سياسة

حشود وفوضى التحركات لا تخيف السلطة!

كتب زكـي طـه

شكلت ذكرى كارثة انفجار مرفأ بيروت قبل عام، التي أوقعت مئات الضحايا وألوف الجرحى وهجَّرت عشرات ألوف العائلات،عدا ما تسببت به من دمار وخراب، مناسبة حضرت معها الأسباب الكثيرة التي لا تزال تدفع اللبنانيين لتنظيم الاحتجاجات والتحركات، في مواجهة الانهيار الذي سبق الانفجار ومضاعفاته. وقد باتوا جميعا ضحايا الكارثة المركبة التي تعصف بالبلد وتقوده نحو مصيره المجهول.

 لم يكن مفاجئاً أن يحتشد ما يقارب مئتي ألف من اللبنانيين للتعبير عن غضبهم وسخطهم، وأن يملاؤا الساحات والشوارع المحيطة بالمرفأ لساعات محدودة، استجابة لمئات الدعوات التي اطلقتها لجنة أهالي الشهداء والجرحى والمتضررين من انفجار المرفأ، ومعها القوى والمجموعات والهيئات الناشطة تحت راية الانتفاضة على تنوع انتماءاتها واتجاهاتها. وقد سبق ذلك عدد واسع من التحركات والاعتصامات الاحتجاجية أمام بعض مؤسسات الدولة في العاصمة، كما في غالبية مراكز الأقضية والمحافظات. ما يؤكد غضب اللبنانيين من هول الكارثة واستنكارهم لها وهي التي أصابت الوطن بشراً واقتصاداً وعمراناً في الصميم.

 وما أعطى المناسبة زخماً إضافياً، هو إصرار قوى السلطة على تجاهل مسؤوليتها عن الكارثة، ومتابعتها التخلي عن دورها في مواجهة ومعالجة نتائجها بشكل جدي وفاعل، حتى عن القيام بمهام الإغاثة للمتضررين. ناهيك عن حرص قواها الشديد على تعطيل التحقيق وتجهيل المسؤولية عن الانفجار. والاستناد في ذلك إلى ذرائع وأسباب أقل ما يقال بشأنها أنها موضع شبهة، خاصة لناحية رفض رفع الحصانات سواء عن الرؤساء أو الوزراء والنواب، وعدم إعطاء الإذن للتحقيق مع المسؤولين الأمنيين. يؤكد ذلك أن المجلس النيابي ورغم مرور عام على الانفجار لم يحرك ساكناً. بل عمد نواب منه إلى ممارسة أقصى الضغوط  وصولاً إلى الطعن وبذريعة الحصانة، بنزاهة وجدارة قاضي التحقيق السابق، ما أدى إلى اعتذاره عن متابعة الملف. جرى الأمر رداً على استدعائه لهم باعتبارهم كانوا وزراء مسؤولين، للتحقيق معهم حول ملابسات  الانفجار والمسؤوليه عنه، وعن وصول المواد المتفجرة وتخزينها والعبث بها طوال 7 سنوات.

 لم يختلف أداء غالبية الكتل النيابية عما سبق بشأن إتهام بعضهم والإدعاء عليهم واستدعائهم إلى التحقيق من قبل المحقق العدلي الجديد. ولذلك عمدوا إلى استحضار نصوص منسيّة ومهملة في دستور الطائف حول محاكمة الرؤساء والوزراء والنواب، بهدف استعمالها للتهرب من التحقيق وتعطيله وحرفه عن مساره، ومن ثم الدفع به إلى مقبرة اللجان النيابية.

 وها هو المجلس يتابع ما دأب عليه، من مماطلة  واستخفاف عبر تلاعب مكشوف وزايدات شعبوية رخيصة أدت إلى تعطيل الجلسة العامة، التي دعي لها للبت بالاقتراحات والمخارج التي تسابقت الكتل النيابية على تقديمها للفلفة الموضوع. وهي الكتل التي تشكل قوى السلطة، والتي لا يغيب عنها أن الحشود التي شاركت في 4 آب وعلى أهمية ذلك، كما كان الأمر مراراً وتكراراً منذ انتفاضة 17 تشرين 2019، لا تشكل بالنسبة لهم مصدر قلق أو خوف. لأنها لم تتحول إلى قوة قادرة على وضع حد لاستهتارهم وإمعانهم في الاستهانة بحقوق وغضب وقهر أكثرية اللبنانيين. رغم أنهم يتحملون كامل المسؤولة أولاً وأخيراً، ليس عن انفجار المرفأ وحسب، إنما عن مسار الانهيار وكل ما يأتى في ركابه من أزمات خانقة. وهي التي دفعت باللبنانيين للإقامة وسط الفوضى  في ظل الشلل التام لمؤسسات الدولة، وفي مواجهة المخاطر الزاحفة على شتى ميادين حياتهم، حيث بات وضع البلد جرّاء تلك الأزمات أشبه ببرميل البارود الجاهز للانفجار في أي لحظة، والارتطام الكبير في قاع الهاوية كما بشرنا وأكد لنا أهل الحكم وخاصة رئيس البلاد منذ أكثر من عام .

   وبصرف النظرعن التهديد بالمزيد من العقوبات من قبل دول الخارج، ورغم الأوضاع الكارثية والمأساوية للغالبية الساحقة من المواطنيين والانهيار التام لقطاعات الخدمات العامة الضرورية، خاصة مع قرار رفع الدعم عن الدواء والمحروقات وفقدان الكثير من السلع الاساسية . فإن منظومة السلطة  لا تزال مطمئنة إلى إمساكها بمقاليد الأمور. ومصدر اطمئنانها  فوضى التحركات وغياب  الحد الأدنى من التنسيق بين الجهات الداعية لها بما فيها مناسبة 4 آب، وتعدد الخطاب السياسي وما يرافقه من شعارات مرفوعة، ما يعكس حجم اختلاف، بل تناقض الرؤى حول أسباب الانفجار والانهيار والمسؤولية عنهما. يؤكد ذلك تباين المواقف المختلفة والمخالفة إلى حد التناقض بشأن أصل الأزمة وعوامل تفاقمها. إلى جانب محاولات بعض القوى والمرجعيات تطييف الانفجار والتحركات بشأنه وربط أسبابه ونتائجه بصراعات أهل السلطة، ما يسهل معه تبادل التصنيفات العبثية والاصطفافات الفئوية بعيداً عن المصلحة الوطنية. مروراً بالممارسات الاستفزازية والتحريض واستحضار الماضي بكل ما يحتشد فيه من أخطاء وخطايا، وصولاً إلى قطع الطرقات على المواطنيين المتضررين، انتهاءً باستسهال الصدام والاشتباك.  يضاف إلى ذلك اصرار بعض المجموعات على اخراج التحرك السلمي عن جادته، واعتماد العنف وسيلة للتعبير عن القهر والغضب، ورفض التدقيق بالنتائج وكم تصب في طاحونة السلطة وقواها. وهي التي كان لها مساهمتها في المناسبة كما في التحركات السابقة، وباشكال مختلفة في دفع وتشجيع بعض المجموعات لممارسة الشغب والعنف لتبرير الفوضى والقمع الرسمي أو الأهلي.

 لقد أكدت الحشود المشاركة في التحركات، أن اللبنانيين المتضررين لم يفقدوا الأمل في إمكانية الانقاذ ووقف الانهيار وصولاً إلى التغيير، وأنهم خاصة الشباب منهم، على استعداد لتجديد مشاركتهم في الدفاع عن حقوقهم ومطالبهم. كما وأنهم لم يعيدوا النظر في تحميل منظومة السلطة كامل المسؤولية عما اصاب البلاد وحل بأهلها وعما يتهددهم، باعتبار أنه لا أمل يرجى منها وقد خرجوا من دائرة الرهان عليها. لكنهم في المقابل ومعهم الغالبية الساحقة من اللبنانيين، لا زالوا يفتقدون الثقة  بقوى الانتفاضة، التي تفتقد للمرجعية القادرة على تجميع قواهم وتأطيرها، وتحشيد مختلف الفئات من اصحاب المصلحة في بقاء البلد وإنقاذه، والتوافق على برنامج الحد الأدنى، الذي  يبدأ من أولويات همومهم واهتماماتهم، مدخلاً لتجديد التواصل معهم عبر مسار تراكمي جامع لبناء قوى التغيير، وفتح آفاق تحققه في نهاية المطاف. الأمر الذي يشكل استجابة لآمال اللبنانيين وطموحاتهم على طريق الخروج المتدرج  من دوامة سياسات وأداء اطراف السلطة المنتجة للأزمات والكوارث، والممعنة في إنكار أبسط حقوقهم،  إلى جانب الاستهتار بمطالبهم وكرامتهم الانسانية ومصيرهم. 

Leave a Comment