سياسة

عام آخر من التحديات والمخاطر والأسئلة الصعبة

كتب زكــي طــه

رغم أن اللبنانيين أنهوا عاماً كارثياً بكل المقاييس، فإن ما ينتظرهم في عامهم الجديد تبعاً للمعطيات، مرشح أن يكون أشد صعوبة واكثر إيلاماً. خصوصاً أن  أطراف المنظومة الحاكمة لم تزل تتعامل مع الانهيار المخيِّم على البلاد، باعتباره فرصة استثنائية، يجب استغلالها لتعويض ما فات بعضها من أهداف في محطاتٍ سابقة، عبر إعادة النظر بالتسويات القائمة. أو تحصين المواقع الحالية للبعض الآخر، وبالتالي تكريس أدوارها في شتى ميادين السياسة والاقتصاد بقوة الأمر الواقع لتعزيز وتوسيع قاعدة سيطرتها ونفوذها.

 هذا ما تشي به مسارات تشكّل قوى السلطة ومراحل سيطرتها وتحكمها بالبلد على تفاوت تواريخها إبان الحرب الأهلية، وما تلاها طوال عقود ثلاث من مواجهات رافقتها اصطفافات وتشكيل جبهات، ظللتها رايات الخصومة أو العداوة، وتخللتها انفجارات واشتباكات انتهت بمجملها إلى تسويات أو اتفاقات مؤقتة، كما تؤكده أيضاً رهاناتها وأدائها. ما يعني أن تداعيات الانهيار السياسي والاقتصادي- المالي، والأوضاع الكارثية ستتحول مادة دسمة بالنسبة لاطراف الداخل والخارج، لتبرير استمرار التلاعب بالبلد، وتصعيد المواجهة بينها بشكل غير مسبوق، ما يجعلها صراعات حول الوجود والأدوار والمصير في آن.

وعليه  تُقرأ المواقف والممارسات الراهنة، بدءاً من العهد المكبل بأزماته والمحاصر ضمن بيئته، والذي تعكس حالته ما آل إليه وضع البلد المقيم بين الانهيار والانفجارات المتنقلة والفوضى الأهلية المتصاعدة. إلى الرئيس المكلف الحالم بتشكيل حكومة تمكنه من ترميم موقعه القيادي واستعادة إرث أضاعه، إلى ثنائي ساعٍ لتشريع هيمنة طائفية استناداً إلى فائض قوة حزب مستمدة من الاستقواء بمشروع إقليمي، فيما الآخرون يصارعون وفق معادلات صعبة للبقاء شركاء في السلطة والمغانم. لذا فإن الوضع سيشهد المزيد من التعطيل لمواقع الحكم وشلل مؤسسات الدولة وأجهزتها، بالتزامن مع تصاعد حدة الدمار الاقتصادي والمالي وتعميق الانقسام الاجتماعي والأهلي. 

وفي هذا الإطار فإن التعثر المستمر في ملف تشكيل الحكومة، والمرشح للاستطالة، هو انعكاس لاستعصاء التأليف داخلياً وخارجياً. لأن أطراف الداخل المعنية بالأمر وبالنظر إلى التوازنات القائمة وطبيعة الاستحقاقات المصيرية المستقبلية لكل منها، تدفعها إلى اعتماد أقصى درجات التصلب ورفض تقديم اية تنازلات، ما يحول دون تحقيق أي اختراق في المدى المنظور.

 فرئيس الجمهورية المتحصن بموقعه يخوض معركة تثبيت ما انتزعه من صلاحيات تتعلق بدوره، وتكريس ما اقتطعه من مواقع سلطة لتياره بقوة التعطيل المتكرر، ومحاولة توظيفها لفرض رئيس التيار شريكاً رئيسياً في عملية التأليف والاستئثار بالتمثيل المسيحي، للبقاء مرشحا رئاسياً أساسياً ووريثاً للعهد، في مواجهة التعطيل المحتمل لانتخابات الرئاسة القادمة. ولذلك فإن شروط العهد وصهره لتشكيل الحكومة والتحكم بعملها، أطاحت بوساطة البطريرك الماروني وأفشلت محاولته تدبير مخرج لهما من مأزق التأليف والعزلة الخانقة في ظل تصاعد المطالبة باستقالة الرئيس.

لا يختلف الأمر مع الرئيس المكلف، الذي يصارع لترؤس حكومة  تتولى مقاليد الرئاسة في حالة التعطيل المرتقب. ولذلك يستقوي بتحالف رؤساء الحكومة السابقين، ويتحصن بشروط الخارج “الاصلاحية”، متسلحاً بالمبادرة الفرنسية سبيلاً للانقاذ من الانهيار الاقتصادي والمالي، ولتعزيز موقعه وترميم تياره المفكك. ولذلك فهو لا يتورع عن استغلال أخطاء القضاء حول التحقيق في انفجار المرفأ، في إطار الصراع لاستعادة صلاحيات الموقع التي جرى التفريط بها تباعاً، من أجل عودته إلى رئاسة الحكومة وفق شروط تحالف حزب الله والتيار الحر، سواء عبر التسوية الرئاسية أو مع حكومات العهد السابقة.

وفي المقابل فإن مجريات المعركة الدائرة في ملعبي رئيس الجمهورية والحكومة المكلف، هي الأكثر ملاءمة للثنائي الشيعي. فرئيس المجلس النيابي يتابع بشغف مأزق العهد وتياره لأنه يُحملهما ضمناً القسط الاكبر من المسؤولية ليس عن أزمة التاليف فحسب، بل عن الانهيار الاقتصادي والمالي. يؤكد ذلك  تجاهله معركة تأليف الحكومة، وتعامله مع رسالة العهد إلى المجلس بشأن التحقيق الجنائي، وإعادة الكرة إلى ملعب الرئاسة. أما في ما خص الرئيس المكلف فهو لن يتدخل لنجدته، إلا في ضوء استجابة الأخير لطلباته وشروطه المتعلقة بالحكومة العتيدة.

أما حزب الله فأن مسار التأليف المتعثر لاسباب تتعلق بالآخرين، لا تشكل مصدر قلق بالنسبة له. ما يعني أن تدخله لفرض شروطه مؤجل ومرهون إما باتفاق الآخرين، أو اختلال التوازن لغير مصلحة العهد وتياره. ولذلك فإن أولويات الحزب تكمن في ترتيب شؤون جبهاته المتعددة سواء في الداخل أو الخارج، وفق الوقائع الميدانية، وهو ما أكدته مقابلات أمينه العام الأخيرة. ففي الداخل أنجز الحزب جملة من الترتيبات الاقتصادية والمالية والاجراءات الأمنية التي تريح وتطمئن بيئته الحاضنة حسب تقديره، متجاهلاً في ذلك ما يتخبط به من أزمات خانقة سائر اللبنانيين في مختلف المناطق، متحللاً من أي مسؤولية عما حلَّ بالبلد وباقتصاده  من حصار وعقوبات جراء سياساته الاقليمية. ولأنه يرى أن مصير البلد تقرره نتائج المواجهة المفتوحة بين إيران وأميركا واسرائيل ومن يحالفهما من الأنظمة والجهات “المتآمرة والعميلة”، فإن الأولوية لديه تتعلق بمسؤولياته في حماية البلد وثرواته، كما في إدارة الصراعات والحروب المفتوحة في سوريا والعراق واليمن وسائر ساحات المواجهة في إطار المشروع الإيراني بقيادة الولي الفقية. بينما مجريات الواقع اللبناني ومضاعفات الانهيار وحياة اللبنانيين ومعاناتهم، تبقى تفاصيل بالمقارنة مع أحوال ومآسي مجتمعات تلك البلدان، وأمام دوره الاسترتيجي. أما اطمئنان الحزب في الداخل اللبناني فمرده اختلال التوازنات السياسية والميدانية لمصلحته، وقدرته التعطيلية لجميع الاستحقاقات بقوة الأمر الواقع، والتي تمكنه من التحكم بمختلف شؤون السلطة والحكم في شتى المجالات والميادين. بما فيها تشكيل الحكومة التي لم ولن تتشكل مهما كانت الأكلاف وطال الوقت إلا وفق شروطه فقط، كي تضاف إلى سجل الانتصارات على الأعداء وأدواتهم المحلية والإقليمية.

وبما أن أطراف الداخل المتسلطة على البلاد، وأطراف الخارج المتدخلة في شؤونه وإدارة أزماته، تعمل كلٌ وفق مصالحها، فإن البلد سيبقى أسير صراعاتها معرضاً للمزيد من الانهيارات والمخاطر المصيرية. الأمر الذي يضع اللبنانيين بمختلف فئاتهم المتضررة في مواجهة الأسئلة الصعبة والتحديات الأشد صعوبة جواباً عليها خياراً وحيداً يقودهم نحو الانقاذ والخلاص، بديلاً عن إدمان الرهانات الخاطئة والابتعاد عن التبسيط والاستسهال مما يديم المآساة ويضاعفها ويجدد المهزلة.

Leave a Comment