سياسة

 جحيم جهنم ليس قدراً لا مردّ له

لم تترك قوى السلطة التي رفضت  بشكل قاطع مطالب غالبية اللبنانيين التي عبر عنها المنتفضون، سلاحاً إلا واستخدمته، من التشكيك والتخوين وكل منوعات القمع الرسمي والأهلي الميليشياوي، إلى التحريض الطائفي والتهويل بالحرب الأهلية، ورفع الشعارات المذهبية واستغلال العنف والشغب الذي مارسته بعض مجموعات الإنتفاضة،

لم يخطىء رئيس الجمهورية  منذ اسبوعين، في القول جواباً على سؤال هو الآن إلى أين: “رايحين عا جهنم”، خلافاً لما كان الأمر قبل عام عندما وعد شباب لبنان الذين التقاهم في القصر الرئاسي، أنه “سيسلم البلد إلى خلفه أفضل مما كان”. علماً أنه عاد وخيّرهم  مع بدء انتفاضة 17 تشرين الاول الماضي، في مواجهة سياسات الطبقة السياسية الحاكمة وخطر الإنهيار الاقتصادي والمالي، بين “البقاء أو الهجرة”. لم يكن إعلان الرئيس مفاجئاً من حيث المضمون لأن البلاد ومنذ أشهرعدة تسير حثيثاً إلى جحيم الانهيار الاقتصادي والمالي المتمادي، الذي فاقمه الإنفجار المروّع الذي دمر مرفأ العاصمة والأحياء المجاورة له، في موازاة شلل مؤسسات السلطة بدءاً من رئاسة الجمهورية، مروراً بالمجلس النيابي وانتهاء بحكومة تصريف الأعمال، ورفض تقديم تنازلات لمصلحة الوطن وتسهيل تشكيل حكومة جديدة. خاصة أن الإعلان سبقته تحذيرات من “خطر زوال البلد” رددها قادة ومسؤولين دوليين، عطفاً على سياسات وممارسات الحكام فيه.

والسؤال المطروح برسم اللبنانيين: ما أنتم فاعلون في مواجهة الجحيم الزاحف وخطر زوال البلد؟ من الطبيعي أن نعفي أهل السلطة بكل مستوياتها الرئاسية والتشريعية والتنفيذية من همّ السؤال، لأنهم جميعاً يتحملون المسؤولية الكاملة عن  قيادة البلاد نحو الهاوية بفعل سياساتهم وأدائهم المدمّر، وعن الإستهانة بحقوق اللبنانيين وتسعير الانقسامات الأهلية بينهم، والإمعان في تنازع السلطة ونهب خزينة الدولة وموارد البلاد والعباد والتسبب بإفقارهم، إضافة إلى التفريط بالمصلحة الوطنية، وإبقاء البلد ساحة لمصالح القوى الدولية والاقليمية المتصارعة على المنطقة بما فيها لبنان.

ومن الطبيعي أيضاً أن لا نوجه السؤال إلى قوى الطبقة السياسية المتحكمة بالبلد وأهله منذ الطائف، لأنها  ترفض تغيير سياساتها وممارساتها أو التخلي عنها رغم الإنهيار. وهي الأسباب التي تحولت ذريعة لحصار دولي وعربي خانق سياسياً ومالياً. وهي لا تزال ترفض الاستجابة لشروط الخارج الإصلاحية جواباً على طلباتها للاستدانة والمساعدة. وتأكيداً لذلك لم تتورع عن استسهال الإطاحة بالمبادرة الفرنسية، التي شكلت فرصة متاحة لإنقاذ لبنان من خطر الزوال رغم سلبياتها، ورغم أنها شكلت أيضاً مخرجاً لهذه الطبقة من مآزقها المتنوعة، عبر دعوتها لتعديل سلوكها وأدائها لإستعادة ثقة الخارج بها، فإذ بها تستهين بكل ذلك.

أما السبب الأدعى لعدم طرح السؤال على أحزاب وتيارات السلطة، فهو إدمانها الاستهتار باللبنانيين وبكرامتهم الإنسانية وبأبسط حقوقهم ومطالبهم المشروعة، ما انتج مستويات قياسية للفقر والبطالة والهجرة وفق تقارير المؤسسات الاممية، أما في ميادين السكن والتعليم والصحة والعمل فحدث ولا حرج عن مآسي التشرد وانتشار الأمراض والأوبئة خاصة “وباء كورونا”، وربما تكفي الإشارة إلى مآسي الموت في عرض البحر بسبب الهجرة من الموت جوعاً.

وما يؤكد عدم جدوى طرح السؤال على من بيدهم السلطة، هو تصديهم لانتفاضة اللبنانيين وإجهاضها. وهي الانتفاضة التي ملأت الساحات والشوارع طوال أشهر، في مواجهة سياساتهم وممارساتهم وما انتجوه من أزمات كارثية، والتي ظللها شعار “كلن يعني كلن” في إشارة حاسمة لتحميلهم جميعاً المسؤولية عما أصاب أوضاعم وما حل بالبلد من بؤس وخراب. لم تترك قوى السلطة التي رفضت  بشكل قاطع مطالب غالبية اللبنانيين التي عبر عنها المنتفضون، سلاحاً إلا واستخدمته، من التشكيك والتخوين وكل منوعات القمع الرسمي والأهلي الميليشياوي، إلى التحريض الطائفي والتهويل بالحرب الأهلية، ورفع الشعارات المذهبية واستغلال العنف والشغب الذي مارسته بعض مجموعات الإنتفاضة،  وتشكيل ردائف لها عبر تشكيلات ملحقة بها أو بالأجهزة التابعة لها ، واختراق ساحات الانتفاضة ومجموعاتها لإخراجها عن سلميتها، لتضاف إلى المجموعات المرتبطة بالخارج أو المرتهنة له.

لذلك يبقى السؤال برسم القوى الحية والمستقلة المشاركة في الإنتفاضة، التي يواجهها تحدي  مراجعة التجربة المجيدة التي أطلقها اللبنانيون، وتقييم مسيرتها بكل ما انطوت عليه من شعارات وبرامج وممارسات اختزالية أو فئوية، وما وقعت فيه من أوهام ورهانات خاطئة على بعض أجنحة السلطة أو الخارج، وتحديد الأسباب التي حالت دون تشكيل قيادة مرجعية وتوجه برنامجي غالب يتصل بمصالح  أكثرية اللبنانيين المتضررين  الذين انكفأوا عن المشاركة في أنشطتها وتحركاتها. وذلك استناداً إلى النتائج والمآل الذي انتهت إليه الانتفاضة والمتمثل بالاختفاء وانعدام الفعالية وتخبط المواقف في مواجهة الإستحقاقات والمخاطر الكارثية الزاحفة، التي لا تعوضها كثرة الإعلانات البائسة عن تنسيقيات تكرر البرامج المبادىء والمطالب العامة وترفع لوائح المرشحين لرئاسة الحكومة والوزارات إلى مجهول، وسط إدمان بعض المجموعات التحركات المتنقلة، حيث عدد المجموعات الداعية يكاد يوازي أعداد المشاركين فيها.

من الصعب التقدم  نحو الإنقاذ إن لم نستخلص دروس تجربة الانتفاضة معطوفة على كل التجارب السابقة، كي لا نكرر الأخطاء والأوهام نفسها، مدخلاً لتحديد التوجهات البرنامجية العامة التي تخاطب مصالح  وأولويات أكثرية اللبنانيين المحاصرين بالمخاطر، في سبيل تجديد مسيرة الانتفاضة وبناء الكتلة الشعبية القادرة على الإعتراض والضغط لإنقاذ البلد من السقوط في الهاوية، لأن الجحيم  ليس قدراً محتماً.