سياسة

العراق:هل يتحول المأزق السياسي المحتدم إلى انفجار أمني ؟

زاهي البقاعي

فتحت استقالة كتلة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، من مجلس النواب العراقي، الباب على مصراعيه في تحويل المأزق السياسي الذي تغرق فيه البلاد منذ ثمانية أشهر، إلى انفجار أزماته وسط غابة السلاح المتشابكة الداخلية الاقليمية. فقد حالت حتى الآن ورغم مرور تلك الأشهر دون انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة تتولى تسيير الشؤون العامة. وكان نواب التيار استجابوا للنداء الذي وجهه الصدر لهم للاستقالة. اذن تعمّقت الأزمة السياسية ودخلت طوراً جديداً، ما يدفع إلى التخوف على تماسك الوضع الأمني، لاسيما وأن الانقسام لا يقتصر على المكونات والاحزاب السياسية، بل يمتد إلى الحشد الشعبي الذي يشهد تفككاً هو الآخر بين التنظيمات الموالية للصدر، وتلك التي تتبع النفوذ الايراني. ومن المعروف أن نتيجة الانتخابات النيابية جاءت لصالح كتلة الصدر بتحالفاتها، والتي اشترطت تشكيل حكومة من الأكثرية، على أن تكون القوى المتحالفة تحت المظلة الايرانية في المعارضة. ومع اعلان الاستقالة شنت الصحف الايرانية بما فيها الرسمية هجوماً عنيفاً على الصدر، وكالت له العديد من الاتهامات.

وبناءً عليه، تصاعد المشهد السياسي العراقي تعقيداً على تعقيد أصلي، والذي لم تنجح الانتخابات النيابية أصلاً في تحريكه، إذ برزت كتلتان متصارعتان في حينه على نحو معلن، مع أرجحية للمناوئين للسياسة الايرانية من أعضاء الكتلة الصدرية والمستقلين والمتحالفين معهم. على أنه يمكن ربط هذا التعقيد بما يتجاوز الساحة العراقية ليصل إلى المفاوضات العالقة حول الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة واوروبا وايران. والتي تدور منذ أشهر في حلقة مفرغة هي الأخرى نتيجة عاملين متفاعلين. يتمثل أولهما في رفض الولايات المتحدة الاميركية سحب الحرس الثوري الايراني من قائمة منظمات الارهاب، الأمر الذي تلح عليه ايران، باعتباره ذراعها الطويلة في نفوذها الاقليمي والتدخل في العديد من الدول العربية، واشتراط عدم انسحاب اميركا من الاتفاق كما حدث مع اتفاق العام 2015. والثاني يتمثل في زيادة ايران معدلات التخصيب إلى حدود باتت معها على حافة انتاج قنبلة نووية،  وإضافة المزيد من أجهزة الطرد المركزي وتعطيل كاميرات المراقبة لأنشطتها في العديد من المواقع، ما أدى إلى مشكلة مع وكالة الطاقة النووية والدول الأعضاء فيها. أما بالنسبة للعراق، وهو هنا بيت القصيد فيمثل لايران خط الدفاع الأخير عن الداخل، الذي يترجرج بدوره بفعل الانهيار المتمادي لسعر صرف العملة وما ينجم عنه من أزمات، ما دفع إلى سلسلة اضرابات في العديد من “بازارات” المدن وتحركات شعبية غاضبة.

ويبدو أنه في ظل هذه المناخات الدولية المتفاقمة تتجه أوضاع العراق الداخلية نحو المزيد من الاحتدام مع مبادرة رئيس رئيس البرلمان محمد الحلبوسي إلى قبول استقالات نواب الكتلة الصدرية على مضض.  ما يعني أن هذه الكتلة وهي الاكبر في البرلمان بواقع 72 مقعداً من أصل 329 مقعداً، والمتحالفة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، وتحالف السيادة لتشكيل تحالف (إنقاذ وطن) ما أصبح معه يملك التحالف النيابي الاكبر بواقع 180 نائباً. لكن هذه الكتلة عجزت رغم هذا العدد من النواب في إجراء انتخابات رئاسية، وبالتالي في تكليفها تشكيل الحكومة. وخلال الأشهر المنصرمة طرح التكتل المذكور عدداً من الأسماء لمنصب الرئيس، لكنها ووجهت باعتراض ائتلاف “الإطار التنسيقي” الشيعي المنافس، الذي يضم في عضويته رئيس الوزراء السابق نوري المالكي.

ومع قبول استقالة نواب كتلة الصدر في البرلمان، يتوقع أن يتم اعلان النواب الخاسرين في اللوائح بدلاء لهم، ما يعني مضاعفة وزن الاطار التنسيقي على حساب هذه الكتلة. على أن الصدر لم يكتف باستقالة ممثليه في البرلمان، بل أتبعها بخطوة أخرى تتمثل بإغلاق جميع المؤسسات التابعة لتياره. ومباشرة، وفي أعقاب هذه التطورات الدراماتيكية بادر الاطار التنسيقي لاعلان توجهه نحو تشكيل حكومة جديدة بقيادة رئيس الوزرارء الأسبق نوري المالكي، بالمشاركة مع القوى السياسية الأخرى الحليفة لايران، مع استبعاد التيار الصدري منها. وهو الذي يعتبر القوة الأبرز لدى الشارع العراقي الغارق في أزمات اجتماعية واقتصادية متلاطمة. وبذلك جرى قطع الطريق على الخيارات الأخرى التي جرى التداول بها، والتي تقضي بحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، والتوجه بعدها نحو تشكيل حكومة جديدة في ضوء ما ستتمخض عنه. ولعل ما يغري الاطار التنسيقي أنه بات يستند إلى كتلة اضافية لا تقل عن 40 نائباً بحكم ما ينص عليه الدستور لجهة اختيار البدلاء للمستقيلين من منافسيهم. ومن شأن ترشيح المالكي أن يصب الزيت على النار، بالنظر إلى ما أحاط بمرحلة ترؤسه الحكومة من فضائح فساد ونهب لمالية الدولة العامة وتهريبها إلى الخارج. علماً أنها لم تقتصر على شخصه بل طالت المحيطين به. وهو ما قد يكون مدخلاً نحو عودة التحركات إلى الشارع كالتي شهدها العام 2019 وأدت إلى مصرع ما لا يقل عن 600 شخص من المتظاهرين والنشطاء، والتي أعقبتها الانتخابات التي تلقى خلالها الموالون لايران هزيمة واضحة.

ومع أن الاوساط السياسية الموالية لايران تستعجل القيام بخطوة تشكيل الحكومة، وتتحدث عن خيارات وأسماء غير استفزازية كالتي يمثلها المالكي، الا أن عقبات جدية ما تزال تحيط بمثل هذه الخطوة، باعتبار أن موقفاً رسمياً لم يصدر بعد عن تحالفي “السيادة”، الممثل السياسي عن العرب السنة في العراق، بزعامة خميس الخنجر، و”الحزب الديموقراطي الكردستاني” الحاكم في إقليم كردستان العراق بزعامة مسعود البارزاني. والمقرر أن يجتمعا قريباً لبحث الأزمة وتحديد موقفهم من دعوة “الإطار التنسيقي” إلى تشكيل حكومة توافقية. ومن الأسماء المطروحة في التداول لترؤس الحكومة كلاً من مستشار الأمن القومي الحالي، قاسم الأعرجي، والوزير السابق محمد شياع السوداني، ومحافظ البصرة الحالي، أسعد العيداني. لكن أعضاء في تحالف “دولة القانون”، الذي يتزعمه المالكي يصرون على طرح اسمه كمرشح لتشكيل الحكومة، بناءً على خبرته، ولأن كتلته تمتلك الأغلبية داخل تحالف “الإطار التنسيقي”. لكن طرحاً من هذا النوع تتحفظ عليه أولاً مرجعية السيستاني في النجف والعديد من القوى السياسية في الداخل والخارج على حد سواء ثانياً. بالنظر إلى أنه تم إقصاؤه من سباق الولاية الثالثة للحكومة عام 2014، بعد أن جرى تحميله مسؤولية انسحاب الجيش العراقي كيفياً ودون مبرر من المدن العراقية، ما أدى إلى سقوطها بما تمتلكه من أسلحة وعتاد وأموال في يد تنظيم “داعش” الإرهابي. هذا عدا استشراء الفساد وتفاقم أزمة الخدمات العامة من الماء إلى الكهرباء والطرقات وغيرها في شتى أنحاء البلاد خلال توليه المسؤولية.

اذن الانتخابات البرلمانية المبكرة في خريف 2021 التي جرت المراهنة عليها لإخراج البلاد من مأزقها ولاسترضاء الشارع، بعد التظاهرات والاغتيالات غير المسبوقة التي شهدتها البلاد، لم تؤدِ إلى اتفاق على تشكيل حكومة تحل محل حكومة تصريف الاعمال الحالية. ونتيجة الخلاف والصراع المستحكم أخفق البرلمان ثلاث مرات في انتخاب رئيس للجمهورية، متخطياً المهل التي ينص عليها الدستور. ولتخطي الانسداد السياسي، طرحت خيارات منها حلّ البرلمان وتنظيم انتخابات جديدة، لكن لا يمكن حل البرلمان إلا بقرار من مجلس النواب نفسه، وهو ما قد لا يحظى بأصوات الغالبية، ومن هنا جاء قرار الكتلة الصدرية بالانسحاب منه، إذ إن بقاءها في صفوفه من شأنه أن يشكل عائقاً يحول دون تشكيل حكومة، خصوصاً مع اشتراطه أن تكون الحكومة حكومة أكثرية تحكم، وأقلية تعارض. فيما أصرت القوى المتحالفة مع ايران على حكومة وفاق بمشاركتها.

والخلاصة، إن الاطار التنسيقي الذي يضم كتلاً شيعية في مقدمها دولة القانون بزعامة نوري المالكي، وكتلة الفتح الممثلة لفصائل الحشد الشعبي الموالي لإيران، قد ينجح في تشكّيل حكومة، لكنها حكومة ستفاقم الأزمات بالتأكيد بدلاً من العمل على معالجة أسبابها ومسبباتها. وعليه، يبقى العراق في دوامة التبعية الخارجية والانقسام الداخلي.

Leave a Comment