سياسة

تظاهرات ليبيا.. إعلاء الرفض الشعبي لاستباحة البلاد ومقدراتها

زاهي البقاعي

ما بدا للبعض أنه عبارة عن صاعقة في سماء صيف صافية، لم يكن أكثر من أوهام بالمفاجأة. فقد سبق انفجار الغضب الذي انطلق من طبرق في الشرق، وبلغ العاصمة في الغرب، مروراً في الوسط، الكثير من المقدمات التي حفلت بها الأشهر والسنوات الماضية، لجهة دوران البلاد في حلقة مفرغة من المفاوضات المعقدة التي لم تسفر عن أي نتيجة سياسية ايجابية. لكنها أسفرت فقط عن تفاقم الأزمة على مختلف الصعد والمستويات. لذلك عبر المتظاهرون باحراقهم المقار الرئاسية والتشريعية والحكومية والبلدية عن نقمتهم على القوى التي تدير هذه المؤسسات، والتي تعجز عن مغادرة عملية الدوران في الحلقة المفرغة. من هنا تجاوز الحراك قضية بلوغ انقطاع الكهرباء لمدة 12 ساعة يومياً، ليصل إلى نفض اليد ممن يرون أنهم يتحملون المسؤولية عن مسلسل الاخفاقات المتلاحقة. وهم هنا مجلس النواب والحكومات والاجسام السياسية والمؤسسات المحلية. وكانت الذريعة التي قادت إلى هذا التردي سنوات طويلة، هي محاربة الإرهاب والجماعات الإسلامية المتطرفة و… ، وما دامت الشرارة قد انطلقت من مدن الشرق (طبرق وبنغازي) فهي بمثابة رد مباشر على ما سبق وكرره مجلس النواب و اللواء المتقاعد خليفة حفتر لسنوات طويلة من مهمة عاجلة تتمثل في  مقاتلة هذه الجماعات وبناء مؤسسات الدولة .

ووصول التظاهرات إلى العاصمة طرابلس، يعني أن السخط الشعبي يتجاوز ارتفاع درجات الحرارة صيفاً، وندرة ساعات التغذية بالتيار الكهربائي، ليشمل سائر الأجسام السياسية المختلفة والتي تحكم ليبيا بشكل اسمي، بينما عملية تفتت البلاد هي الراسخ الوحيد وسط حال من الفوضى السياسية واالأمنية. ومن هنا رفع المتظاهرون شعارات تطالب برحيل جميع المكونات والمؤسسات السياسية، وإجراء انتخابات عامة، وإخراج جميع القوات الأجنبية من ليبيا.

المفارقة الأكثر دلالة كانت أن معظم الاجسام السياسية الرسمية سواء أكانت تشريعية أو تنفيذية أو قوى عسكرية اعلنت عن تأييدها لمطالب المتظاهرين في بناء دولة ينعم المواطنون داخلها بالأمن والاستقرار والعيش الكريم. وكأن الشعارات التي رفعتها  الجماهير الليبية في تحركاتها الليلية تستهدف أحزابا وقوى ومؤسسات في بلد آخر لا علاقة لهم به، علماً أن البعض اتهم التحركات بأنها تعمل على استعادة نظام القذافي من خلال وريثه.

وفي ما كانت الدعوات الأممية والدولية والاقليمية تشدد على ضرورة ضبط النفس وتجنب العنف، وفي ما كان المتظاهرون يواصلون الاحتجاج كان الأكثر وضوحاً، أن غياب التسوية السياسية هو الأساس الذي قاد إلى تردي الظروف المعيشية والاجتماعية في بلد منتج للنفط، ولا يستلزم وصوله إلى الأسواق العطشى سوى عبور البحر المتوسط عرضاً لبلوغ المصافي والمستودعات في جنوب اوروبا، ولاسيما فرنسا وايطاليا، وهما مع سائر الدول الاوروبية بأمس الحاجة إليه مع تصاعد وتيرة الحرب في اوكرانيا وتوقف امدادات النفط والغاز الروسي إلى مصانعها ومؤسساتها. ومن خلال سيل التصريحات بدا أن سائر الاطراف تخشى أن يقود الاختناق السياسي إلى انفجار القتال على نحو واسع، وبما يطوي سجل المحاولات المبذولة لإيجاد حل سياسي، وسط مجموعة من التدخلات الدولية والاقليمية والمحلية المتنافرة، والتي لا تجد نتيجة تضارب مصالحها قاسماً مشتركا تلتقي عليه، ويؤدي إلى اخراج البلاد من مأزقها المستحكم. وبالطبع تتغذى وتغذي الصراعات الدولية – الاقليمية النزاعات المحلية، وهو أمر ليس بجديد، خصوصاً مع فقدان أي طرف أو كيان سياسي أو قبلي واحد السيطرة أو المشروعية في جميع أنحاء البلاد. ومن المعروف أن أيّ جهد لفرض حل آحادي سيؤدي بالتأكيد إلى انفلات عقال العنف.

وحركة الاحتجاج التي ظهرت منذ العام 2020 كان وراءها ويقودها الآن تيار “بالتريس” الشبابي، يؤكد اليوم عزمه على مواصلة التظاهر السلمي “حتى آخر رمق إلى حين تحقيق الأهداف”. وأنه سيحتل الشوارع والميادين وينصب الخيام في الساحات العامة حتى “يعلنوا استقالتهم أمام العلن”، في إشارة إلى جميع الكيانات السياسية الحاكمة.

عدا المطالبة من جانب الأمم المتحدة والاتحاد الاوروبي بالاستماع إلى مطالب المحتجين وإجراء الانتخابات العامة، من الصعب إلى الآن الحديث عن معالم حل سياسي قريب للأزمة. ولعل الاجتماعات التي عقدت في جنيف مؤخراً برعاية أممية خير دليل على استعصاء الوصول إلى أرضية مشتركة لحل الصراعات الداخلية، بالنظر إلى شبكة العلاقات التي نسجها وينسجها كل من هذه الاطراف بمرجعية اقليمية أو دولية لها مصالحها المختلفة عن مصالح سواها. لذلك لم تنجح عشرات الاجتماعات السابقة في الوصول إلى النتيجة المرجوة. ومع فشل وتعذر الوصول إلى حل سياسي فعلي، تستمر حال التدهور على الأصعدة كافة في البلاد. ولعل ما يدفع إلى التدخل هو مدى الحاجة إلى النفط الليبي في هذا الوقت بالذات، بينما تتكفل الفوضى المسلحة باغلاق مضخات الإنتاج وموانيء التصدير، فضلاً عن استعمال مردودها في رفد قوة هذا الطرف وتأمين المداخيل لرواتب وتسليح ذاك .

ومما لا شك فيه أن التظاهرات والاحتجاجات هي بمثابة دعوة صريحة للطبقة السياسية لتنحية خلافاتها جانبا، وإجراء الانتخابات التي يريدها الشعب الليبي، وإعادة بناء مؤسسات السلطة التي تهاوت تباعاً منذ الإطاحة بالرئيس معمر القذافي ومقتله في العام 2011. لكن حتى تاريخه لم تظهر معالم الحلول البديلة التي تُجبر البعثة الأممية والأطراف الدولية والمحلية على الجلوس إلى طاولة التفاوض ووضع نصب أعينها التفكير في اجتراح حلول بديلة.

واختتمت الجولة الأخيرة من المحادثات في جنيف بين رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، من دون اتفاق على إطار دستوري لإجراء الانتخابات. والفشل الأخير كان بمثابة الصاعق الذي أشعل التظاهرات الغاضبة، لكن سبقته لقاءات  ومؤتمرات وصراعات متكررة لا تعد ولا تحصى . فقد عقد مؤتمر باليرمو – ايطاليا  في العام 2018، وشدد على اعتماد اتفاق الصخيرات، كإطار وحيد قابل للتطبيق من أجل مسار سلمي دائم نحو الاستقرار في ليبيا.

ثم انعقد بعده مؤتمر برلين في 2020 بمشاركة 11 دولة معنية بالأزمة الليبية، بعد إخفاق محاولة موسكو وأنقرة تثبيت اتفاق لوقف القتال؛ ورغم أن المؤتمر انعقد على خلفية التصعيد العسكري التركي، وتصريحات أنقرة بإرسال قوات تركية إلى ليبيا، إلا أن مخرجاته مثلت نقلة في اتجاه التسوية على خلاف ما سبقه من لقاءات واجتماعات سواء دولية أو إقليمية. كما تبنى المؤتمر منظوراً يتسم بدرجة عالية من الشمولية في الاقتراب من التسوية السياسية، إذ راعى ضرورة معالجة كل الملفات العالقة، وليس الاقتصار على اتفاق سياسي بمعزل عن الواقع الميداني وتعقيداته. لكن كل ذلك لم ير النور وتعطلت قرارته في شباط 2021.

وجاء إعلان القاهرة في أعقاب التحول الذي طرأ على موازين القوى على الأرض واستعادة قوات “الوفاق الوطني” السيطرة على مناطق غرب ليبيا، ما جعل مصر تبادر إلى استضافة لقاء جمع المشير خليفة حفتر ورئيس البرلمان المستشار عقيلة صالح. وقد مثل اللقاء محطة مهمة في التنسيق والتفاهم بين الطرفين الأساسيين في شرق ليبيا (البرلمان والجيش الوطني). وأسفر عن إصدار بيان تحت عنوان “إعلان القاهرة” يدعو إلى وقف القتال، ويرسم خارطة طريق لحل سياسي شامل لكل القوى والمكونات الليبية، ولقيت المبادرة تأييداً عربياً وترحيب بعض القوى الخارجية خصوصاً روسيا وفرنسا، إلا أن دولاً أخرى، منها الولايات المتحدة مالت إلى إحياء مسار برلين كأساس لاستئناف التفاوض.

التدخل المصري لا يمكن أن يتجاهل التدخل التركي أو الروسي من خلال دخول موسكو على خط الأزمة بشكل غير مباشر من خلال عناصر تابعة لشركة “فاغنر” الأمنية التي تقدم “خدماتها المدفوعة”  لقوات “الجيش الوطني الليبي”. بالطبع يمكن الدخول في تفاصيل المواقف الاوروبية والاميركية والتركية والمصرية وغيرها، كما يمكن رصد القوى الداخلية سياسية وقبلية وجهوية  .. وعليه، تكاد تصلح الحالة الليبية مشروع دراسة نموذجية لوضع مجتمع ودولة تعاني التفكك، وتتداخل في مسيرة أحداثها دول قريبة وبعيدة ( أكثر من 11 دولة)، بينما لا يجد شعبها سوى الصراخ الليلي من النزف والألم الذي يتآكله يومياً.

Leave a Comment