سياسة

رسائل العهد والمسؤولية عن الأزمات

كتب زكي طه

لم يعد اللبنانيون بحاجة لمن يطلعهم على أحوال البلاد، ولا إلى من يخبرهم عمّا هم فيه من سوء أحوال، أو من هو المسؤول عن الأزمات التي عصفت بهم وسط المآسي والكوارث المتوالية التي يعجزون عن تعدادها، كما في وصف طبيعتها وتصنيف مستوياتها. ولأن المكتوب يُقرأ من عنوانه، فإن الأكثرية الساحقة منهم تدرك جيداً أن ما يرد في بيانات وتصاريح واعلانات أركان السلطة وقواها الحاكمة، ليس سوى دلائل دامغة وصريحة على مستوى احتدام الصراعات بينهم، حول مختلف قضايا البلد وأزماته وشؤون السلطة والحكم في آن. كما وأنها أيضاً تشكل مؤشراً واضحاً على الاتجاه الذي يُقَادون إليه في ظل الازمات التي تعصف بالكيان في ظل اختلال ميزان القوى الداخلي.

    والدليل الأخير على ذلك، أن رسالتي العهد لم تشكلا خروجاً على السياق الذي يحكم العلاقة بين اطراف السلطة، حيث أن كلاً منها يحاول ووفق المتاح له من إمكانات خوض معاركه الدفاعية عن موقعه ودوره وأدائه. وهي المعارك التي غالباً ما تكون هجومية حيال  شركائه الذين لا يقلون كفاءة في الدفاع ومحاولة رد الهجوم. ما يضمن للجميع  بالنتيجة حداً من “التوازن” ومخارج مقبولة على قاعدة التكافل والتضامن سواء في تأمين المصالح المشتركة، أو في إدامة التعمية على ممارساتهم، بصرف النظر عن استمرار تبادل التهم وتقاذف المسؤولية عنها.

    ورغم أن الرسالة الأولى موجهة للبنانيين، والثانية برسم المجلس النيابي، إلا أن التوجه الذي حكم مضمونهما، لجهة تقاذف المسؤوليات وتوزيع الاتهامات عمّا آلت إليه أحوال البلاد وأهلها وسط صراعات أهل السلطة حول سياساتهم وأدائهم المشترك وارتهاناتهم للخارج وما أدت إليه من مخاطر وكوارث. أو لناحية وجهة صياغتها حيث البارز فيها تقديم صاحبها، وكأنه  مراقب محايد أو قائد معارض من خارج المنظومة، وبالتالي إعفاء موقع الرئاسة والمحيطين به من أي مسؤولية عن المشاركة في ما كان وجرى وما هو مستمر.

    من طبيعة الطبقة السياسية الحاكمة هو تطابقها مع صيغة النظام. ما يشكل مصدر قوته وأزمته في آن. إذ إن قواه ومن خلال “آليات عمله” وصراعاتها وتوافقاتها تعيد إنتاج مبررات وجودها وسياساتها، بما يمكنها أيضاً من تجديد بنيتها وقواها. كما وأن استحالة تأمين التوازن “الدقيق والعادل” في ما بين قوى النظام القائمة على التمثيل والمحاصصة الطائفية، يبقيه مأزوماً على الدوام، مشرعاً على التعطيل كما هو حاصل في تشكيل الحكومة والتحقيق الجنائي المالي والتحقيق حول انفجار المرفأ و..، والأزمة في هذا السياق لا تعني ضعفاً أو مؤشراً لاحتمال الانهيار، إلا أنها تشكل دليلاً قاطعاً على قصور النظام وقواه عن معالجة ما ينجم عن سياساتها وممارساتها، واقتصارها على تسويات، سرعان ما تنفجر في صيغة أزمات ومشكلات تطال مختلف شؤون السياسة والاقتصاد بكل مستوياتها وأصعدتها، وارتباطاتها بين قوى الداخل والخارج على السواء، بما فيه قدرة هذا الطرف أو ذاك على التعطيل والتلويح باستخدام السلاح، ما يبقى على الانقسامات ومعها شبح الحروب الأهلية سلاحاً حاضراً إذا استدعى الأمر.

     وما تجدد أزمات الحكم وترابط أصعدتها بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وارتباطها بأزمات المنطقة، إلا المدخل إلى تشابكها واحتدامها واختلاط “الحابل بالنابل” بين الخارج والداخل. وهذا ما يحولها عوامل أساسية في إعادة انتاج ليس قوى النظام وحسب، إنما إعادة تأهيله أيضاً وفق معادلات مختلفة تستند إلى توازنات القوى ومستجداتها،  ومراعاة مصالح أطراف الداخل والخارج على السواء.

    ولذلك فلا عجب أن رسائل العهد والردود عليها والسجالات حولها سواء تعلق الامر بتعطيل تشكيل الحكومة، أو لناحية ما صدر بشأنها عن مجلس النواب شكلاً ومضموناً، رداً حول التحقيق الجنائي في مصرف لبنان والاعلان عن قرار يقضي بتوسيع أفق ومجالات التحقيق لتشمل سائر الوزارات والإدارات العامة، يعني فعلياً أن لا تحقيق ولا تدقيق، وبالتالي ضياع أموال المودعين في صراعات التضييق والتوسيع، وبالتالي البقاء في المستنقع القائم، وذهاب المطالبات المحلية والدولية بالاصلاح الاقتصادي أدراج الرياح.  ما يشكل انعكاساً لذروة الأزمة بين قوى الطبقة السياسية الحاكمة بمشاركة حلفائها في الخارج حول صيغة الحكم وتوازنات قواه كما حول قضايا الاقتصاد المنهار بالكامل، وشؤون المجتمع الذي يعاني من الانقسام والتفكك، بالإضافة إلى ما حلّ به من أوضاع معيشية قاهرة. ما يجعل المرحلة الراهنة في تاريخ البلد الأكثر خطورة على مصير الكيان، بالنظر لتزامنها مع احتدام الصراعات الاقليمية ـ الدولية حول وشتى ساحات المنطقة، وسط تصاعد الحروب والنزاعات الأهلية الدائرة فيها، وبقائها مشرّعة على المجهول، في وقت يفتقد لبنان الحد الأدنى من الحصانات التي تجعله بمنأى عن هذا الكم الوافر والمتداخل من المخاطر المحدقة.

   وعليه، ولأنه من المستحيل أن يُقدم أركان الطبقة السياسية الحاكمة بكل موروثها الميليشياوي الطائفي وفسادها الاقتصادي المالي والثقافي والأخلاقي، طوعاً على أمر يتناقض مع طبيعتها ومصالحها، فإنه سيكون من العبث البحث عن حلول اصلاحية في دهاليز سياسات هذه الطبقة وخلافاتها، أو انتظار إجراء تحقيق جنائي حول ما ارتكبته من نهب وهدر لأموال اللبنانيين والخزينة ومعهما أموال القروض والمساعدات.

    لذا فإن مهام إنقاذ الوطن، تقع على عاتق ومسؤولية أصحاب المصلحة الحقيقة بكل تشكيلاتها الاجتماعية المتنوعة والمتعددة، سبيلاً وحيداً للخلاص مما هم فيه من أزمات خانقة، ومخاطر تهدد مصير ومستقبل هذا الوطن وعموم أبنائه. وهو التحدي الصعب لكن الرد الوحيد المتاح أمامهم، هو الصمود والمواجهة بديلاً عن اليأس وانتظار المجهول. 

Leave a Comment