سياسة مجتمع

خيار الانقاذ الصعب بديلاً عن معادلة الموت ذلاً أو القتل والدمار

زكـي طـه

“نصر الله: وصلنا الى آخر الخط…”. وآخر الخط هو محطة الذروة في الصراع، قبل نهاية الأزمة. من المؤكد أن الصراع حول أزمات المنطقة ولبنان منها، قد بلغ ذرىً غير مسبوقة. لكن القول إننا وصلنا إلى آخر الخط فيه الشيء الكثير من الارادوية المفرطة. لأن آخر الخط لا يقرره أحد اطراف الصراع وهم كثر. عدا الكثرة، هناك تعدد المصالح التي يتشابك فيها الدولي بالاقليمي والمحلي، كما يتداخل فيها السياسي بالاقتصادي والاجتماعي والأمني. أما الارادوية التي تظلل تهديدات أمين عام حزب الله، فإن خطبه تنطوي على الكثير من مستنداتها، عبر تعداد ما يراه من انجازات وانتصارات محققة في الحروب والمنازعات، التي كان حزبه طرفاً مشاركاً فيها محلياً واقليمياً على امتداد أربعة عقود.

يستطيع أي طرف أن يختار الصيغة التي يرتأيها لتنفيذ مشروعه السياسي وأهدافه وأن يعلن ما يعتقد أنه الحقيقة أمام جمهوره، وأن يطلق الوعود، ويحدد مواعيد الانتصارات القادمة، وأن يتجاهل أثمان سياساته وأكلافها ومفاعيلها السلبية والمدمرة على البلاد والعباد، وقسطه من المسؤوليه عنها. غير أنه لا يستطيع قصر ما تراكم من الوقائع والمعطيات وما هو قائم منها راهناً، وحشرها في زاوية ضيقة يتحكم بها، ويقرر بموجبها الخاتمة التي يريد لأوضاع البلد، اعتقاداً منه أن باستطاعته إقناع الآخرين، أو إجبارهم على الانصياع لمشيئته بدعاوى انقاذهم.

كثيرة هي العوامل التي جعلت ملف ترسيم الحدود البحرية اللبنانية الجنوبية يتصدر سائر الاستحقاقات الداخلية الداهمة. بدءاً من أزمة النفط والغاز العالمية وحاجات السوق الاوروبي والاميركي منها في أعقاب الحرب الروسية على أوكرانيا. إلى أولويات المصالح والدور الاميركي في المنطقة، وموقع اسرائيل في المنطقة، وفي المواجهة القائمة والمرشحة للتصاعد مع كل من روسيا والصين، والتي تشكل منطقة الشرق الأوسط واحدة من ساحات صراع المصالح الاستراتيجية.

وفي هذا السياق تقع الوساطة الاميركية لترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل وسط انحياز تام للأخيرة، وتسريع التحضيرات لانتاج وتصدير الغاز منها إلى أوروبا، مع انتهاء مرحلة التنقيب في المنطقة الحدودية مع لبنان وحسم موضع النزاع الحدودي. في موازاة تعثر المفاوضات الدائرة بين الولايات المتحدة وايران حول ملفها النووي واسلحتها الاستراتيجية وسياساتها في المنطقة، وتزايد احتمالات تجدد جولات جديدة من التصعيد الميداني في ساحات المنطقة، ما يحول دون الاستفادة المتبادلة من امكانات ايران النفطية، نظراً للحصار والعقوبات المفروضين عليها.

أما داخلياً فقد شكل تزامن العوامل الخارجية مع الاستحقاقات الدستورية الداخلية الداهمة، وخاصة انتخابات رئاسة الجمهورية، فرصة للعهد الذي يقترب حثيثاً من نهايته، كي يستغل ملف ترسيم الحدود لتحقيق انجاز ما بأي ثمن، معتمداً نهج التعطيل إلى حد التفريط بالمصالح والحقوق الوطنية، لاسناد محاولات تثبيت موقع تياره السياسي وحماية مكتسباته في السلطة، واعادة رئيسه إلى السباق المتعثر لانتخابات رئاسة الجمهورية.

لم يكن مفاجئاً أيضاً أن يندفع حزب الله للاستثمار المتعدد الأوجه في هذا الملف داخلياً وإقليمياً على نحو يستهدف أولاً، تكريس وحماية ما راكمه وأنجزه في ميدان تحكمه بموقع البلد وسياساته وأوضاع الحكم فيه، والعمل لضمان دوره وتحصين موقعه المحلي في السلطة بانتظار موسم التسويات والحلول عندما يحين أوانها. وثانياُ إحكام ربط مصير لبنان بالموقع الايراني وبنتائج الصراعات والمفاوضات معه حول دوره في المنطقة، وفي النظام الاقليمي الشرق أوسطي الآخذ في التبلور اميركياً، إلى جانب تركيا واسرائيل، في ظل محاولات الصين وروسيا لأن يكون لهما فيه موطىء قدم فيه.

لكن الأهم على الصعيد اللبناني أن مشاريع العهد وتياره وطموحات حزب الله، لا تضعهما خارج موقع الشراكة مع سائر اطراف السلطة، والمسؤولية عن أحوال البلاد وعدم مواجهة مفاعيل ما انتجته سياساتهم من انهيارات كارثية، اصابت جميع قطاعات البلد ودفعته إلى مرحلة الفوضى المطلقة، وتركها تدار من المافيات التابعة لها، في موازاة انهيار آخر معالم الدولة واجهزتها الادارية على كل المستويات. في وقت لم تعد اوضاع لبنان ضمن أولويات واهتمامات الدول الخارجية، التي باتت محصورة بتقديم المساعدات الاجتماعية، وتكرار تحذير المسؤولين اللبنانيين من خطر الانفجار الكبير.

إن مهلة الشهرين التي حددها أمين عام الحزب للتوصل إلى اتفاق حول ملف الحدود البحرية هي الفترة الفاصلة التي تتجمع عندها جملة من الاستحقاقات في المنطقة والعالم. بالتزامن مع اشتداد مفاعيل الأزمة في لبنان، وتزايد حدة الاشتباك السياسي بشأن تشكيل حكومة جديدة  تتعامل مع استحقاق انتخاب رئيس للجمهورية في ايلول القادم. ما يعني أن صيغة التهديدات التي أطلقها الحزب واستعداده لخوض المواجهة بكل ابعادها ليست مصادفة، بما فيه بدء إطلاق المسيَّرات للإيحاء بجدية التهديدات وخطورة الوضع.

لا شك أن ما يجري يتعلق بمصالح وحقوق البلد التي من غير المقبول التفريط بها تحت كافة الظروف. غير أن سياسات العهد وادائه التعطيلي وفئوية مصالحه وتخبطه في التعامل مع سائر الملفات ومنها ترسيم الحدود من ناحية، وسياسات الحزب وطبيعة مشروعه وارتباطه بإلنظام الايراني وتفرده في تقرير وتنفيذ ما يخدم اهدافه، وسط ادعاء التزام الدفاع عن البلد وحمايته بمعزل عن غالبية اللبنانيين من ناحية ثانية، وردود فعل سائر أطراف السلطة  المناوئة للعهد والحزب معاً من مواقع فئوية وطائفية ومصالح ضيقة من ناحية أخرى، تشكل بمجملها وقائع دالة على إشكالية الكيان ومأزق النظام ومستوى الانهيار المريع لمؤسسات الدولة واجهزتها وقطاعاتها. وعلى طبيعة نزاعات أهل السلطة وفئوياتها المدمرة التي تأسر العهد، وتعطل دوره التفاوضي، وتحاصر حزب الله بتهديداته رغم ما يمتلكه من عناصر قوة مرتهنة للخارج. اضافة إلى كونها عوامل تسهيل لاسرائيل واميركا ومعهما أوروبا على متابعة انتاج الغاز وتصديره دون الاكتراث لأحوال لبنان الماساوية. والأهم أنها لا تشكل مطلقاً ضمانات لحقوق لبنان وحدوده ومصالحه النفطية، بقدر ما تعرض وجود الكيان لخطر الزوال عبر دفعه قسراً لخوض حرب تدميرية شاملة.

وما يعزز المخاوف من الاخطار الزاحفة، أن الانقسام الأهلي المزمن والمتجدد أفقد البلد  حصاناته الوطنية للدفاع عن حقوقه وحدوده المستباحة، أولاً من قبل قوى السلطة المتشكلة في إطار نظام المحاصصة والفساد السياسي، الذي جعل أوضاع البلد وقضاياه، ملفات طائفية وفئوية تغذي مواقع الانقسام الأهلي، باعتبارها قضايا خلافية.على نحو يجعل المواقف منها تُنسّب إلى وطنيات فئوية مزعومة، في مواجهة خيانات في مؤامرات متخيلة ينفذها خارج ما يبحث عن مصالحه، وعن استغلال الفرص المتاحة والحقوق المهدورة من قبل أصحابها، الذين يتقنون تأمين التغطية اللازمة لاستثماراته. وهكذا تصبح اميركا وايران وتركيا وفرنسا  والسعودية واحياناً اسرائيل، مصدر خلاص وطني لدى هذا الطرف أو ذاك، ما يشكل امتداداً لصفحات الوطنية والخيانة التي يتالف منها تاريخ لبنان بتشكيلاته الفئوية الطائفية والمذهبية والعشائرية والمناطقية.

وعليه، ليس مصادفة أن تتنافس قوى السلطة على رفع رايات دعاوى الانقاذ عبر الاستقواء بالخارج، وأن تشتد بينها وطأة معارك ترسيم حدود سلطات الأمر الواقع الطائفي والفئوي مع تسارع زوال معالم وجود الدولة، وأن تصادر هذه الجهة أو تلك ملفات الاصلاح وأن تتفرع الصلاحيات لتطال مختلف شؤون إدارة البلد وحقوقه وعلاقاته الخارجية، ومنها ملفات التحقيق الجنائي وانفجار المرفأ، وترسيم الحدود البرية والبحرية جنوباً وشمالاً وبقاعاً، وبلدية بيروت ومعركة تقسيمها شرقية وغربية، ومعها ملفات الخبز والدواء والادارة والكهرباء والمياة والنفايات والنهب والتهريب و…

ولذلك ليس غريباً أن يصبح مصير البلد سؤالاً كبيراً لا يجد جواباً، مع تجدد عبثية البحث عنه لدى قوى السلطة، التي تخوض معاركها الوجودية بانتظار ما ستؤول إليه أوضاع المنطقة وموقع لبنان منها، والتسويات التي تأتي في ركابها لتقاسم السلطة والمغانم بين قوى الداخل والخارج، وفق ما تتيحه موازين القوى.

أما ذروة العبث، فإنها تتمثل في أن المسؤولين عن انهيار البلد وافقاره وهدر حقوقه ونهب موارده، الذين يستسهلون تحقيق المكاسب الفئوية عبر محاصرة اللبنانيين بالجوع والمرض، هم من يدفعون بهم عنوة للاختيار بين معادلة الموت ذلاً أو قتلاً ودماراً في حرب لم يقرروها. أما خيار انقاذ البلد وبقائه وطناً موحداً قابلاً للحياة وإعادة الاعتبار لدور الدولة والدستور والقوانين، فإنها لا تزال تشكل التحدي الذي يواجه غالبية اللبنانيين ويضعهم امام مسؤوليات الاضطلاع به، باعتباره الخيار الوحيد الذي يستحق النضال من أجله والذي يضمن حقوقهم وينقذ وطنهم ويحميه.

Leave a Comment