مجتمع

في ذكرى غياب القائد خالد غزال: حقق حضورك إنجازاً طال انتظاره

زكـي طـه

 أعوام ثلاثة مضت على رحيلك رفيق خالد، وأنت الغائب والحاضر في آن. لا أدري خلالها كم كنت غائباً، ونحن ما نزال نتشارك المكتب ـ مكتبك. وكم أنت متحدثاً أو مستمعاً كما اعتدنا على نحو شبه يومي. والمشترك بيننا كان أكثر من أن تحصى قضاياه امتداد عقود من أعمارنا. تتداخل العناوين كما تتشابك الموضوعات. تتعدد أوجه مقاربتها والتنقل بينها، تبعاً لأهميتها أو اهتمامنا بها. لا فواصل تذكر بينها. ثلاثة أعوام لم أكن وحيداً في المكتب، الذي تركته لي، كنت معي ولا تزال، حضوراً زاهياً تزينه ابتسامة تنضح بالأمل والفرح.

   أعوام مضت، وأنا كما الرفاق نفتقد دورك الاستثنائي، وقد كنت الضمانة لمتابعة مسيرة كانت معقدة وصعبة. وأنت المبادر لتحمّل المسؤولية بجدارة، بلا إدعاء أو غرور. كان دورك محصناً بالكفاءة ونزاهة المسلك، محميّاً بالتواضع الذي ميّز  شتى أوجه مسيرة حياتك التي يستحيل الفصل بينها.

  كان غيابك ثقيلاً وصادماً، وإرث المهام التي تركتها لنا كان كبيراً وصعباً في آن. أما الاسئلة المشككة في مستقبل المنظمة، فإن المتطوعين للإجابة عنها سلباً كانوا كثراً. وما زاد في حجم التحديات أن ما انطوت عليه وثائق المؤتمر الرابع حول أوضاع البلد والمنطقة من تقديرات وتوقعات، قد اصبحت واقعاً قاهراً. وهو المؤتمر الذي  كان ثمرة دورك وجهدك اللذين استندا إلى مراجعة الأمين العام لتجربة المنظمة واليسار والبلد في إطاره الاوسع عربياً وعالمياً، والتي استغرقت ما يقارب عقود ثلاث من جهده.

كثيرة هي القضايا والأمور التي أود الحديث معك عنها. لكن السؤال الصعب من أين أبدأ، وهل يتسع الوقت. الايجاز ليس سهلاً. والموضوعات كثيرة، متنوعة ومتعددة. ولا قدرة لي على تحديد الأولويات بينها، أو تقرير مدى أهمية أي منها، لأنها بالنسبة لك تكاد تتساوى. هكذا كان الأمر بيننا منذ زمن طويل.

    هل أخبرك عن الوضع العالمي والحروب والصراعات المنفلتة والمتنقلة تعبيراً عن أزماته المتفجرة، واحتمالاتها المقبلة التي تنذر بأشد المخاطر التي تهدد مصير البشرية. أم أحصر الكلام عن عالمنا العربي، والحروب الأهلية المدمرة لبلدانه ومجتمعاتها، وسط التدخلات الخارجية الدولية والاقليمية، التي تستهدف تقاسم السيطرة عليها ونهب مواردها. وكيف اصبحت اسرائيل شريكاً فاعلاً للعديد من أنظمتها بذريعة مواجهة الخطر الايراني الزاحف، في موازاة تجديد علاقاتها الاستراتيجية مع تركيا. بينما الفلسطينيون محاصرين ومتروكين لقدرهم، وسط انقسامات قواهم، والتي تبدد تضحيات شعبهم ونضالاته.

الرفيق القائد خالد غزال

  أعلم أنك ترغب في معرفة ما آلت إليه أحوال البلد. لا أخفيك القول أن حجم الانهيار فاق كل التوقعات، وعلى جميع المستويات. وأننا دخلنا في الجحيم الذي بشرنا به الرئيس القوي. والخوف الذي ساورنا عند انتخابه، من أن يكون الرئيس الأخير، قد بات داهماً لأن البلد يُدفع على يد حكامه والمتحكمين به نحو المجهول وقد بات مهدداً بالزوال.

     لن أتوسع في استعراض معاناة اللبنانيين، وما هم فيه من أزمات ومشكلات في شتى ميادين الحياة، التي يصعب حصرها، كما يستحيل معالجتها من قبل من تسبب بها. ولن استفيض حول تبسيط  بعض القوى استسهال التغيير. ولن أشكو لك ما آلت إليه أحوال انتفاضة مئات ألوف اللبنانيين الذين ملأوا الساحات، واستعدادهم للنضال دفاعاً عن حقوقهم، والمطالبة في أن يكون لهم وطن. وكيف نجحت قوى السلطة بكل ما تملك من أسلحة، في محاصرة الأمل الذي جددوه لإعادة بناء حركة شعبية ديمقراطية.  

    صحيح أن الانتفاضة دفعتنا مرات عدة لتأجيل انعقاد مؤتمرنا لاستكمال ما بدأناه معاَ. لكنها اتاحت لنا فرصاً ثمينة كنا بحاجة لها. كما أعطتنا دفعاً استثنائياً عوضنا عبره الكثير من خسائر انكفائنا الطويل. وحدّت من حجم الخسارة الكبرى التي مثلها رحيل اميننا العام وعطائه طوال حياته. كذلك ما أتى في امتدادها، وقد كان صادماً لنا، وللكثيرين من اصدقائه الذين عرفوا به. وهو ما لم يكن متوقعاً، ولا اعتقد أنه خطر على بالك يوماً.

    ولأن المنظمة كانت وستبقى خياراً يستحق تجديد الالتزام به، فقد أصبحت حقيقة راسخة بالنسبة لنا كما للآخرين. صحيح أن الثمن كان باهظاً على امتداد مسيرتها طوال نصف قرن. والأهم فيه كانوا الشهداء والمخطوفين والجرحى والمعتقلين والمناضلين والقادة الذين رحلوا وآخرهم رفيقنا وصديقنا أبو حسن مروة. جميعكم استحقيتم من رفاقكم تحية تقدير ووفاء، فيما كان هؤلاء يفتتحون مؤتمرهم الخامس ليختتموا عبره مسيرة كانت صعبة وطويلة. ويكرسوا مساراً وواقعاً جديداً طال انتظاره.

   ولأن الوفاء هو الوجه الآخر لتجديد الالتزام، كان الإنجاز الذي تجاوز ما ارسته المراجعة النقدية والمؤتمرات السابقة. سواء  في تحديد ما لن نكون عليه، أو من خلال الاسئلة حول ما سنكون عليه، وصولاً إلى أطلاق المبادرة الفكرية السياسية في صيغة اختبارية، نحو حزب يساري ديمقراطي علماني. الأهم أن الانجاز قد تحقق على أكثر من جبهة. وسط الانخراط  في ميادين الممارسة السياسية والنضالية المتاحة على كل المستويات. وفي موازاة السجال الفكري والسياسي، حول قضايا البلد والانتفاضة والتغيير وما يحيط بها على شتى الجبهات. ولذلك كان المؤتمر الخامس في تاريخ المنظمة والأول في مسيرة إعادة التاسيس. الذي أنعقد مطلع هذا العام، وقد أعلنت نتائجه منذ اسابيع، بعدما حسم نهائياً في تحديد خيارات المنظمة الفكرية وتوجهاتها البرنامجية السياسية والتنظيمية والنضالية، كما رسم أهدافها ومبادئ عملها، لينتهي بتقرير الإسم الذي سيظلل مسيرة ومهمات إعادة التأسيس، وتجديد الدور، وبناء الموقع الاجتماعي، تنظيماً مناضلاً في ميادين السعي لإنقاذ البلد وعلى طريق التقدم والحداثة.  

    في ذكراك رفيقي وصديقي خالد، أود القول لك ولجميع الشهداء ولكل الرفاق الذي رحلوا، أن الوفاء لكم كان وسيبقى خياراً وعهداً يستحق الالتزام، من أجل استكمال ومتابعة ما بدأناه معاً وما أُنجز لأنه يتعلق بطموحات شعبنا.

  ختاماً، سلام عليك وعلى جميع الرفاق، ولكم من كل الرفاق ومني، تحية وألف وردة.

Leave a Comment