نقتطف هذا النص حول الوضع السياسي الراهن وتوجهات المرحلة من تقرير جرى تقديمه خلال اجتماع المكتب التنفيذي لمنظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني في السادس من تشرين الثاني الجاري. أهمية هذا القسم أنه يقدم إضاءة على الواقع السياسي الداخلي من خلال رؤية المشهد الدولي والاقليمي بصراعاتهم المفتوحة، سواء تلك التي تصل إلى حافة الحرب الكيماوية أو النووية في اوروبا، أو الصراعات المفتوحة على مزيد من الشرذمة والتفكك في منطقتنا. والواضح أن تعذر انتخاب رئيس جديد للجمهورية في لبنان هو عنوان مأزق قوى المنظومة السياسية المهيمنة وتبعيتها للخارج، الذي لم يتفق بعد وقد لا يتفق، على شخص ومهام ودور الرئيس، وبالتالي على دور لبنان الذي يريده في المقبل من الايام. وعندما نتحدث عن إشكاليات انتخابه فإنما نتحدث عن كل من القوى المهيمنة. ولكل من هذه القوى وزنها في ميزان المعادلات المتحكمة بالوضع وارتباطاتها ومرجعياتها. على أي حال، إن ما ورد في هذا التقرير الذي يتناول أيضاً أموراً عدة لم نرَ فائدة من نشرها، هو اجتهاد منظمتنا في رؤية تعقيدات الوضع السياسي، ما يعني تعريض البلد إلى أفدح الاخطار، باعتباره يتفاعل مع انهيار مالي نقدي اقتصادي ومعيشي ومؤسساتي شامل. هذا التقرير نضعه بين أيدي قرائنا على أمل أن يثير النقاش الذي نأمل كونه يعمل على قراءة المخاطر المحدقة بالبلد وأهله في حاضرهم ومستقبلهم.
تطورات الوضع السياسي:
– يشتمل البند الاشارة الى الصعيد الدولي القائم راهنا في صيغة حرب عالمية مفتوحة ومتعددة الساحات والجبهات والاسلحة المستخدمة التقليدية منها والاستراتيجية والامنية والفكرية الثقافية والسيبرانية، وصولا للتهديد بالاسلحة الكيماوية والنووية. صحيح ان الصعيد الاقتصادي للحروب والنزاعات هو اساسي لكنه ليس الوحيد.
– من الضروري الاشارة الى ما يدور من نزاعات في دواخل البلدان المتقدمة كانعكاس لأزماتها الاقتصادية المتعددة المصادر: فشل الحلول ومشاريع الاجوبة الليبرالية، مضاعفات انتشار وباء الكورونا، أزمة النفط والغاز، والتنافس الاقتصادي على الاسواق والمواد الاولية… ولا بد من ملاحظة تجدد النزاعات العنصرية وصعود اليمين الفاشي، بسبب مضاعفات ازمة التمثيل السياسي لدى احزاب اليمين المحافظ، مقابل استمرار عجز قوى اليسار وتياراته عن تجاوز ازمة تجديد فكرها وبرامجها ودورها.
– في موازاة ذلك تتوسع وتتصاعد حدة الحروب والنزاعات الاهلية المتفجرة في المجتمعات المتخلفة وسط انفلات التدخلات الاقليمية والدولية، ما يؤشر إلى صعوبة الوصول الى تسويات تمكن تلك المجتمعات من العودة الى الاستقرار.
– في هذا الاطار يتضح موقع المنطقة العربية باعتبارها ساحة مفتوحة ومشرّعة على كل اشكال التدخلات الدولية والاقليمية على نحو سافر، من بواباتها المختلفة سياسياً واقتصادياً وامنياً ومجتمعياً، وسط مآزق نظمها الحاكمة بكل اشكالياتها الطائفية القبلية والعرقية.
– وفي السياق ذاته يتصاعد نضال الشعب الفلسطيني وصموده على أرضه في مواجهة العدو الاسرائيلي وسلطة الاحتلال بقيادة اليمين المتطرف وسعيه المحموم لتنفيذ مشاريع الاستيطان في موازاة تشديد الحصار على الضفة الغربية وقطاع غزة في اطار محاولاته لتصفية القضية الوطنية الفلسطينية.
– في امتداد هذا الوضع يستمر لبنان امام مسار مفتوح من تصاعد الانقسامات الاهلية المستمرة والموروثة المتعددة الاوجه والمستويات والمحطات. يُعبّر عنها من خلال الصراعات المتناسلة حول مختلف قضايا الحكم ومواقع السلطة بكل مستوياتها دون استثناء، وعلى نحو تتداخل فيه العوامل الداخلية والخارجية إلى الحد الذي بات يصعب الفصل بينهما.
– وما يعزز ذلك هو ما جرت الاشارة له على الصعيد الدولي. وفي هذا السياق أيضاً تُقراً مفاعيل السياسات الفئوية المستدامة لقوى السلطة في ظل نظام المحاصصة الطائفية، ومعها مسارات التفكك البنيوي لمؤسسات الدولة وأجهزتها الإدارية والقضائية، وقطاعاتها العامة والخاصة بكل مستوياتها في موازاة الانهيار الاقتصادي والمالي.
– وعلى ذلك فإن التحذيرات المتلاحقة من المخاطر التي تهدد الكيان لا تصدر جزافاً، بقدر ما تستند إلى معطيات ووقائع بعضها معروف ومتداول، وبعضها يدور في الخفاء وفي كواليس الاتصالات الدولية والاقليمية، وهي بمجملها إما نتاج صراعات قوى الداخل وسياساتها وطموحاتها وادائها في امتداد رهاناتها، وإما أنها ناجمة عن ضغوط خارجية تعبر عن مصالح مرجعياتها في امتداد استراتيجياتها المتصارعة اقليمياً ودولياً وعلى كل الصعد السياسية والاقتصادية والأمنية.
– يعني ذلك أن الانهيار المتعدد الصعد دولة واقتصادا وقطاعات وبنى اجتماعية ومعها الفراغ الرئاسي والحكومي لم يأتيا من الفراغ، أو المجهول على نحو فجائي، بقدر ما هو النتيجة الطبيعية المتوقعة. وعكس ذلك يصنف في خانة العجائب.
– وفي هذا السياق يُقرأ أيضاً اتفاق ترسيم الحدود البحرية الذي انتجته مفاوضات اميركية بمشاركة اسرائيلية فرنسية ايرانية قطرية، لعبت فيها الاطراف اللبنانية المشاركة والمتدخلة فيها، ادوار “الكومبارس” الرخيص في سبيل مآرب فئوية بعيدة عن المصلحة الوطنية ومخالفة لها، ما أدى إلى ارتكاب خطيئة التفريط بحقوق البلد في صيغة مهزلة وطنية أطلق عليها “انتصار تاريخي” على العدو الاسرائيلي المنتصر الفعلي.
– وما رافق الترسيم من دعاوى انتصار وتنافس على تنسيبه لهذه الجهة أو تلك من أهل السلطة، لا يقع سوى في باب محاولات توظيفه صراعياً في مرحلة انتقالية ومصيرية من تاريخ البلد، وفي لحظة احتدام مأزق سائر الاطراف على نحو يضع كل منها امام الاسئلة والخيارات الصعبة مع نهاية العهد الأسوأ الذي مرّ على البلد. وهو الذي ساهم في الانتقال به إلى مرحلة أشد صعوبة وأكثر خطورة .
– وما يعزز هذا التقدير ليس عودة اليمين المتطرف الى السلطة في اسرائيل وحسب. وإنما الدور والسياسات الاميركية في المنطقة، والتي يفاقمها احتمالات فوز الجمهوريين بأكثرية مجلسي النواب والشيوخ، والذي يضاف إلى تعثر، بل توقف، المفاوضات الاميركية الايرانية على رافعة شروط ايران، المرفوضة دوليا. في مقابل انفجار أزمات ايران الداخلية، وسط تفاقم مآزق مشروع هيمنتها الاقليمية الذي بدأ يعاني مساراً تراجعياً في أكثر من ساحة. هذا عدا فشل محاولات الافلات من الحصار والعقوبات ومن الضغوط الخارجية من خلال السعي لتطوير علاقاتها مع الصين وروسيا التي تحاول تلافي مصير مشابه، بسبب حربها المفتوحة ليس مع اوكرانيا وحسب، إنما مع اوروبا واميركا أيضاً، خاصة أن لا احد باستطاعته تقدير موعد وصيغة نهايتها وما ستسفر عنه من نتائج مقررة لعقود طويلة على أكثر من صعيد أوروبي ودولي. خاصة وأن ما ينسحب على الاتحاد الروسي أشد انطباقاً على ايران وما يشابهها من أنظمة شمولية واستبدادية، تسعى لأن تكون قوة اقليمية قادرة على صياغة مشروعها بمعزل عن توازن القوى في السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا وغيرها.
مآزق اطراف السلطة:
– لا شك أن حزب الله انصاع لمشيئة مرجعيته الاقليمية التي ليست بوارد التفريط بموقعها في لبنان، أو استسهال تدميره في حرب مع العدو الاسرائيلي يتعذر الفوز فيها. ولذلك كانت الموافقة على اتفاق ترسيم الحدود البحرية في لبنان مقابل مكاسب مؤقتة في العراق. الأمر الذي كشف على نحو سافر خواء شعارات “زحفاً زحفاً نحو القدس” وأولوية قضية تحرير فلسطين، والذهاب من شعار حماية التحرير الى حماية اتفاق الترسيم. ما يعني الدخول في مرحلة استقرار امني على الحدود مع العدو تبدأ ولا تنتهي في الامد المنظور. وعليه يتجدد طرح الاسئلة حول وجهة واولويات سياسات الحزب القادمة، ومستقبل ترسانته العسكرية والقتالية التي فقدت الكثير من مبررات وجودها وفعاليتها. خاصة أن الضامن الفعلي للاتفاق هو الولايات المتحدة التي لن تسمح بالانقلاب عليه، باعتباره جزء من استراتيجيتها في المنطقة ومن ضمنها مصالح اسرائيل. هذا عدا أن الاتفاق شكل وعلى نحو صريح اقراراً من سائر اطراف الداخل، بخضوع البلد للنفوذ الاميركي على نحو اجمالي. ما يعني ان تدخلات الجهات الاقليمية والدولية تجري تحت هذا السقف، يشمل ذلك فرنسا وايران والسعودية وغيرها..
– وما يعزز مآزق الحزب راهناً أن خسارته الأكثرية النيابية، افقدته القدرة المطلقة على التحكم بتشكيل الحكومات كما بإدارة الانتخابات الرئاسية وتقرير نتائجها مسبقاً. وبذلك فإن الحزب بات راهناً امام معادلات مختلفة عما كان عليه وضعه السابق، ويستحيل عليه استعادته. ولذلك كان حريصاً وملحاً على تشكيل حكومة لإدارة المرحلة الجديدة بعد عهد ميشال عون وصعوبة انتخاب رئيس جديد للبلاد. وسبب الإلحاح حاجة الحزب لتغطية ادائه وعدم تحميله منفرداً مسؤولية أزمات البلد بانتظار ما سيؤول إليه وضعه في المستقبل. والهدف محاولة الاحتفاظ بأوراق قوته بانتظار التسوية القادمة التي ستبنى على ما هو موجود من قوى، يأمل أن يكون الأقوى بينها.
– ولذلك كان حريصاً ولم يزل، على رفض القطع مع التيار الوطني الحر رغم عدم التوافق معه على أداء وطموحات رئيسه، في موازاة التحصن بالعلاقة مع حركة امل ورئيسها الذي وجد فرصته المثالية لتولي ادارة البلاد سياسياً من بواباتها كافة، الرئاسية والتشريعية الحكومية، باعتباره الرئيس الشرعي الوحيد. دون أن يعني ذلك تسليم الاطراف الاخرى له بهذا الدور وخصوصاً المسيحيين منهم.
– في المقابل فإن التيار الوطني قد خرج من سُدة الرئاسة مأزوماً على نحو غير مسبوق. يؤكد ذلك عجزه عن فرض شروطه لتشكيل حكومة جديدة، يستطيع من خلالها التحكم بإدارة البلاد في مرحلة الفراغ الرئاسي، على نحو يمكنه من الاحتفاظ بموقعه بين اطراف السلطة وتحصينه، على أمل استعادة موقع رئاسة الجمهورية، أو البقاء طرفاً وازناً في الحكم، لحماية ما حققه من مكتسبات مهددة بالتبدد. والمؤشرات على ذلك اكثر من أن تحصى سواء ما يحتدم داخل التيار من خلافات شهدنا بعضها في موسم الانتخابات، أو لناحية عدم وجود حلفاء له في الساحة المسيحية، حيث يسود الصراع بين مكوناتها. وهو في وضعية المشتبك معها جميعاً والمحاصر من قبلها في آن.
– اما علاقة التيار الحر مع الاطراف الاخرى، باستثناء حزب الله، فقد كشفت الانتخابات النيابية الاخيرة هشاشة وزن وفعالية من يدعون وصلاً بهما، علماً أن العلاقة بين التيار والحزب كانت ولا تزال محكومة إلى قاعدة تبادل المصالح والخدمات استناداً للمضمرات، التي تعني أن كلاً منهما يستخدم الآخر، أو يستفيد منه، بعيداً عن التحالفات الموثوقة، وهي المعادلة التي تحكم علاقات سائر اطراف الطبقة السياسية الحاكمة، حيث لا تحالفات ولا خصومات ولا عداوات ثابتة، أو نهائية بين مكوناتها، إنما شراكات صراعية تتبدل خلالها اوجه العلاقة بينها تبعاً للمصالح التي تظللها.
– ولذلك سعى التيار وقيادته ومعهما رئيس الجمهورية السابق دون جدوى، الى دفع سائر الاطراف المسيحية للاصطفاف خلفهما لخوض المعركة تحت راية الدفاع عن صلاحيات رئيس الجمهورية المسيحي، ومنع حكومة تصريف الاعمال من ممارستها، ومحاولة استخدامهم لفرض تشكيل حكومة وفق شروط التيار ورئيسه، بهدف تعويم دوره وبقائه مرشحاً رئيسيا للرئاسة. هذا ما عكسته رسالة عون للمجلس النيابي، وهي في جانب منها معركة مع رئيس المجلس الداعم لرئيس الحكومة المستقيلة والمكلف في آن.
– عليه، فإن عون وباسيل وفي ما هو قادم على البلد من تحديات، هما امام مأزق قدرتهما معا على حماية التيار من التفكك، وابقائه على قدر من التماسك والفعالية في ظل المعادلات الصعبة التي آل إليها وضع البلد، وسط انفلات الصراع المفتوح بين سائر اطراف الطبقة السياسية للدفاع عن وجودها ومصالحها وحماية مواقع نفوذه بانتظار التسوية التي يعجز الجميع عن تقدير موعدها.
– ولا يختلف عن مأزق القوات اللبنانية عن بقية الاطراف، ولا يغطيه ادعاءات قيادتها أنها الاكثر تمثيلاً للمسيحيين، وأنها الاجدر بقيادة معركة رئاسة الجمهورية، وسعيها لجذب سائر قوى الاعتراض للاصطفاف خلفها تحت عناوين سياسية خاوية من اي مضمون فعلي. ولذلك نجدها تمعن في محاولات ابتزاز تكتل نواب التغيير وتحميلها مسؤولية استمرار الفراغ الرئاسي جراء رفضهما الالتحاق بها. وقد فات قائدها استحالة تسليم الاطراف الاخرى بما فيها حزب الكتائب ونواب السنة والتغيير لطروحاته التي لا يفيد فيها ادعاء الانتساب للمعارضة. هذا عدا الرفض القاطع لطموحاته الرئاسية خاصة من قبل الثنائي الشيعي والتيار الحر والمردة لألف سبب وسبب.
– يؤكد هذا الامر اللقاء النيابي الذي انعقد في مقر حزب الكتائب الذي استهدف تشكيل اطار مختلف، لخوض معركة رئاسة الجمهورية بعد ما تكشف لهم استحالة وصول ميشال معوض أو القبول به.
– كما لا يختلف وضع الحزب التقدمي الاشتراكي عن سائر الاطراف الاخرى، لناحية الهواجس المصيرية للكيان والوجودية للطائفة وهي المقررة لمواقف قيادته وعلاقاتها بالاطراف الاخرى والتي لا يحد منها شبهة التفرد بتمثيلها. وهي هواجس تتجاوز لبنان إلى المنطقة ككل.
– أما ساحة السنية السياسية فهي لا تزال اسيرة التخبط والعجز عن تشكيل صيغة الحد الأدنى المعبرة عن تمثيلها السياسي وسط معمعة الصراع المفتوح راهناً. والتي يفاقمها ضعف الدور السعودي الباحث عن مرتكزات ذات وزن سياسي اجتماعي فعلي يستند لها، وسط تجاهل تام لبقايا تيار المستقبل وشراذمه المأزومة.
– وعليه فإن اسباب الفراغ الرئاسي لا يمكن حصرها بأوضاع قوى الداخل، التي ترفض تقديم اي تنازلات لمصلحة البلد في صيغة تسوية رئاسية انقاذية. يعزز ذلك إقامة غالبية تلك القوى عند رهاناتها وارتباطاتها الخارجية للاستقواء بها في صراعاتها وخلافاتها لتعزيز مواقعها او حمايتها بانتظار تسوية ما ينتجها الخارج تضمن مصالح الجهتين معاً وتعيد صياغة العلاقة بينها في آن.
أزمة المعارضة وقوى التغيير:
– وفي هذا المجال فإن ما حل بالحركة الديمقراطية والنقابية والشعبية المتكونة تحت راية الحقوق والمطالب العابرة للطوائف والمناطق، والتي همشتها الحرب الاهلية واجهزت على ما تبقى منها سلطة الوصاية السورية، وقوى السلطات الطائفية والفئوية. قد ساهم وعلى نحو ملموس في دمار الحياة السياسية المعارضة طوال عقود وعلى نحو مفجع. وقد تجلى ذلك بتفرد قوى السلطة في مصادرة المشهد السياسي، رغم ما ألحقته بها انتفاضة 17 تشرين الاول عام 2019 من جراح واصابات.
ـ وقد عكست انتفاضة 17 تشرين ومآلاتها فداحة هذا الغياب، الذي استمرت مفاعيله السلبية مع الانتخابات النيابية. وهو الذي يشكل أحد عوامل استمرار ارتباك وعجز تكتل نواب التغيير وعدم قدرته على تفعيل مبادرته الرئاسية، نظرا لغياب الحاضنة السياسية الوازنة والرؤية الواضحة. ما أدى إلى تعدد الاجتهادات والمواقف والطموحات بينهم، عدا اوهام بعضهم جراء تبسيط الازمة التي تعصف بالبلاد كياناً ونظاماً ومجتمعاً. وقد حال ذلك دون أي دور مؤثر وفاعل للتكتل، على نحو سهّل اهتزاز الثقة بأعضائه فرادى ومجتمعين. كما ابقاهم عرضة لهجمات قوى واطراف السلطة التي تستهدف تحويلهم مجرد ملاحق تدور في فلك سياساتها ومشاريعها الفئوية.
– وفي امتداد ذلك تستمر حالة التشتت والهامشية على نحو فادح في ساحة المعارضة بكل مكوناتها: ناشطين ومجموعات وقوى حزبية. بين بحث عن ادوار بأي ثمن، وبين تكرار تشكيل اطر فوقية تولد جهيضة، واوهام ادوار فئوية تحلق في الفراغ. ما يعني أن الأزمة لا تزال تعصف بسائر المكونات، إما في صيغة اشتباك بين مكوناتها واقامة تحالفات سرعان ما تنتهي. أو تكرار قراءات جزئية للانهيار الاقتصادي والمالي، أو اطلاق شعارات تخوينية تستسهل العودة إلى اصطفافات الحرب الاهلية. اما البرامج فأكثرها مبادىء اصلاحية عامة عديمة الصلة بأولويات القطاعات والفئات الاجتماعية والمناطقية، وسط انقطاع شبه تام معها، خاصة وأن الهيئات والاطر النقابية المنتسبة لها اسمياً، إما مشلولة ومعطلة باعتبارها ملاحق بقوى السلطة، أو هياكل خاوية تعيش على تصدير البيانات التي لا تجد من يقرأها. وإلى جانبهما تتواصل دعوات تنظيم احتجاجات واعتصامات هزيلة تستهدف ارضاء الذات وملء الفراغ أو تقطيع الوقت.
– واذا كانت اطراف السلطة تعرف كيف تدير مصالحها وتحصين مواقعها وخوض صراعاتها بانتظار المتغيرات على نحو يكفل لها استمرارية ادوارها وحصصها معتمدة على مصادر قوتها المتعددة، فإن الامر يختلف جوهريا بالنسبة لدُعاة المعارضة، سواء لناحية الهروب من موجبات الانتساب لأزمات البلد وما يترتب عليها من مهام ومسؤوليات على نحو جاد، لا ينفع فيها التحركات والانشطة الفولكلورية، التي تخدم اوهام البعض، وتغطي سعي ابطالها لادوار لن تأتي بها سوى حركات اجتماعية فاعلة ومستدامة، وهو ما يفتقده البلد.
– أخيراً، ومع دخول البلد مرحلة مصيرية مشرعة على المجهول لا سابق لها في تاريخه، يتجدد سؤال ما العمل، في ظل تصاعد حاجة البلد وافتقاده في آن لحركة معارضة ديمقراطية تعددية مستقلة تستند الى الثوابت الاساسية التي تضمنتها وثيقة الوفاق الوطني حول هويته الوطنية الجامعة المنتسبة إلى العروبة الديمقراطية. حركة نضال سياسي اجتماعي متعدد الأوجه وذات بعد اصلاحي وانقاذي تساهم في توحيد قوى المجتمع وفئاته المتضررة واطلاق مسيرة التغيير والتقدم. والسؤال مطروح على نحو محدد بوجه قوى المعارضة المستقلة ومعها النواب المستقلين وجميع الحريصين على بقاء البلد وانقاذه من مخاطر الاصطفافات الطائفية والارتهان للخارج. وفي موازاة السؤال ووسط غياب المبادرات الجادة لبناء مسار تأسيسي على هذا الصعيد، يستمر واقع الحال الراهن في ساحة المعارضة يجرجر ذاته على نحو يستحيل معه مواجهة السلطة ومنازلتها في الميادين التي تؤدي الى محاصرتها واجبارها على اعادة النظر بسياساتها وادائها معاً. وهو ما يسمح ببناء مسار تراكمي يمكن ان يؤدي في نهاية المطاف الى انقاذ البلد بديلا عن الاستسلام الى الواقع الصعب وانتظار المجهول الذي سيُقرر للبلد واهله من قبل الخارج بموافقة قوى السلطة المطمئنة إلى أوضاعها ومستقبل أدوارها في آن.
بيروت 12 تشرين الثاني 2022
المكتب التنفيذي
لمنظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني
Leave a Comment