زاهي البقاعي
يمكن الجزم بالسياسة المرتقبة للحكومة الاسرائيلية بزعامة بنيامين نتنياهو، ليس من خلال الاطلاع على سجلات وتاريخ أعضائها اليمينيين المتطرفين، والأجندات التي يحملها كل منهم فقط، بل من خلال ما هو أكثر قرباً، الاول هو المتمثل باقتحام المسجد الاقصى من جانب الوزير بن غفير الأكثر تطرفاً في الحكومة المتطرفة، وثانياً هو الخطاب الذي ألقاه نتنياهو في الكنيست عندما عرض أعضاء حكومته عليه، والتي نالت الثقة بواقع 63 صوتاً مقابل معارضة 54 صوتاً من أعضاء الكنيست البالغ عددهم 120 صوتاً. أما الثالث فيتعلق بما نشره الائتلاف الحكومي الإسرائيلي رسمياً، والمتمثل بالخطوط العريضة لسياسة الحكومة، قبل تنصيبها رسمياً.
وتضم حكومة نتنياهو المؤلفة من 30 وزيراً من شركائه الأحزاب الحريدية (“شاس” و”يهدوت هتوراة”)، وتيار الصهيونية الدينية صاحب التوجهات الفاشية الذي يضم أحزاب “الصهيونية الدينية” و”القوة اليهودية” و”نوعام”. وتعبيراً عن التحول نحو أقصى اليمين الصهيوني العنصري الذي يقوده نتنياهو انتخب الكنيست العضو عن حزب “ليكود” اليميني، أمير أوحانا رئيساً له. وجاء تعيين أوحانا بعد موجة انتقادات شديدة وجّهتها أحزاب وسطية إسرائيلية للحكومة الجديدة، تصاعدت في الصحافة بعد نيلها الثقة، بالنظر إلى المخاطر التي تحملها على الكيان الاسرائيلي وعلى الديمقراطية – للاسرائيليين طبعاً- وعلى النظام القضائي وعلى العلاقات الدولية مع المؤسسات الأممية والقوى الاساسية ذات التأثير في السياسات العامة والاقليمية.
ونبدأ من خطاب نتنياهو، ففي كلمته أمام الكنيست قبل التصويت على نيله وحكومته الثقة، أعلن تعيين وزير الاستخبارات السابق إيلي كوهين الذي لعب دوراً في تطبيع العلاقات بين الدولة العبرية وعدد من البلدان العربية، وزيراً للخارجية. أما توجهات حكومته فتنطلق كما هو واضح من التوجه نحو مزيد من تطبيع العلاقات العربية – الاسرائيلية على أمل ضم دول عربية أخرى إلى القائمة، إضافة إلى تعزيز العلاقات مع كل من: الامارات العربية والبحرين والسودان والمغرب. باعتبارها دول “اتفاقيات أبراهام”. وأشار إلى أن الحكومة ستفحص حلولاً وتعمل من أجل التوصل إلى اتفاقيات سلام لإنهاء النزاع العربي الإسرائيلي. وتأكيده على الخطر الايراني لجهة امتلاك طهران أسلحة ذرية وصواريخ دقيقة موجهة، والعمل على منعها بالتالي من التموضع في سوريا، ما يؤشر إلى مواصلة الحرب معها من خلال الغارات الجوية والعمليات الاستخباراتية والسيبرانية.. لكن الأهم هو ما لم يقله، بما هو رفض أي شكل من أشكال إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، من خلال عدم الإشارة إلى وجود هذا الشعب وقضيته أصلاً، وذهبت الوثيقة أبعد من ذلك تماماً عندما قالت “إن للشعب اليهودي حقاً حصرياً لا تشكيك فيه على كامل أرض إسرائيل”، وبالتالي فإن الحكومة الجديدة ستعمل على “التوسع في الاستيطان وتعزيزه في أجزاء أرض إسرائيل كافة، بما في ذلك الجليل والنقب والجولان والضفة الغربية”.
ووفقاً لوثيقة الخطوط العريضة لسياسة الحكومة القادمة هذه، وهي سادس حكومة يشكلها نتنياهو وتحمل الرقم 37 في تاريخ الحكومات الاسرائيلية، فقد تعهدت بإدخال “إصلاحات وتعديلات” على جهاز القضاء، وشرعنة فقرة “التغلب”، عبر إعادة تشكيل القانون الذي يراهن نتنياهو أنه يمهد له طريق النجاة من المحاكمة، لأن التعديل يتضمن إعفاء رؤساء الوزراء والوزراء والنواب من المحاكمة في أثناء مباشرتهم مهامهم الرسمية. والمسار الذي ستعتمده الحكومة يتضمن تقييد صلاحية المحكمة العليا في الاعتراض على سياسات وأشخاص الوزراء وأعضاء الكنيست، ما يجعلهم بمنأى عن المساءلة والتحقيق والمحاكمة، كما هو معمول به، فقد اقتيد أكثر من رئيس للدولة والحكومات ووزراء وأعضاء في الكنيست إلى المحكمة العليا، وصدرت بحقهم أحكام بالسجن لسنوات. وهذه المسألة هي في أولويات الحكومة بما تعنيه من إخضاع النظام القضائي للسلطة السياسية، ومدخله تقليم أظافر المحكمة العليا إزاء الكثير من القضايا، التي تطال نتنياهو شخصياً بأربع تهم فساد واحتيال ورشوة، وسواه من الوزراء ومن بينهم بتسلئيل سموتريتش زعيم “الصهيونية الدينية”، وزير المالية، والذي يشغل أيضاً منصباً في وزارة الأمن يخوله تولي المسؤولية عن الاستيطان في الضفة الغربية، وهو ما يتيح له أن يصبح عضواً في المجلس الوزاري المصغر لشؤون الأمن. وسموتريتش يُعَدّ من مؤسسي التشكيل الإرهابي “فتية التلال”، الذي يتولى حتى الآن السيطرة على أراضي الفلسطينيين الخاصة، وتدشين بؤر استيطانية فوقها دون إذن الحكومة والجيش. وأهمية تقييد سلطة القضاء أنه سيضاعف من مخاطر الاستيطان في الضفة خصوصاً، بشكل يحول دون وصول الدعاوى إلى المحكمة العليا. أما إيتمار بن غفير، زعيم “المنعة اليهودية” ووزير “الأمن الوطني”، فقد دشن عهده باقتحام المسجد الاقصى، ما أثار ردود فعل تعدت السلطة والفصائل الفلسطينية والدول العربية والاسلامية إلى الاتحاد الاوروبي ودوله، حتى الولايات المتحدة اعربت عن خشيتها أن يمثل ذلك مدخلاً لجولات جديدة من العنف الدموي، بما يتجاوز عمليات القتل اليومي التي يمارسها الجيش والشرطة الاسرائيلية بحق الفلسطينيين. وبن غفير كان عضواً في حركة “كاخ” الإرهابية التي شكلها الحاخام مئير كاهانا، والتي أُخرجت عن دائرة القانون. وقد اشتهر بن غفير، الذي يقطن في مستوطنة “كريات أربع” المقامة على أراضي مدينة الخليل، بمشاركته في تنظيم وتدبير الاعتداءات على الفلسطينيين من جانب المستوطنين المسلحين. وقد وجهت شرطة الاحتلال له 53 لائحة اتهام بممارسة العنف والتحريض عليها. بمعنى أنه من أنصار الحرب المفتوحة ضد الفلسطينيين ليس في الضفة الغربية فحسب، بل وأيضاً في الاراضي المحتلة عام 1948.
والواضح من وثيقة الخطوط العريضة أن الحكومة لا تخفي نواياها في توسيع نطاق الاستيطان وستعمل على تطويره وتعزيزه في ما تصفه أرض إسرائيل كافة، أي في الجليل، والنقب والجولان والضفة الغربية، ما يعني أن المناطق الفلسطينية كافة ستشهد تصاعداً في الحمى الاستيطانية بما يشعل فتيل المواجهة مع الشعب الفلسطيني. ولعل ما بدأه بن غفير كان مجرد مقدمة لما هو آت، ويتجاوز المسجد الاقصى والمقدسات الاسلامية والمسيحية، وما تتعرض له أحياء القدس القديمة، ليصل إلى كل الأمكنة التي احتلها الجيش الاسرائيلي من أراضي فلسطين وسوريا. وتستند هذه الغزوة المتصاعدة على ما جاء في الوثيقة لجهة اعتبار القيم الصهيونية موجهة لسياسة الحكومة (وفق البند الـ81)، ما يجب أن يترافق مع “تكريس الأمن القومي وتوفير الأمن الشخصي للمواطنين من خلال مواجهة العنف والجريمة”، ويقصد بالعنف ما يقوم به الفلسطينيون من تصدٍ لهجمات المستوطنين، ومحاولاتهم قضم المزيد من الاراضي والممتلكات وهدم المنازل واعتقالات إدارية وغير إدارية.
وادعت الوثيقة أيضاً أن الحكومة ستحافظ على “الوضع القائم في قضايا الدين والدولة، كما جرى عليه الحال في عشرات السنوات الماضية، بما في ذلك في الأماكن المقدسة”، وهو نص يتضمن تعمية مقصودة عن العنوان العريض للسياسة المعتمدة، بدليل اقتحام بن غفير للمسجد الاقصى وما يدبر أيضاً للمقدسات المسيحية. على أن من شأن هذا التوجه أن يثير الاوساط الاسرائيلية العلمانية التي تجد أن دولة اسرائيل تتجه نحو أن تصبح دولة دينية كاملة بالمفهوم التوراتي الاقتلاعي من جهة، وفي عزل غير المتدينين عن الحياة السياسية والعسكرية والاجتماعية والتعليمية من جهة ثانية. ولعل أبرز خطوة في هذا السياق ما سبق على عهد حكومة ترأسها نتنياهو من اعلان يهودية الدولة قانونياً. وواقعاً لا تعلن الوثيقة عن أي ترتيب للوضع القائم حول الاماكن المقدسة ما يترك الباب مفتوحاً لتصعيد محاولات التهويد. علما أن الوضع القائم جرى التوصل إليه بعد حرب الـ67، لكن هجمات المستوطنين المتكررة استهدافاً للمسجد الاقصى وأحياء الشيخ جراح وسلوان وغيرهما، ترافق مع طرح عملية التقسيم الزماني والمكاني للمسجد، بحيث باتت الشرطة الاسرائيلية وعناصر الأمن ترافق اقتحاماته المتكررة، وخلاله يؤدي المستوطنون اليهود – خلافاً للماضي- صلوات توراتية وتلمودية تحت حماية عناصر أمنية مدججة بالسلاح.
ورغم أنه لا يوجد فوارق أيديولوجية كثيرة بين الليكود والأحزاب اليمينية التي كانت تشكل حكومة بينت – لبيد السابقة، إلا أن ملفات نتنياهو الجنائية ومحاكمته أوصلته إلى التحالف مع أعتى قوى اليمين الديني المتطرف. وهو من شأنه أن يصعد من حدة الهجمة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، الأمر الذي يتطلب صقل الوعي أولاً لكم المخاطر المنتظرة من سياسات تطويق للموقع الفلسطيني بالتطبيع العربي، والإنشغال الدولي بحرب أوكرانيا، والصراع الصيني – الاميركي. وثانياً صياغة خطة متكاملة بين الداخل والخارج لمقاومة هذه الهجمة النوعية. وهي مهمة تتحمل مسؤولياتها السلطة والفصائل مجتمعين وفرادى. طالما أن الاهداف باتت معلنة وواضحة ولا تحتاج لتنجيم لتحديد معالمها.
Leave a Comment