اقتصاد

تفاؤل التكليف لا يغطي تخبط البلاد في المستنقع

إذ هذه الزمرة الطائفية المتسلطة غير مستعجلة على تقديم أي تنازل من أجل وقف الانهيار وإنقاذ البلد مما قادته إليه من خراب شامل، كانت آخر تجلياته دمار مرفأ العاصمة وعدة أحياء من بيروت، عدا عن مئات الشهداء والمفقودين وعشرات ألوف الجرحى والمشردين.

كتب عماد زهير

    رغم الأجواء التي أشاعتها عملية التكليف مع ما رافقها من انخفاض سعر صرف الدولار، مفتوحة على احتمال اقتراب تشكيل الحكومة، الا أن الفعلي هو أن الأزمات الطاحنة والمتداخلة أكبر من امكانية استيعابها، وبالتالي التأسيس لحال ايجابية فعلية. ولعل التوقف عند بعض مناخات الاسابيع السابقة تكشف عن حدة المأزق الذي تتخبط فيه البلاد. فقد أطلقت الهيئات الاقتصادية نداء استغاثة حذرت فيه من مرحلة تتعطل فيها كل محركات الاقتصاد وتنعدم فيها السيولة ويفلت سعر صرف الدولار وتندثر القوة الشرائية ويرتفع التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، واقفال شبه شامل للمؤسسات وبطالة جماعية وفقراً مجتمعياً وجوعاً عابراً للمناطق والطوائف… فهيكل البلد ينهار والمؤسسات تلفظ أنفاسها الأخيرة. وأمام الضائقة المعيشية يندفع كثيرون أمام البطالة وانسداد سوق العمل إلى الانتحار أو الهجرة حتى ولو في زوارق الموت.

    قبل النداء وبعده، كان المواطنون يمضون أيامهم في السعي لتدبير لقمة عيشهم أو بحثاً عن حبة دواء مفقود وصفيحة بنزين أو مازوت وغيره من ضرورات العيش، يجري هذا في ما كل التقديرات تؤشر إلى أن الأشهر المقبلة ستكون أشد وبأضعاف مما هي عليه، متى آن أوان رفع الدعم عن القمح والمحروقات والأدوية، نظراً لفقدان المصرف المركزي مواصلة دعم يذهب معظمه لجيوب المنتفعين من مهربين وتجار وغيرهم. وعندها سيضرب البلاد “تسونامي” يجتاح معظم طبقات المجتمع والفقيرة منها خصوصاً.

    والمطالبة باعتماد اجراءات اصلاحية عاجلة باتت منذ شهور وسنوات محل مطالبات دولية وأممية ومحلية، ولا تزال تصطدم بمواقف السلطة التي تتصرف على أن مصالحها الفئوية ومحاصصاتها الطائفية فوق كل اعتبار اقتصادي أو معيشي للناس. وكما تناثرت أوراق المبادرة الفرنسية بين تطاحن مراكز هذه القوى وامتداداتها الاقليمية، لن تكون دعوات صندوق النقد والبنك الدولي، فضلاً عن المواطنين محل اهتمام، باعتبار أن هؤلاء السياسيين لا يعنيهم مصير البلاد وعيش الناس وتأمين حاجاتهم اليومية البسيطة. وفي مثل هذا الوضع يتعذر اعتماد أي مقاربة تقود إلى البحث الجدي عن الحلول. إذ هذه الزمرة الطائفية المتسلطة غير مستعجلة على تقديم أي تنازل من أجل وقف الانهيار وإنقاذ البلد مما قادته إليه من خراب شامل، كانت آخر تجلياته دمار مرفأ العاصمة وعدة أحياء من بيروت، عدا عن مئات الشهداء والمفقودين وعشرات ألوف الجرحى والمشردين. ومن لم يمت بالانفجار يموت بغيره فقراً وعجزاً عن العثور على عمل أو سرير، اذا ما أصيب بالكورونا الذي يتفشى دون أن تنجح عمليات الإقفال في الحد من بطشه.

   وفيما كانت الهيئات تطلق نداءها كان صندوق النقد الدولي يصدر أحدث تقاريره الاقتصادية عن “الشرق الأوسط وآسيا الوسطى”، 2020، ويعبر فيه عن مخاوفه العامة ونظرة سوادوية حيال اقتصاد المنطقة بفعل انخفاض أسعار النفط وكذلك مداخيل مصدِّريه، مع  تفشي وباء “كوفيد-19″، متوقعاً آثاراً تمتد لخمس سنوات مقبلة. ربما تقترب بعدها معدلات النمو من مسارها السابق لتفشي الجائحة.

    وحول لبنان يقول الصندوق إنه لا يزال يمر في وضع صعب، حيث يبلغ حجم الإنكماش المتوقع 25 في المئة خلال 2020، أي بزيادة 13 نقطة مئوية عما سبق وتوقعه في إبريل/ نيسان الماضي. ومن الآن وحتى نهاية العام، وفي ظل الأداء الراهن قد نصحو على أرقام سلبية إضافية. فإلى جانب ما شهده لبنان عام 2019 من انتفاضة وعسر سياسي عن تقديم الحلول،‏ تفاقمت الأوضاع مع التخلف عن سداد ديونه في آذار الماضي‏ للمرة الأولى في تاريخ لبنان. ووقع البلد في دوامة التضخم المفرط نتيجة تدهور العملة المحلية (التي تراجع سعر صرفها الموازي بنسبة 70 في المئة‏ منذ نهاية 2019)،‏ وفرض ضوابط غير رسمية من جانب البنوك على ودائع الأفراد والشركات، ونقص في النقد الأجنبي، مما تسبب بدوره في شلل الدورة الاقتصادية في بلد مدولر بنسبة لا تقل عن 75 % من معاملاته، ما ادى لنقص الغذاء والكهرباء وارتفاع مستويات الفقر( أكثر من 55%). واكتمل ذلك مع انفجار مرفأ بيروت في 4 آب ما أدى إلى خسائر لا تقل عن 7 مليارات دولار.

‏ ويتوقع الصندوق عام 2021 تسجيل نمو موجب ولكن بطيئاً في جميع بلدان المنطقة، ما عدا لبنان وعُمان. ويجزم جهاد أزعور، مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، أن يستمر لبنان في التخبط في أسوأ أزمة عرفها منذ الحرب الأهلية، ما قاد إلى سقوط اللبنانيين بين براثن الفقر، وباتوا بحاجة إلى المساعدة والدعم في معيشتهم. وعليه فإننا “نشجع لبنان على الاتجاه إلى نظام دعم أكثر تركيزاً، بما يسمح بالوصول إلى الفئات الأكثر تضرراً، ويسمح بتحقيق استغلال أفضل لعملاتهم الأجنبية”.

    وتشير المعطيات الاقتصادية والمالية أن  تستمر واردات الدولة الضريبية وغير الضريبية بالتراجع بالمقارنة مع شهر تموز من العام الفائت، ما يضع علامات استفهام حول قدرة الدولة على مواصلة التزاماتها بدفع ما عليها من ديون للمؤسسات وأجور موظفيها ونفقات جهازها الإداري من رواتب ومعاشات تقاعدية وتقديمات  اجتماعية وصحية. وتشمل حالة التراجع ايرادات الجمارك والضريبة على القيمة المضافة والاتصالات و… بينما ارتفع حجم  الرسوم العقارية المستوفاة من القطاع، ما يؤشر إلى انزياح الثروة العقارية من جانب فئات مالكة فقيرة ومتوسطة إلى الطبقات المتمولة، والتي سحبت ودائعها من البنوك خلافاً لمعظم المواطنين. 

    إن عجز الطبقة المسيطرة عن إدارة مقاليد البلاد سياسيا واقتصادياً بات عبئاً على كل قوى الإنتاج وعلى مجمل الفئات الاجتماعية، ولعل التعبير الأجلى لذلك هو  تعليق سداد ديون البلاد الخارجية، والفشل في وضع خطة للتفاوض مع الدائنين، والقيام بأإجراءات اصلاحية من شأنها لجم اندفاع  الكارثة وأعبائها الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية المتعاظمة. يجري ذلك وسط  انتشار كورونا وما يترتب عليه  من حجر وعزل وأعباء… وكلها عوامل مع الفشل السياسي وصراع التحاصص تضاعف من حدة الأزمة المستحكمة بالبلاد ومن عليها…

                                                                    

Leave a Comment