سياسة صحف وآراء مجتمع

حوار مع الكاتب ياسين الحاج صالح: ثَمّة فَلسْطنة للمحكومين وأسرَلَة للحاكمين  1/2  

حاوره: ياسين النابلي ومهدي العش

ما زال 7 أكتوبر، وما أعقبه من حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني، يُشكل زمنية تَفتح على التفكير في نواحٍ عدة من الحياة: نُظم المعرفة، القيم، السياسة، أنظمة الحكم، العلاقات الدولية، الحقوق، مصير المجتمعات، إلخ. وقد حاولت “المفكرة القانونية” من خلال هذا الحوار الذي أجرته مع ياسين الحاج صالح قراءة المآزق البنيوية التي عرّاها هذا النموذج التدميري، في منطقتنا والعالم، والتفكير في دلالاتها وآثارها المستقبليّة على المجتمعات والدول.

 ياسين الحاج صالح هو كاتب سوري ومُعتقل سياسي سابق، من مؤسسي   فريق  aljumhuriya.net، زوج سميرة الخليل المعتقلة السياسية السابقة، المُغيّبة منذ أكثر من عشر سنوات على يد تشكيل سلفي مسلح. يقيم حالياً في برلين.

المفكرة القانونية: ما نَشهده اليوم من إبادة جماعيّة وحصَار مُطبق مستمرّين على الشعب الفلسطيني، يَضعُنا في مواجهة مع نزعة تدميرية تسعَى إلى أن تكون نموذجا لإدارة المنطقة والعالم، يقضي على كل ممكنات سياسية وحقوقية للتغيير. برأيك كيف تقرأ اتجاهات هذا النموذج التدميري؟

ياسين الحاج صالح: برأيي إسرائيل كانت على الدوام نموذجا أو “باراديغم” للإبادة السياسية في منطقتنا. مفهوم البوليتيسايد يعني القتل الجمعي لأسباب سياسية (مثال: الحزب الشيوعي الإندونيسي عام 1966)، أو القتل السياسي لجماعة، قطع رأسها سياسياً، واحتمال إبادة الجنس إن تمرد المعنيون؛ الشعب الفلسطيني في هذه الحالة. لذلك تجد إسرائيل كينونتها كلّما تعمَّمَ هذا النموذج، وكلّما قامت نظم المنطقة على الإبادة السياسية مثلما هو جارٍ في سوريا، حيث نجد وجهين في علاقة الإبادة: فَلَسطنة السوريين وأسرَلة النظام. والأمر يتعدّى سوريا بدرجات مختلفة، إذ أن أكثر الأنظمة العربية أعادتْ إنتاج الحالة الإسرائيلية بأيدٍ محليّة.

لكن ما يَجري اليوم هو قَفزة مَهولة في الاستباحة والإبادة السياسية للشعب الفلسطيني، وتفيض عن  غزّة إلى الضفة الغربية المحتلة، وإن ليس بنفس الدرجة الدرامية من التدمير والقتل والفُجور والاستهتار. لكنّه أيضاً تدمير مُثابر ومنهجي، يقضم الكيان الفلسطيني عبر الاستيطان وتدمير البيوت وتنكيد العيش والقتل المباشر. ما يبدُو لي جديداً نسبياً في هذه الأوضاع، اليوم، هو بذاءة وسوقية حلفاء إسرائيل وحماتها في دعمهم لها، شيء يُذكّرنا بأيام ذروة الاستعمار الغربي، عندما كانت النظريات العنصرية والحضارية تُعطي شرعية للتوسع، وتُصنّف الشعوب إلى بيضاء لها حقوق السيطرة على العالم وشعوب أخرى أقلّ أهمية ولا بأس في أن تُستغلَّ مواردها وأن تُستعبَد بأشكال مختلفة. يُعَاد كل هذا اليوم في فلسطين عبر انحياز – لم يكن من الممكن تخيّله في السابق- من قبل القوى الغربية، وعبر تبنٍّ كامل لإسرائيل وشعور كامل بأنها معركة مشتركة. هناك ما يشبه ”الوحدة الوطنية“ داخل الإطار الغربي مع العدو الإسرائيلي، حيث لا صوت يعلو فوق صوت معركة إسرائيل ضد غزة المحاصرة منذ عام 2006، و”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها“. وأعتقد أن هذا يُعطي رسالة للفلسطينيين أولاً ولكلّ العرب في إطار أوسع، أن هذا هو المستقبل الذي يُرَاد تصميمه لسكان هذه المنطقة. معركة فلسطين لذلك هي أوسع من فلسطين، إذ أنها تُشكل النموذج الذي يَصنَع ممكنات لمن ينضبطون لباراديغم الإبادة السياسية، وهذا مثلمَا صنع النظام الأسدي بسوريا إمكانيات إبادية للأنظمة العربية، ولإسرائيل بالذات. إذ أن أحد مسؤولا إسرائيليا تساءل: لماذا لا يُرحل الفلسطينيون إلى مصر مثلمَا جرى تهجير ملايين السوريون سابقاً إلى تركيا؟

لقد صُنِعَت ممكنات من أجل تحويل البشر إلى قابلين للاستباحة، أي النموذج الذي يتحدّث عنه جيورجيو أغامبين  Giorgio Agamben تحت اسم  ”الهومو ساكر“ homo  sacer، حياة خارج النظام الحقوقي، مردودة لبعدها البيولوجي، قتل الهوموساكر لا يُشكّل جريمة، وليس لحياته قيمة معنوية أو تضحوية، فهو ليس شهيداً أو صاحب قضية. وهذا اليوم ممارس على نطاق جمعي في فلسطين، وقد مُورس على نطاق واسع في سوريا، وهو بصورة ما النموذج المعتمد في مصر. لدينا مزيج وحشيّ من النموذج الفاشي والاستعماري التقليدي. ونجد أن هذا النموذج يُعَاد إنتاجه في منطقتنا ككل، وهو وَاعد بالمزيد من الاستباحة والإبادة في رأيي.

المفكرة: برغم إعادة إنتاج النموذج الإسرائيلي في أكثر من نظام حكم عربي، ما زلنا نشاهد حتى اليوم أنظمة عربية تتبنى خطابا يدافع عن القضية الفلسطينية وتَعتبر نفسها جزءا من محور المقاومة أو ”الممانعة“، كيف نقرأ هذه الحالة؟

الحاج صالح: علينا أن نُميّز بين الوقائع البنيوية والوقائع المُتصلة بالخطاب. على المستوى البُنيوي هناك تعميم لنموذج الإبادة السياسية، من خلال التعامل مع السكان كفائضين عن الحاجة، وهذا ظاهر جدّا في سوريا، وبدرجة ما في مصر. إلا أن مستوى الفظاعة تَحقّقَ أساساً في سوريا وفلسطين. من خلال هذا النموذج البنيوي، ثمة فلسطنة للمحكومين وأسرَلة للحاكمين على نطاق واسع، فكلّنا فلسطينيون بدرجات مختلفة. انظر كيف أن 7 ملايين سوري، نحو 30% من السكان مشردون ولاجئون في بلدان قريبة وبعيدة، في مشهد فلسطينيّ مُستمرّ. أليست هذه نكبة أخرى؟ هذه الوقائع البنيويّة أهم من الوقائع الخِطَابية التي قد تكون أدوات للتعبئة وبناء الشرعية. فعندما يتكلم النظام الأسدي في سوريا – أو ما يسمى بنظم الممانعة- عن فلسطين، فهذا من وقائع الخطاب أو وَقائع الإيديولوجيا، بينما وَاقع الحال يُكذّب ما يقوله المقال. واقع الحال أنك تتعامل مع محكومِيك (شعبك) كفائضٍ بشريّ؛ فتعتقل وتُعذّب وتغتصب وتقتل وتقصف وتُبيد وتُهجّر. ولكن أدوات إضفاء الشرعية أو بناء قضية مَا هي أقل وزناً في هذا الباب، وهي استعمال أدَاتي لقضية لها رصيد وشعبية، ولكن هذا الاستعمال يَدخل في تناقض مستمر مع الوضع البنيويّ. ومثلما نرى، تُركَت غزة وحيدة خلال أزيد من خمسة أشهر إلى اليوم. ومثلما نرى كذلك، أبطال التطبيع مع إسرائيل، الإمارات والسعودية، هم أنفسهم أبطال التطبيع مع حكم العائلة الأسدية.

المفكرة: إلى جانب الأنظمة العربية، القوى الغربية المهيمنة تعيش تناقضاً كبيراً بين الممارسة والقول، وهو ما جعل الصورة التي تصف الغرب بالمتغطرس والمنافق تحظى بالمقبولية أكثر من أي وقت مضى، الأمر الذي يَحمل في طيّاته أيضا شعورا متناميا بنهاية قيم كبرى، أبرزها الديمقراطية. هل أن هذا الاتجاه يَرسم صورة حقيقية حولَ ما يجري؟  

الحاج صالح: أعتقد هنا، وفي نفس سياق التمييز بين وقائع البِنية ووقائع الخطاب، أن الدول الغربية لم تكن أبداً قُوى دمَقرَطة في منطقتنا. هناك استخدَام أدَاتي من قبل الغرب للخطاب المقبول عالمياً والذي يُنظر له إيجابياً، الديمقراطية وحقوق الإنسان، تماما مثلما تستخدم قضية فلسطين من قبل محور الممانعة. لكن لأن فكرة الديمقراطية مهمة وهي مكسب للشعوب في الحقيقة، فإنه يستحسن ألا يحصل عليها الأعداء من أمثالنا. البِنية الفعلية مثلما تبدو في غزة هي بنية كولونيالية شديدة الفظاظة، وهي حتى على مستوى الخطاب كانت هذه المرة وقحة وقليلة الدبلوماسية. يصعب على ذاكرتنا أن تنسى تصويت برلمانات غربية ضدّ وقف إطلاق النار في غزة، واستعمال الأميركيين حقّ النقض (الفيتو) ضد وقف النار.

وهذا ربّما مهمّ في نضالنا من أجل الديمقراطيّة وضدّ أشكال متجدّدة للسيطرة الدولية. النضال من أجل الديمقراطية لا يَضعنا في خندق واحد مع الأمريكيين أو الأوروبيين، بل بالضبط عكس ذلك. الديمقراطية إن استطعنا كسبها هي بمثابة ”غنيمة حرب“، مثلما قال كاتب ياسين يوماً عن اللغة الفرنسية. ويبدو الجماعة واعين لذلك ويفضّلون لنا نظماً تسلطيّة أو حتى إباديّة.

لكن في الوقت نفسه، يجب أن نكون ضدّ الأشكال العدميّة من العداء للغرب على ما يفضّل إسلاميون وقوميون عرب. ومن الأفخاخ المهمّة التي يجب أن نتجنبها اليوم -ونحن منفعلون وغاضبون- التفكير بطريقة ”نحن“و”هم“، أو التفكير برؤية قَبَليّة tribalization  للصراع. أسوأ أعدائنا موجودون في الغرب، صحيح، ولكن أحسن أصدقائنا موجودون هناك أيضاً من مواطنين وناشطين ومثقفين غربيين في بلدان متنوعة. لذلك من المهمّ أن نتجنب الفخّ المَاهَوِي أو الفخ الجوهراني، أي أن نَعتبر الأمريكيين والأوروبيين أشرارا فقط لأنهم أمريكيون أو أوروبيين، وهو عداء له نفس بِنية الإسلاموفوبيا أو العربوفوبيا الذي يتعامل معنا ككتل بشرية متجانسة، كشخص جمعي يُكره ويُميز ضده. من المهم أن نبحث عن شركاء نعمل معهم، وهم موجودون وكثر. الأوضاع العالمية أشد تشابكاً من أي وقت سبق، لدرجة أنه قبل أسابيع تمت الدعوة في أكثر من منطقة في العالم إلى إضراب عالمي من أجل غزة، وهذه الفكرة كانت ممتنعة التصور حتى وقت قريب. أما اليوم عبر تداول معلومات عالمي كان بالإمكان الدعوة إلى إضراب عالمي. وبغض النظر عن مسألة النجاح، فإن الدعوة وصلت لمليارات البشر بأشكال مختلفة. ففي هذا العالم لا نستطيع أن نُفكّر بمنطق القبيلة، ولا بد من شراكات نعمل ضمنها من أجل عالم مختلف، يقوم على الأخوة والمساواة والشراكة والاحترام.

أما بخصوص الديمقراطية، فهي تمرّ بأزمة في كل مكان بالعالم. وأخشى بالفعل أن الديمقراطية قد تنهار في الغرب نفسه كأحد الاحتمالات، مثلما انهارت الاشتراكية السوفياتية قبل عقود من داخلها. عدوّ الديمقراطية هو التيارات اليمينية الشعبوية الصاعدة في الغرب، وقد صارت في السنوات الأخيرة أقرب إلى قلب المشهد السياسي بعد أن كانت على هوامشه البعيدة. والنخب السياسية الغربية اليوم تتصرف من دون حسّ بالمسؤولية الاجتماعية التي كانت موجودة أيام الاشتراكية السوفييتية وتناسخاتها. بالعكس، تتبنى عناصر من برامج اليمين المضادة للاجئين والمهاجرين للفوز بالانتخابات، فتصير السياسة كلها انتخابات، ويجنح المشهد السياسي بمجمله يميناً. ودون أن أقوم بتنبّؤ مُضلّل، يتراءى لي أن الديناميات الشغّالة اليوم قد تؤدي إلى انهيار الديمقراطية، أو فشلها في الدفاع عن نفسها ضد عملية التآكل المستمرة التي تتعرض لها. من أجل ذلك  أيضاً، نحن محتاجون للعمل مع شركاء من أجل دمقرطَة أوسع في بلداننا وفي العالم، والوقوف في وجه التيارات الأنتي-ديمقراطية.

المفكرة: في ظل هذه الأزمة العالمية التي تمر بها الديمقراطية، ما هي الملامح التي تلوح أمامنا إذا حاولنا تخيل مصير العالم في المستقبل القريب؟

الحاج صالح: يبدو لي أن وضع العالم اليوم هو وضع اللاّبديل، ليس هناك بديل أو TINA، مثلما قالت مارغريت تاتشر قبل أربعين عاماً. وهو ما يعني أن البديل الوحيد عن الشكل الديمقراطي الليبرالي السائد في بلدان الغرب، لكن المتآكل اليوم، هو هذا الشكل نفسه، وهو شكل يتعاقب عليه أمثال بايدن وترامب في أمريكا. واليمين المتطرف أو ما كان يُعتبر يمينا متطرفاً، قبل عشر سنوات، يَصير اليوم مقبولا أكثر فأكثر؛ لدينا مارين لوبان في فرنسا وربما غدًا حزب البديل من أجل ألمانيا، وقبلها صعود اليمين المتطرف في هنغاريا، ومؤخراً انتُخبَ في الأرجنتين رئيس سُوبَر-يميني، وربما ترامب عائد في أمريكا. هذا ما تَعد به الآليات الحالية للديمقراطية الليبرالية في ظل ضعف البدائل اليسارية. وفي بلداننا يُقال لنا صراحة أنه ليس هناك بديل، والبديل الوحيد عن الحكم الأسدي هو هذا الحكم الوراثي النيوسلطاني، الذي يصرح علانية بأنه باق إلى الأبد، ويرفع شعرات عدمية من نوع الأسد أو لا أحد، أو الأسد أو نحرق البلد. الأبد ليس استمرارية هانئة، ليس استقراراً مريحاً، بل هو حرب مستمرة ضد المستقبل بغرض إعدام أي بدائل محتملة أو وأدها في مهدها. لهذا السبب، أعتقد أن شرط اللابديل العالمي هو”سوريالي“، تعميم عالمي للأبد السوري الذي هو أكبر نكوص اجتماعي ثقافي سياسي في تاريخ سوريا منذ عصر التنظيمات العثماني، عودة إلى سلطانية محدثة بالغة الضراوة.

عوض أن تذهب سوريا باتجاه عالم ينفتح قليلاً، صار العالم أشبه بسورية في العشر سنوات أو أكثر الأخيرة. هذا يضعنا أمام تحدّ كبير، تحدّي خلق بدائل، خلق لغة جديدة، خلق شبكة تفاعلات جديدة، تضَامنات جديدة. نحن في أزمة لهذا السبب، وهي أزمة عالمية، وأزمة اليسار والديمقراطيين جزء منها.

* نُشرت المقابلة على موقع المفكرة القانونية بتاريخ 15 آذار 2024   

Leave a Comment