اقتصاد

عام جديد وأوضاع أكثر كارثية مقبلة على اللبنانيين والمقيمين

عماد زهير

يستقبل اللبنانيون عاماً جديداً يتوقعون معه أن تصبح الأمور أكثر سوءاً مما عرفوه في العام المنصرم. ولا ينطلق ذلك من التخلي عن عادة التمنيات المتفائلة أو أن طائر البوم كنذير شؤم بات يسيطر على هواجسهم وتوقعاتهم، بقدر ما تؤكده خبراتهم المكتسبة في متابعة أوضاعهم، وهي تتهاوى يوماً بعد يوم، وشهراً وراء آخر، وعاماً بعد سابقه. وعليه فقد مر العيدان دون أن تشعر به حوالي 90 % من الأسر اللبنانية والمقيمة. فلا المأكل هو ما درجوا عليه، ولا الملبس ولا الهدايا ولا السهرات كتلك التي كانوا يمارسونها في الأعوام المنصرمة استطاعوا الحصول على النذر اليسير منها. بالطبع خفف من وقع الوضع عودة عشرات ألوف اللبنانيين من المهاجر لـ ” مواساة” ذويهم في نكد عيشهم اليومي، وبالطبع حمل هؤلاء معهم لذويهم الأدوية ومساعدات نقدية بالدولار.

والملفت أن هذا الوضع الجهنمي لا يجد أمامه حدوداً دنيا من المسؤولية بالنسبة للقوى والسلطات السياسية الطائفية التي استنزفت كل محاولات ونداءات واستعدادات المساعدة من الخارج، وآخرها مجيء الأمين العام للأمم المتحدة إلى لبنان ومقابلته للمسؤولين وزياراته للعديد من المناطق والمخيمات. بعد أن سبقه ممثلي المنظمات الدولية الذين قرَّعوا آذان المسؤولين بدعواتهم للاصلاح وإعادة بناء الهيكل المتهدم دون أن يجدوا أي إصغاء. وهكذا أقفل مسؤولونا الأبواب أمام أي نصائح ودعوات بضرورة المسارعة للقيام بحلول اصلاحية علّها تساهم في تخفيف أو وقف الانهيار. فعلى الصعيد السياسي هناك ما يشبه القناعة في الداخل والخارج أن الأوضاع تسير إلى احتدام العراك على المحاصصة بين مكونات السلطة السياسية. وما المواقف اليومية المعلنة بين هذه مواقع القوى الا بمثابة دليل اضافي على أننا نشهد مرحلة تصاعدية من احتدام الصراع بينها. خصوصاً ونحن ندخل في الأشهر القليلة المتبقية من حياة العهد، الذي يبدو أنه يخسر حتى حلفائه الأقربين – أي حزب الله ـ. ونتيجة سياساته وعناده قد يدفع الأمور نحو تحويل الاضطراب السياسي المحتدم إلى اضطراب أمني يضيف “نغمة إلى الطنبور” المعروف، ويدفع بالأمور إلى الأسوأ. والحكومة التي راهن عليها البعض أن تتمكن من خلال سياسة “تدوير الزوايا” إدارة الأمور سقطت في العجز عن مجرد عقد الاجتماع، وليس اجتراح الحلول والمعالجات. وسيد العهد يعلن أنه لن يوقع على أي مرسوم قد يعرض عليه ولن يطلب عقد دورة استثنائية لمجلس النواب رداً على تعذر عودة مجلس الوزراء للانعقاد بسبب موقف الثنائي الشيعي. وهكذا تعلو رايات معادلة قوامها ” عطل لي تعطلك”. بينما المعركة حول قاضي التحقيق العدلي في جريمة تفجير المرفأ ما تزال محتدمة. أيضاً، ما أشيع منذ النجاح في تشكيل الحكومة عن نوافذ دولية وعربية من شأنها أن تخفف من الارتطام الكبير بالقاع، باتت موصدة بأقفال “انجليزية” لا يريد أحد من الداخل فتحها بتقديم تنازلات من حسابه.

كل هذا يعاينه المواطنون صبح مساء. ولكنهم في الوقت ذاته غارقون في تدبير أمورهم الحياتية وسط صعوبات لم  يألفوها منذ تأسيس الكيان والدولة. فالدواء رغم تحرير أسعار معظمه ما زال مفقوداً من الصيدليات، والدخول إلى المستشفيات بات أكثر استحالة بفعل انهيار النظام الصحي وما يرتبط به من صناديق ضامنة وعجز في الوزارة، ومعه ترتفع نسبة من لا تغطية صحية لهم. أما من لديه تغطية فعليه دفع فوارق بملايين الليرات عن أي عملية استشفاء بسيطة. هذا عدا أزمات توفير المحروقات بالدولار الطازج، ناهيك بهجرة الأطباء والممرضين والمخبريين من البلاد. يحدث هذا التردي وسط تفشي وباء الكورونا بنسخة “أوميكرون” الأشد خطورة، ومحاذرة السلطة اقفال البلاد والعودة إلى نظام حظر التجوال لتمرير موسم الأعياد، والإفادة من  انفاق الدولارات التي يؤمنها العائدون وينفقونها في الأسواق والمطاعم وغيرها. ومعه ترتفع نسبة الإشغال في الأسِّرة إلى نسب قياسية، مهددة بالوصول إلى الإشباع الكامل. وبالتالي العودة إلى العجز عن استقبال الحالات اليومية من المصابين بالوباء. وفي القطاع التعليمي تعيش الجامعة اللبنانية اضراباً للمتعاقدين يشل كلياتها، مطالبين بحقوقهم في التفرغ والمتفرغين بالدخول إلى الملاك. في الوقت ذاته تنزف الجامعات الخاصة كادرها التعليمي مع تدهور أجوره. أما قطاع التعليم العام فقد ابتكر وزير التربية والتعليم العالي جديداً عندما أعلن عن فرصة عيدي الميلاد ورأس السنة بما يتجاوز الشهر تماماً، علماً أن الدروس لم تبدأ عملياً قبلها. واقتصر الحضور على بعض الاداريين لعجز المعلمين والأساتذة عن تأمين مواصلاتهم من وإلى المدارس. كذلك فالقطاع الخاص التعليمي ونتيجة طبيعية للأزمة التي ضربت مداخيل الأهالي يمر بمرحلة بالغة الصعوبة في تسيير أموره، ودفع ما عليه من مستحقات للمعلمين والأساتذة . ويزيد الطين بلة ضرورة تأمين الوقود للتدفئة بأكلافه المرتفقعة. وهكذا يمكن القول إن القطاع التعليمي برمته سيعود حكماً إلى مبدأ التعليم عن بًعد، بعد أن تتالت الوعود بالعودة إلى التدريس المباشر.

وبالانتقال إلى الأوضاع المعيشية لم تؤدٍ البدع المستحدثة حول قبض الأجور بالدولار على سعر منصة صيرفة وإعادة بيعها للصرافين وتحقيق فارق زهيد إلى أي تحسن في وضعية رواتب العاملين في القطاع العام والخاص والعسكريين. كما أن الزيادات الطفيفة على الأجور لموازاة الانهيار في سعر صرف العملة الوطنية تبين أنها أشبه بـ “لحس المبرد”. بينما تسجل أسعار السلع والمواد الاستهلاكية المزيد من الارتفاعات الخيالية. فاللحوم والأسماك باتت خارج قائمة التناول كلياً في بيوت ما كانت تسمّى بالطبقة الوسطى. وسعر ربطة الخبز في ظل وضع العملة اللبنانية وارتفاع سعر طن القمح في السوق العالمي وزيادة الأكلاف وجشع أصحاب الأفران والمطاحن قد يصل إلى أرقام خيالية يجري التمهيد لها بـ “التبشير” أن سعر الربطة سيصل قرابة حدود الـ 30 ألف ليرة. وأسعار الخضار والفواكه بدورها ارتفعت لتصبح خارج قدرة الأسر على الاستهلاك اليومي. وأكلاف أي طبخة للعائلة، وليس بالضرورة أن تشتمل على اللحوم أو الفروج بات يتطلب عدة مئات الألوف من الليرات. ومواد التدفئة تسجل أسعاراً خيالية، بينما الأسر في المناطق الجبلية تحتاج كحد أدنى إلى صفيحة مازوت كل يومين، علماً أن العائلات الفقيرة لم تستطع تركيب أجهزة التدفئة هذا العام لعجزها عن شراء المازوت. وأثمان البنزين والكاز وغيرها من مشتقات النفط باتت تتعرض إلى جداول تسعير لعدة مرات في الأسبوع الواحد. باختصار تتضاعف أرقام العائلات التي تعاني الجوع نتيجة ارتفاع أبسط المواد الاستهلاكية من الالبان والأجبان وكرتونة البيض والفروج والبطاطا والعدس والزيوت والمناقيش إلى قارورة الغاز التي باتت تلامس الـ 300 ألف ليرة وهكذا دوليك.

إذن تبدو المشكلة مستعصية، وخصوصاً لدى العائلات التي لا تملك رواتب نتيجة البطالة من جهة، أو تلك التي تملك رواتب محدودة كما هو عليه حال الجنود وقوى الأمن والمعلمين والموظفين والعمال والمياومين ومن يشابههم. وباختصار يمكن القول إن كل الأسر التي لا تتمتع بمصدر مالي بالعملات الصعبة من الخارج تعجز عن تأمين وجبات طعامها اليومي ليس فقط نتيجة انهيار سعر صرف الليرة، بل نتيجة زيادة الأعباء عليها ولا سيما تأمين الطاقة الكهربائية من المولدات وغيرها. وتوقع الأسوأ لم يعد رجماً بالغياب، فرفع سعر الدولار الجمركي مع مطلع العام وبدلات اشتراك الانترنت وقيمة الضرائب لتجاري الأسعار السائدة للصرف، كما بات متوقعاً من شأنه أن يطلق موجة عاتية من التضخم. وبالتالي ارتفاع الأسعار ما يجعل اللبنانيين والمقيمين يترحمون على عام 2021 مع كل ما رافقه من المآسي والعذابات والإذلال. ومن المعلوم أن التقارير الدولية وتقديرات الخبراء المحليين كانت قد تقاطعت عند نتيجة مؤكدة مفادها أن هناك مزيداً من المواطنين والمقيمين ينضوون يومياً في خانات العائلات المعسرة التي لا تستطيع تأمين قوتها البسيط وحاجاتها الضرورية. فمثلاً  كشف تقرير أعده البنك الدولي في الشهر الأخير من عام 2021 عن توسع هائل في حزام الفقر في لبنان، الذي بات يضم فئات ‏وشرائح جديدة قدر عددها  بنحو 2.3 مليون نسمة. وبحسب ما جاء في التقرير، يتوزع هؤلاء الفقراء بين 1.5 مليون لبناني ‏و780 ألفاً من النازحين السوريين. واذا ما أضيف الفلسطيينون في مخيماتهم للإحصاء ومعهم المقيمون فيها يتبين أن العدد يرتفع ليصل حوالي 3 مليون نسمة. ويرصد التقرير ارتفاع نسب الفقر عند ‏اللبنانيين خلال العام الحالي بواقع 28 نقطة، مقابل 13 نقطة مئويّة في العام ‏‏2020، وارتفاع النسبة عينها بمقدار 52 نقطة مئوية بين النازحين في العام ‏الحالي، مقابل 39 نقطة في العام السابق.

‎بدورها  أجرت “الإسكوا” تقويماً للوضع يتجاوز ما توصل إليه البنك الدولي بأشواط. فقد أظهر آخر تقرير لها، أن “معدّل ‏الفقر في لبنان تضاعف من 42 في المئة في عام 2019 إلى 82 في المئة من ‏إجمالي السكان في عام 2021، مع وجود ما يقرب من 4 ملايين شخص ‏يعيشون في فقر متعدد الأبعاد، وهم يمثلون نحو مليون أسرة، بينها 77 في ‏المئة، أو ما يقارب من 745 ألف أسرة لبنانية‎.

ومن المعروف أن ارتفاع معدّلات الفقر يتناسب طرداً مع تفاقم نسب التضخّم وتآكل القدرات ‏الشرائية للمداخيل. فقد سجل مؤشر الأسعار، حسب رصد إدارة الإحصاء ‏المركزي اللبناني، زيادة سنوية نسبتها 173.57 في المئة حتى نهاية تشرين ‏الأول الماضي، لتصل حصيلته الرقمية التراكمية إلى نحو 715 في المئة، في ‏مقابل نحو 262 في المئة للحصيلة المجمعة في نهاية الشهر عينه من العام ‏الماضي. وباتت الخسائر التراكمية في القدرات الشرائية شبه موازية لتفاقم ‏انهيارات سعر صرف الليرة بمقدار يساوي نحو 17 ضعفَ ما كانت عليه قبل ‏انفجار الأزمات‎.

‎وتخشى المؤسسات الدولية التي تتابع عن كثب تفاقم التداعيات المستمرة لتفجر ‏الأزمات في لبنان والتي دخلت للتو عامها الثالث على التوالي، من انهيارات ‏قاسية ينتجها التضخم المفرط المندفع أخيراً بقوتي رفع الدعم واستمرار ‏انهيارات سعر صرف الليرة في المنظومتين الاجتماعية والمعيشية، ما يترك مضاعفاته لجهة توسيع نطاق  الفوضى والإخلال بالاستقرار الأمني الهش بعد الارتفاع الحاد ‏في مؤشر الفقر فوق حدود 80 في المئة من المقيمين، وهو ما أكدته ‏استطلاعات ميدانية لمنظمة “اليونيسيف”، حين أظهرت أن 8 من كل 10 أشخاص ‏يعيشون في فقر، بينهم 34 في المئة يعيشون في حالة فقر مدقع‎. ولعل ارتفاع معدلات السرقات كما يظهر من بيانات أجهزة الأمن، وتصاعد حالات الانتحار واليأس وغيرها من ظواهر ترجح أن البلاد تدخل في عملية متداخلة على الصعد الاجتماعية المعيشية والأمنية والنفسية في ظل عجز أرباب الأسر عن تأمين حاجات عائلاتهم الأولية.

إن التدهور المستمر والمتصاعد في قطاعات الاقتصاد و‏الأوضاع المالية، ينذر بالمزيد من توقف الخدمات العامة لا سيما في مجالات الصحة والتعليم والاتصال وغيرها. ما يضع على المواطنين والمقيمين أعباء لا طاقة لهم بتحمل أكلافها. كما أن التراجع المتمادي في سعر صرف العملة الوطنية من شأنه أن يدفع إلى ارتفاعات حادة  في ‏أسعار الاستهلاك والمحروقات والنقل والأدوية والتغذية بالكهرباء من المولدات ‏الخاصة وسواها من متطلبات الحياة اليومية، وهذا يعني أن ما تحقق من فقر وأزمات في العام المنصرم سيكون أشمل في العام الجديد‎. وكل عام وأنتم بخير!!.

 

Leave a Comment