مرّ عام على رحيلك رفيقنا “واصف”، ومن الواجب ان نقدم لك تقريراً موجزاً عن المستجدات، حول ما آلت اليه أحوال البلد، وحال منظمتنا في ضوء قرارات المؤتمر العام الرابع الذي ترأست جلساته، وكانت مساهمتك أساسية في انعقاده وصياغة وثائقه وقراراته التي أقرت بالاجماع.
لحظة رحيلك تقاطر الآلاف من ابناء بلدتك قب الياس والجوار، لوداعك ومعهم مئات الأصدقاء والرفاق، احتشدوا لتشييعك قائداً ومفكراً ومناضلاً صلباً وابناً وأخاً وصديقاً للجميع. كان الحرص شديداً على احترام وصيتك برفض أي مس بعلمانيتك، أو ما يسىء إلى فكرك وقناعاتك وتاريخك بكل ما انطوى عليه من تنور وإلتزام.
لم يختلف الأمر في بيروت التي عرفتك على امتداد أكثر سني نضالك، رفيقاً دائما للمدينة، تجوب شوارعها وساحاتها، مناقشاً ومناضلاً ومدافعاً عن حقوق العمال والطلاب والحريات العامة، و متظاهراً في سبيل قضايا العرب وفي القلب منها قضية فلسطين. كما عرفتك مكتباتها وصحفها ومجلاتها قارئاً ومؤلفاً وكاتباً نقدياً لا يكل أو يعتريه التعب. لذلك لم يكن مفاجئاً، أن يتواصل سيل المعزين أصدقائك واصدقاء منظمتك، من مختلف المشارب للمواساة، ولكل منهم ذكرى لمحطات مسيرتك مناضلا حزبياً مؤسساً وقيادياً وكاتباً وباحثاً ومحاوراً في منتديات لبنان والخارج.
لقد تابعنا توزيع ونشر وثائق المؤتمرالرابع لمنظمتنا التي حملت مبادرتها لتجديد اليسار، وكانت فرصة للتواصل واستعادة العلاقة مع الكثير من الرفاق السابقين والأصدقاء، وفتح قنوات الحوار مع أوساط عديدة، كما استمرت مجلتنا “بيروت المساء” حاملة تحليل وقراءة مختلف أوجة أزمات البلد والجوار العربي والاقليمي، واتسعت بها مساحات التوزيع والاهتمام والمتابعة. في وقت شكل تنفيذ قرارات المؤتمر أولوية على ما عداها. وعليه، ترسخت عودة المنظمة إلى ساحات الفعل والتفاعل. وتكرّس حضورالرفاق ومشاركتهم في التحركات والتظاهرات المطلبية. وشكل مهرجان “عيد العمال” في الأول من أيار، خطوة استثنائية وأساسية على طريق تأكيد استقلالية الخط والموقع والدور، ومساهمة متواضعة على طريق إعادة بناء القاعدة الاجتماعية لليسار والقوى الديموقراطية والعلمانية.
كذلك حضرت بقوة قضية الشهداء من رفاقنا، ليس من باب تذكرهم والوفاء لنضالهم فحسب، إنما من بوابة التزام حقوقهم علينا وواجباتنا في التواصل مع أسرهم واهلهم، فكانت زيارة ضريح شهداء التصدي للعدوان الصهيوني عام 1978، في بنت جبيل، وما سبقها وتلاها من زيارات ولقاءات مع القسم الأكبر من أهالي الشهداء في مختلف المناطق، وصولاً إلى زيارة ضريحي شهيدي جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، الأول في بيروت والأول في الجنوب الرفيقين مهدي مكاوي وفضل سرور. وكانت مناسبات لعرض وضع المنظمة وتوجهاتها المستقبلية.
وإذ شكل العشاء السنوي في البقاع بمناسبة ذكرى تأسيس المنظمة ال49، حدثاً سياسياً وطنياً وديمقراطياً، وكانت له اصداؤه ونتائجه على أكثر من صعيد، أكدتها ردود الفعل حول التذكير بمراجعة المنظمة لتجربتها ونقد دورها في الحرب الأهلية.
أما مناسبة تكريمك المتأخرة التي أردناها في 16 أيلول ذكرى انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية عام 1982 في مواجهة الغزو والاحتلال الصهيوني لوطننا، وتكريماً لدورك القيادي في مقاومته، وعدا الحشد الكبير الذي فاق التوقعات، فقد تحولت إلى مناسبة سياسية وفكرية وديمقراطية لتكريم المنظمة وقيادتها ودورها الريادي وبينهم الرفيق القائد عدنان حلواني وكل شهداء المقاومة وجرحاها والناس المساهمين في انتصارها، والتي كان لك رفيقي دوراً قيادياً استثنائياً فيها منذ التأسيس، وفي المحطات كافة، وصولاً إلى المؤتمر الرابع، الذي شكل تتويجاً للمراجعة النقدية والتوجهات التجديدية في عالم اليسار التي أرسى مداميكها ومضامينها أميننا العام الرفيق محسن ابراهيم، ورسم من خلالها معالم مسار التجديد الفكري والسياسي والنضالي ليسار ديمقراطي علماني.
أما الحدث الأهم في البلد فكان انتفاضة اللبنانيين في 17 تشرين الأول، الذين ملأوا الشوارع والساحات في شتى المدن ومناطق الوطن، انتفاضة شكلت حدثاً وطنياً تأسيسياً لم يشهد البلد مثيلاً له طوال مائة عام هي تاريخ الكيان اللبناني. انتفاضة اجتمع فيها اللبنانيون رافعين علم الوطن وصادحين بنشيده فقط، ولا يترددون في تحميل الحكم والطبقة السياسية المسؤولية الكاملة عن الانهيار والفساد وما آلت إليه أوضاع وطنهم على مختلف الصعد، صادحين بشعار”كُلن يعني كُلن”، شاملين كل مدعي النزاهة والقداسة والألوهية وأنصافها. مطلقين هتافات توحيدية ديمقراطية وطنية، ومطالبين بحقوقهم المهدورة في شتى المجالات، حالمين بالعدالة الاجتماعية والتغيير والتقدم وقيام الدولة الوطنية الديمقراطية. وعلى امتداد الاسابيع والأشهر كان طيفك حاضراً في صيغة سؤال، ماذا كنت كتبت أو طرحت أواقترحت من مهام وتوجهات لو كنت معنا. لن ندخل في تقييم الانتفاضة وحدود مفاعليها وإشكالياتها البنيوية والسياسية، وعدم ولادة تيار ديمقراطي مستقل وازن وفق برنامج نضالي واقعي متوازن سياسياً ووطنياً. لقد حققت الانتفاضة ما كان ممكناً لها وهو كنز ثمين، كما أسست لتحركات وانتفاضات قادمة لا محالة، في مواجهة الحكم والسلطة وسياسات الهروب من المسؤولية والتخبط في معالجة الأزمات.
قبل اسابيع بدأنا مسيرة التحضير للمؤتمر الخامس أو المؤتمر التأسيسي الأول لحزبنا الجديد، تتويجاً لمسيرتنا واستكمالاً لمبادرتنا “من أجل حزب يساري ديمقراطي علماني”، التي عملنا بوحيها وهدي مضمونها المستند إلى المراجعة النقدية الشاملة وخلاصاتها. آخذين بنظر الاعتبار نتائج مساهمتنا ومشاركتنا في ساحات الانتفاضة ومع مجموعاتها ومنتدياتها وسائر الأنشطة التي شكلت بالنسبة لنا، ميداناً فسيحاً وفرصة ثمينة ليس لتعزيز حضورنا ودورنا وحسب، بل لاختبار خطنا وتوجهاتنا ومواقفنا التي حظيت بالتقدير والاهتمام، وأثارت الإنتباه بالنظر لصوابها الإجمالي وتوازنها وصلابة استقلاليتها، فشكلت عاملاً مهما للتواصل معنا، وتخطي الكثير من العوائق والحواجز الموروثة.
أما وباء “كورونا” الجرثومي الزاحف هذه الأيام، وغير المسبوق على الصعيد العالمي، بما فيه وطننا الصغير المستباح من قبل طبقة سياسية عديمة المسؤولية وطنياً وانسانياً، فقد وضع البلد وأهله أمام احوال صعبة وخطيرة وكارثية صحياً واجتماعياً واقتصادياً. كذلك فرض تأجيل كل الاستحقاقات، إلى جانب إعادة النظر بالأولويات، وجعل السلامة العامة للناس تتقدم كل ماعداها من نشاط وإلتزامات ومشاريع وخطط، في أصعب الظروف ووسط شح الإمكانات.
رفيقي، يبدو أن العام الثاني على رحيلك عن عالمناً سيكون صعباً، لكنه وفق كل التقديرات مرشح لشق مسار تأسيسي متجدد للتغيير وتصعيد المواجهة عالمياً في مواجهة انكشاف مدى بشاعة وضراوة التوحش الرأسمالي المدمر. أما رفاقك والأصدقاء فهم كما عهدك بهم، مازال سلاحهم الأمل.الأمل الذي تشاركوه معك في أصعب المراحل وأقصى المحطات. وصيتك رفيقي نافذة بيننا، وهي تتحدانا في تفاصيل يومياتنا. لك في عالمك الآخر تحية الجميع عائلة وأهلاً ورفاقاً وأصدقاء..
[author title=”زكي طه” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]