مفهوم تتابع الأزمات واحتواء أضرارها وتجاوزها، وثمّ الوقوع بها مجدّداً. فالأزمات هي جزء من نمط الانتاج الرأسمالي لأنها تُعطيه حيويّة للاستيعاب والتجاوز، واحتواء ما يفرزه التطوّر التقني (الصناعي – التكنولوجي) من تداعيات سلبيّة تُعزّز النمو الثقافي والذهنيّة المعرفيّة.

مشكلة “الرأسماليّة” ليست في أزماتها المتتالية، وإنّما في طبيعة دولها ومواقعها وأدوارها وتنافسها وتزاحمها على السوق الدولي. لذلك فإن الحديث عن الأزمة العالميّة لا قيمة ميدانيّة له خارج منظومة الدول “الرأسمالية” واختلاف قوانينها بين بلد وآخر. فالعالميّة لا تلغي خصوصيّات الرأسماليّة وتموضعها في بيئات ليست بالضرورة متجانسة في توجّهاتها وتعاملها الدستوري مع سكانها ومحيطها الجغرافي السياسي.

الدولة، في هذا المعنى العام، هي الأساس القانوني لإعادة تدوير الأزمة واحتواء تداعياتها، الأمر الذي يؤشر إلى وجود أكثر من نمط سياسي للرأسماليّة بدءاً من الولايات المتحدة وكندا ومروراً بأوروبا وروسيا وانتهاءً بالصين وكوريا واليابان وأستراليا. كل هذه “الرأسماليات” متشابهة في إطارها النمطي ومتخالفة في الآن في آليات عملها السياسي. فالدولة هي مركز القوّة ومنها تتفرّع القوانين في قنوات اجتماعيّة ومنظومة حزبيّة وهيكليّة دستوريّة، تعطي نكهة ثقافيّة خاصة لهُويّة الرأسماليّة المحليّة القوميّة واللغويّة.

الأمر نفسه ينطبق أيضاً على التشكيلات الاجتماعيّة السابقة للرأسماليّة وأزمة نهوض الدولة في “العالم الثالث”. فهذه التشكيلات متشابهة في تكوينها البنيوي لكنّها متخالفة في هُويّاتها اللونيّة والعِرقيّة واللغويّة ونمط حياتها وثقافتها، ومدى استعدادها للتكيّف مع تداعيات التطوّر الانتاجي وتداخل العوالم في الفضاء الافتراضي.

تشكيلات ما قبل الدولة الرأسماليّة تعطي القوى الاجتماعيّة وظيفة خاصّة ومستقلّة تعزّز سُلطتها المحليّة (المناطقيّة والطائفيّة) وتُحوّلها إلى قوّة عضويّة تمنع الاختراق وتُعطّل إمكانات تطوّر الأجهزة المدنيّة وتُعرقل تدخّل القوى التغييريّة في محيط عزلتها. فالتطوّر العمودي (الارتقائي) يحتاج دائمًا إلى دولة (قوّة جاذبة) تشدّ الأطراف إلى نقطة الدائرة، ما يسمح بتفكّك التوحّد العضوي ويدفعه نحو الاندماح في هُويّة جامعة ومشتركة. لذلك تصبح وظيفة الدولة مُهمّة في لعب أدوار ميدانيّة تقوم على مبدأ الدمج ثمّ الدفع نحو التقدّم باتجاه الانتقال من الأهلي (العضوي) إلى المدني (القانوني) والبدء في تشكيل هُويّة جامعة تحتضن المجموعات المتنافرة في إطار يتجاوز حدود دائرة الطوائف الجغرافيّة وأنظمة “المِلل والنِحل” الموروثة عن عهد السلطنة العثمانيّة، وما سبقه من محطات مملوكيّة (عهد المماليك).

بهذا المعنى التاريخي تبدو التكتلات الاجتماعيّة التقليديّة (المناطقيّة والطائفيّة) أعرق زمنيّاً وأقوى عضويّاً من القوى المعاصرة التي تقوم ركائزها على قواعد غير راسخة في بنيتها الانتاجيّة. فالأهلي المنكمش على ذاته وخصوصيّته أسرع إلى التكتّل والاستنفار والانطواء على هُويّاته الصغيرة في المحطات الحرجة، مقابل تفرّع قوى التغيير المدنيّة التي تحتاج إلى غطاء قانوني و”دولة” تمتلك مشروع هُوية اندماجيّة جامعة تلعب وظيفة المظلّة الواقية لحماية قوى التغيير من الاختراقات.

بسبب هذه الميوعة الاجتماعية الناتجة عن انعدام وجود “دولة” صاحبة مشروع توحيدي يُحصّن القوى المدنيّة، تتشابك الطبقات “اللزجة” بمصالح التكتلات العضويّة وتتداخل مطالبها الخاصة بالأهداف العامة والمشتركة، ما يُعطّل إمكانات الفرز بين المطامع المناطقيّة والطائفيّة والطموحات التغييريّة.

لذلك يبدو لبنان من دون هُويّة حين تتشابك المطالب بالمطامع بالطموحات، وتصبح “الدولة” الغائبة أصلاً خارج سياق التصادم، لأنّها ببساطة غير موجودة، وبالتالي غير قادرة على القيام بمهمّاتها التاريخيّة، وقيادة التشكيلات الاجتماعيّة السابقة للرأسماليّة، باتجاه مشروع تحديثي يتجاوز حدود نظام “المِلل والنِحل”.

هذا لا يعني أن طروحات قوى التغيير غير صحيحة، وإنّما تبدو غير صالحة للتنفيذ وغير قابلة للتطبيق بسبب “ميوعة” البيئة الحاضنة وعدم قدرتها على تحمّل الارتدادات والاصطدامات مع “السلطات” العضويّة المحليّة.

عدم وجود “دولة” هو أساس الأزمة، لأن غيابها ناجم عن تحكّم التشكيلات الاجتماعية السابقة للرأسماليّة بالقرارات الميدانيّة على المستوَيَين المناطقي والطائفي. لذلك تصبح المطالب كإلغاء “المحاصصة” واستقلال “القضاء” وتحديث “القطاع العام” وغيرها مجرّد مقترحات ذهنيّة تحتاج إلى قوى ميدانيّة قادرة على الدفاع عنها ، وتحويلها إلى قوانين تساعد في انتاج شرائح “نخبويّة”، تمتلك خطة دستوريّة لإعادة هيكلة “دولة” جامعة وتوحيديّة. وهذا يمكن إدراكه والتوصل إلى تحقيقه في حال استمرت سياسة الضغط على الأنماط المفهوميّة للمعرفة. فالكسر المعرفي للذهنيّة الأهليّة، في مرحلة ما قبل نشوء الدولة الرأسماليّة، يسبق عادةً نهوض الطبقات الاجتماعيّة كما حصل بالتوازي في بريطانيا قبل التنوير وثمّ فرنسا قبل الثورة.

المعرفة الذهنيّة تسبق الفرز “الطبقي” في قيادة التحوّل التاريخي في بلدان تعيش تشكيلاتها الاجتماعيّة مرحلة ما قبل الرأسماليّة. وحتى يحصل مثل هذا الانقلاب الذهني/المعرفي لا بدّ أن تبذل “النخبة” في قوى التغيير جهدها لوضع تصوّرات لا تكتفي بتفكيك الأزمة وطرح شعارات مطلبيّة، وإنّما بإعادة تركيب صورة المشهد السياسي، وهيكلة آليّات تساعد على تطبيق البرامج والأهداف.

هذه الفجوة يمكن ملاحظتها في تقارير “المؤتمر العام الخامس” إذ تبدو النصوص قويّة في قراءة الأزمة وتفكيكها وضعيفة في إعادة تركيبها، وصوغ هيكلها وآليّاتها وشبكاتها التي ترسم خريطة الطريق للوصول إلى الأهداف، وقيادة التكتلات الأهليّة العضويّة باتجاه الالتحاق بالقوى التغييريّة بغية الاندماج لاحقاً في “دولة” لم تُولد بعد.

حتى نصل إلى هذه المحطة لا بدّ من التركيز معرفيّاً على أولويّة كسر القوالب الذهنيّة المقّدسة لمواقع السلطات العضويّة المحليّة (المناطقيّة والطائفيّة)، والمطالبة بحذف الهُوية المذهبيّة من السجلّات (إخراج القيد) والدوائر الانتخابيّة، وإقرار قانون انتخابي غير طائفي يعتمد صيغة تجمع بين النسبي (مجلس النواب) والأكثري (مجلس الشيوخ) من دون شروط تميّز بين مواطن وآخر.

التغيير يبدأ خطوته الأولى من إعادة هيكلة السلطة التشريعيّة، ومنع فرز المقاعد على أساس طائفي، تمهيدًا للانتقال إلى تعديل السلطات التنفيذيّة والرئاسيّة والقضائيّة والعسكريّة والمصرفيّة.

إلغاء طائفيّة الدوائر الانتخابيّة يُسهم في تشكيل هُويّة جامعة تشدّ المواطن ذهنيًّا نحو القبول بصيغة “دولة” ترتّب حقوق أعضاء الجمهوريّة من دون تمييز مناطقي.

المِلّة والنِحلة لا يمكن أن تكون هُوية معاصرة لمرحلة انتقاليّة تطمح إلى تجاوز التشكيلات الاجتماعيّة العضويّة للوصول إلى منظومة الطبقات والقوى التغييريّة المدنيّة (القانونيّة). تلك المنظومة المِلليّة والنِحليّة كانت صالحة كهُويّة صغيرة للدلالة على أصول المكوّنات العضويّة لجماعات وفِرَق “الدولة” في العهد المملوكي وثمّ “السلطنة” في العهد العثماني.

المِلّة والنِحلة صيغة كانت معتمدة في مرحلة ما قبل “دولة” المواطن التي نهضت في أوروبا، بالتوازي مع الاكتشافات الجغرافيّة والحروب الدينيّة ونشوء الرأسماليّة. وبسبب التأخّر الذي عاشته السلطنة العثمانية وفشلها في الالتحاق بقطار “التقدّم” الأوروبي لم يكن بالإمكان نهوض صيغة “المواطن” كهُويّة بديلة عن نمطيّة فكرة الانتماء إلى “مِلّة” أو “نِحلة”.

هذا التأخّر التاريخي أسهم بدوره في تعطيل احتمالات كسر القوالب الذهنيّة الراسخة عضويّاً في التشكّلات الاجتماعيّة، ما أدى إلى عجز عهد الانتداب الفرنسي على تجاوز عقدة “الهُويّة” وإعادة إنتاج صيغة المواطن (الدولة المعاصرة). فالانتداب الذي انتزع من “السلطنة” بلاد الشام والعراق فشِل في هيكلة دول جمهوريّة معاصرة تقود التحوّل الاجتماعي من العضوي (الأهلي) إلى المدني (القانوني).

وَرِث الانتداب منظومة المِلل والنِحل وأعاد إنتاج مكوّناتها المذهبيّة والطائفيّة قبل أن يُعلن انسحابه من المشرق العربي تاركاً “الدويلات” المستقلّة تُعيد انتاج سُلطات قهريّة في سورية والعراق، ومؤسسات “لزجة” تتشابك في أُطرها النمطيّة هُويّاتها المحليّة بالتشكيلات المناطقيّة كما هو حاصل في لبنان.

لبنان الآن يمرّ في أزمة هُويّة تُحدّد سِماتها وألوانها قوى عضويّة قادرة على التكيّف مع المتغيّرات وتتوحّد للدفاع عن مصالحها الضيّقة ضدّ قوى التغيير.

أهمّ ما نجحت انتفاضة 17 تشرين الأوّل 2019 في انتاجه هي أنها حاولت كسر تلك النمطيّة الذهنيّة الموروثة عن الأجداد. لم تنجح الانتفاضة في تخطّي الحواجز، إلّا أنّها فتحت ذاك الطريق الذي لا بدّ من استكماله للتوصل إلى تأسيس “هُويّة” جامعة تُمهّد لتشكيل أدوات معرفيّة قادرة على هيكلة “دولة” تتعايش مع العصر.

هذه المهمّة الطموحة هي مشتركة بين مختلف الفصائل لكونها تتّصل بالتاريخ والأجيال والذهنيّة المعرفيّة وما ينتجه التطوّر “الافتراضي” من حاجات تُملي على القوى التغييريّة اتخاذ خطوات واقعيّة تستفيد من تلك الثغرات (المسام الاجتماعيّة) التي تخترق المناطق والطوائف بسبب نموّ تلك الضغوط الناجمة عن تداعيات العوالم الخارجيّة وتداخلها الموضعي مع مساحات ذهنيّة متقوقعة ومُنعزلة عن محيطها.

لا شكّ أن منظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني – منظمة العمل لاشيوعي – حاولت جهدها لكسر تلك النمطيّة المعرفيّة في تقرير “مؤتمرها الخامس”، وهي خطوة لا بدّ أن تفتح أمامها مجال الخروج من محطة الانكفاء (الانعزال)، والانتقال إلى طور يُعطيها فرصة المشاركة في قيادة التحوّل الذي يحتاج إلى “نخبة” تمتد روافدها إلى شبكة السلطات المحليّة التي تتحكّم بإدارتها  قوى عضويّة شرسة تُعارض مفهوم “المواطن” وهُويّة “الدولة” العادلة.

Leave a Comment