ثقافة

فيلم  “the revenant” تحفة اوسكارية بامتياز

يوسف اللقيس

 

هل تسمع الريح يا أبي؟

هل تذكر ما كانت أمي تقوله عن الريح ؟

الريح لا يمكنها أن تهزم شجرة لها جذور قوية

هناك أفلام تمرّ عليك تاركة وراءها لحظة دفء مع كمّ هائل من المشاعر التي تعصف داخلك، أعمال فنيه خالدة تسكن تلافيف أرواحنا مجسدة المعنى الحقيقي للكمال السينمائي، فحين يعلو صوت الإرادة قائلًا للموت لا تأخذني، فأنا مازلت حيًا، ومازالت الحياة تنبض في روحي والانتقام حليفي، دعني ألقي تحية الوداع على فلذة كبدي القطعة الأخيرة المتبقية مني، فأنا لم أعد خائفًا من الموت بعد الآن، لأني قد جربته سابقًا.

إن واقعية المشهد السينمائي وحقيقته أصبحتا بين أيدينا من شدة إلتصاقنا بروحيته المعبرة لاقصى درجة ممكنة، فكثيرٌ منا عندما شاهد هذا العمل الزاخر بمشاهد تحبس الانفاس من شدة واقعيتها وعبقرية تجسيدها بطريقة يكون فيها المُشاهد جزءًا من الحدث وفردًا في رحلة النجاة، يعيش المعاناة مع الشخصية بكل تفاصيلها الدقيقة. على الصعيد الشخصي اصدقائي، إن هذه التحفة تربعت على عرش مكتبتي السينمائية لما تحتوي من دسم لطالما بحثت عنه، تحفة تجسد شعرًا مرئيًا نُسج بلحن الحياة في ليلة باردة، ليلة كانت دافئة لمن رقدوا بسلام وكانت الاصعب لمن عادوا تاركين جراحهم مفتوحة خوفًا من ان يسكت الالم و يبرد الانتقام. عمل سينمائي عملاق أشبه بريشة عانقت الفرادة وعزفت لحنًا ضمّ معه حقيقة المشهد وواقعية الأداء، فنتجت عنه تحفة فنية خالدة مع موسيقى تصويرية لا نظير لها، تجلسنا على ضفة نهرٍ نتأمل السكون ونعانق السفر بين اروقة الصقيع وواقعية الصورة. وما يزيد من شغفي لهذه الايقونة هو أنني في كل لحظة انظر فيها للحياة فأرى هذا العامل الطبيعي باسطًا سيطرته على أكتاف من يسكن أحضانه غير مكترث للرمق الاخير المتبقي منه أو لأنفاسه المتجمدة، وعلى الضفة الأخرى من جدول البقاء، أجد مكافحًا تحت السماء يحترف تعقّب الحلول، والبحث بين أسطر النجاة عن فاصلة يتكئ عليها من قسوة الدرب، فتارة يقتات مما تقدّمه له الريح وتارة أخرى يكتفي بشهيقه و زفيره وجبته المفضلة.

  • القصة

فيلم “العائد” أو “the revenant”  مقتبس عن الرحلة “هيوغلاس” الحقيقية التي حصلت في أواخر عام 1823 التي يرشد فيها “هيوغلاس” (ليوناردو دي كابريو) “أندرو هنري” من خلال أراضٍ غير منظمة ويقعان حينها في فخ. بينما يصطاد هو وابنه “هوك”، يتعرضان في معسكرهم ومعهم 11 شخصًا لهجوم من قبل قبيلة “أريكارا”. يسترشد الناجون من الهجوم “بهيو غلاس”، ويذهبون سيرًا على الأقدام إلى “فورت كيوا”، حيث يعتقدون أن السفر عبر النهر سيجعلهم عرضة للخطر، بعد الهرب ينزل الناجون على شاطئ بقرب النهر. أثناء المطاردة يتعرض “جلاس” للهجوم من قبل دب رمادي يتركه على أبواب الموت،  فيقوم أحد رفاقه بنهبه، وقتل ابنه أمام عينيه، وتركه ليموت وحيدًا في الغابة، إلا أنه ينجو ويمضي في رحلة طولها 320 كم للانتقام من الرجل الذي خانه “جون فيتزجيرالد” (هاردي) وقتل إبنه.

  • بالنّسبة للإخراج

تفوق “أليخاندرو إناريتو” على نفسه، مخرجنا المكسيكي، القادم الينا من كوكب آخر بالنسبة لي انا شخصيًا في هذا العمل العملاق، فبين العبقرية والتميز يقف “اناريتو” مغردًا خارج السرب التقليدي ومحتضنًا الاوسكار من اوسع ابوابه ، كيف لا ؟ وقد أضاف له “العائد” أوسكارًا جديدًا، وهو أفضل مخرج أضيف لمكتبته الاوسكارية التي أصبحت تضج بأربع جوائز أوسكار هي كالتالي:

افضل فيلم ( Bird man 2014)

افضل مخرج ( bird man 2014 )

افضل كاتب نص أصلي  ( bird man 2014 )

افضل مخرج  ( the revenant  2015 )

ليصبح أول مخرج يفوز مرتين على التوالي عن فئة أفضل مخرج منذ فوز “جوزيف مانكيفيتس” في منتصف القرن الماضي. “إناريتو” القادر على تقديم مادة نادرة واستثنائية مبتعدًا عن الأفكار المكررة والمستهلكة التي كثر وجودها هذه الأيام، يعمل على الفكرة المطروحة ويعزز التحدث بالصورة والتعبير من خلالها بدلًا من الحوارات، فعندما تزور عالم مخرجنا الكبير، سوف تغرق في محيط من الثقل السينمائي المبني ليس فقط على السيناريو وترابط الأحداث بخطوط زمنية متشابكة، بل بعمق الصورة وثقل المشهدية التعبيرية .

وهنا في هذه الايقونة التي اتصفت بمشاهد منحوتة ومرسومة على شكل قصيدة مرئية تضج بأعمق اللوحات التي تطرح امامنا الكثير من الاسئلة وتحثنا على الاستنباط والتحليل، مشاهد تزخر برمزية الصورة وعمق المضمون، ومن اجمل المشاهد وأكثرها عمقًا بالنسبة لي كان مشهد الكنيسة الذي اتصف بالضبابية والرمزية الصارخة .

نرى “غلاس” امام كنيسة مدمرة الجدران، لا شيء فيها على تمام حاله الا الجرس الذي مازال يقرع وحده. برأيي بعد تعمقنا في فهم هذه المشهدية الرائعة نرى أن مفادها هو حضور الله الموجود فينا، مهما بدت لنا السماء ملبدة بالغيوم، ومهما بدا لنا النفق طويلًا ومظلمًا، فقرع الجرس بمفرده على الرغم من دمار الكنيسة، هو صورة للضوء الذي ينتظرنا في آخر النفق مهما كان شاقًا. بالاضافة إلى وجود ابنه هناك، بمعنى أنه وجد سلامه الداخلي الذي تجسد في اغلى شيء عنده، فتسنى له رؤيته للمرة الاخيرة وتوديعه قبل أن يرحل.

وفي مشهدية اخرى رائعة، يمرّ “غلاس” امام لوحة جدارية للسيد المسيح المصلوب، وهنا نرى التماهي والتقرب من عذابات المسيح على الصليب خصوصًا بعد أن تم الغدر به من قبل احد رفاقه.

  • بالنّسبة للأداء التمثيلي

لم ولن أشاهد سينما حقيقية أكثر من السينما التي شاهدتها في فيلم “العائد”، والفضل الأكبر يعود إلى الأسلوب الساحر في التصوير الذي انتهجه “ايمانويل لوبسكي” وأداء “دي كابريو” المنقطع النظير كما صرح “اناريتو” بنفسه. و ذلك بسبب ندرة الحوارات في العمل و التعويل الكبير من المخرج على أداء “ديكابريو” في المقام الأول و”توم هاردي” في المقام الثاني حتى “ديكابريو” حصته كانت 20% من الحوارات. وهذه إحدى أقوى نقاط الفيلم. كان أداء “ليوناردو” في الفيلم صارخًا وعميقًا ولم يكن له وجود في أي من أعماله السابقة.

كمية الانفعالات التي سكبها “ديكابريو” علينا في هذا العمل كانت الأقوى والأعمق، نرى قسوة الطبيعة ووعورة الدرب على وجهه، كانت أبرزها عند مواجهة الدب الرمادي في المشهد الأسطوري والأقوى بنظري حتى هذه اللحظة، جسد هذا الأخير المعنى الحرفي للصراع من أجل البقاء، ومن ثم رأينا الألم والمعاناة في إنفعال شديد القسوة أظهره لنا “ديكابريو” في مشهد موت ابنه “هوك” أمام عينيه وهو مسمّر على فراش الموت .

بالنّسبة للتصوير السينمائي

نأتي لفخامة التصوير وعبقرية عدسة “لوبسكي”.

أنه “ايمانويل لوبسكي مورغنسترن”هو مصور مكسيكي صاحب عدسة واقعية إلى حدٍّ مخيف .جسدت عدسته اعظم الأعمال وأكثرها ابهارًا، فقد عمل على إدخال المُشاهد في العمل وإشراكه كل تفاصيله عبر مشاهد طويلة عكست الإبداع بأبهى صوره، خصوصًا في فيلم “العائد” فقد جسدت عدسته رهبة الطبيعة وعظمتها عبر لقطات للجبال مع غيوم رمادية اللون زاحفة نحو اللامكان، فأضحى المشهد نسخة حية عن الواقع في هذه الايقونة.

عمل “لوبسكي” مع اهم المخرجين منهم: مايك نيكولز، مايكل مان، تيرينس مالك، تيم بورتن، الاخوان كوين واليخاندرو غونزاليز ايناريتو.

رُشح لوبزكي لثماني جوائز أوسكار عن فئة افضل تصوير سينمائي، وفاز ثلاث مرات على التوالي، عن الأفلام التالية:

‏ Gravity (2013)

‏ Bird man (2014)

‏The revenant (2015)

ليصبح أول مصور سينمائي في التاريخ يحصل على جائزة الأوسكار ثلاث مرات على التوالي .

  • نظرة عن قرب

احبائي السينافيليين، انتم تعلمون بأنه عندما تعشق عملًا حتى النخاع وتدمن الغوص في اعماقه وأبعاده الفلسفية منها والطبيعية، تعمد حينها إلى البحث والتفتيش عن مواضيع واحداث جرت خلف الكواليس، لتتقرب أكثر إلى ايقونتك المفضلة وتصبح جزءًا منها، وبالفعل هذه أبرز الحقائق المبهرة التي توصلتُ إليها وأحببتُ أن اشارككم إياها:

  • استغرقت رحلة “هيو جلاس” في الحقيقة ما يقارب ستة أسابيع .
  • استغرق إنتاج the Revenant من البداية إلى النهاية خمس سنوات .
  • أصيب “ديكابريو” بالإنفلونزا عدة مرات أثناء التصوير .
  • إن أحشاء الحصان التي لجأ إليها “ليوناردو ديكابريو” كانت مصنوعة من اللاتكس والشعر، بحيث وصف لاحقًا ديكابريو هذا المشهد بأنه أحد أصعب الأشياء التي كان عليه القيام بها.
  • استخدم قسم المكياج في الفيلم 47 قطعة اصطناعية منفصلة.
  • إن تطبيق جروح “هيو غلاس”، استغرقت جلسة لمدة خمس ساعات متواصلة .
  • اضطر “ديكابريو” إلى الاحتفاظ بلحيته لمدة ستة أشهر بسبب التأخير في التصوير.
  • عانى “هيو غلاس” من تمزق شديد وكسر في ساقه خلال هجوم الدب الأسطوري وقد فقد حوالي 30٪ من دمه ، فقام المخرج “اناريتو” بتصوير هذا التسلسل بأكمله في لقطة واحدة.
  • أثناء إعادة رحلة ال”100 ميل” الاسطورية “لهيوجلاس” في النهر الكبير، امتص رداء جلد الدب “لديكابريو” حوالي 50 رطلًا من الماء المتجمد.
  • تعلم “ليوناردو ديكابريو” أن يتكلم كلًا من اللغتين “الأريكارا” و”الوباوني”.
  • لم يعتقد “توم هاردي” أنه سيُرَشح للأوسكار عن فيلم the Revenant ، فراهنه “دي كابريو” وقال له أنه سيُرَشح، وإن خسر الرهان فعليه أن يضع وشم “ليو يعلم كل شيء”، وبالفعل تم ترشيح “توم هاردي” للاوسكار كأفضل ممثل مساعد في الفيلم فخسر الرهان ورسم الوشم.
  • بالنّسبة للاستقبال النقدي

تُوِّجَ فيلم ” the revenant “بثلاث جوائز أوسكار، عن أفضل ممثل بدور رئيسي حصل عليها “ليوناردو ديكابريو” بعد ستة ترشيحات، وأفضل إخراج “أليخاندرو إناريتو” وأفضل تصوير “ايمانويل لوبزكي”. وتلقى مراجعات إيجابية من النقاد، حيث حصل على تقييم 81% على موقع rotten tomatoes بناءً على 193 مراجعة نقدية، مع متوسط تقييم 7.9/10، حيث كان الإجماع النقدي للموقع هو: “بجماله الصارخ وبقسوته الشديدة، يستخدم “العائد” أداء “دي كابريو” المتفاني كوقود لهذه الدراما المشوقة التي تُقدم تحديات صعبة وثمارًا غنية”. على موقع “ميتاكريتيك” حصل الفيلم على تقييم 77 من 100 بناءً على 48 مراجعة نقدية وعلى موقع IMDb الشهير حصل على 8.0/10 .

Leave a Comment