ثقافة

المؤثرات البصرية: نعمة الحداثة أم نقمة الأصالة؟

يوسف اللقيس

منذ انطلاقة السينما والمنتجين يسعون إلى تجسيد الخيال في صورٍ حية متحركة، يمكن للمشاهدين تصديقها والتفاعل معها بعواطف حقيقية غير مستعارة، لذا نجدهم في تحدٍّ مستمر مع ظروف العرض السينمائي، التي تضع كلّ ما تستطيعه من حواجز تحول دون انسياب المشاعر، وتمكين حالة المصداقية الكاملة، ولم تتوانَ السينما عن تطويع التكنولوجيا لأجل خلق مساحة أوسع من الخيال الحقيقي .

في السينما يجلس مشاهد الفيلم بين غرباء على مقعد مخملي، يحيط به الحوائط المبطّنة والأضواء الخافتة وأزيز الآلات وأنظمة التكييف، ويُمكنه مع أصغر التِفاتةٍ أن يرى لافتة “مَخرج طوارئ” هنا وهناك، وقد تقطع عليه الاستراحة حالة اندماجه مع أحداث الفيلم ( لم تعد موجودة في الوقت الحاضر ). كل هذه الموانع تقف أمامه، مع ذلك يستمر في المشاهدة والتأثُّر والتصديق، أحيانا يشرع في البكاء أو ينتابه الفزع، إنه اتفاق ضمنيٌّ يعقده المشاهد مع الشاشة الكبيرة كنافذة عملاقة، يمنحها بموجبه انتباهه وتصديقه الكامل، على أن تُريه أشهى أحلامه وأفظع كوابيسه وفقاً لرغبته .

منتجو السينما رافقوا العلم و التكنولوجيا طوال الوقت، ولم تتوانَ الآلات الحديثة والشاشة الخضراء عن تقديم ما في جعبتها من ابداع وعبقرية في تجسيد خيال حقيقي يصعب تفريقه عن الواقع، الا و قدمته على طبق من فضة، وعززت بذلك عقد “التصديق” المبرم بين السينما والجمهور الذي اختار بإرادته الحرة ان يكون مخدوعاً لساعة ونصف الساعة، أو ربما اكثر أمام هذه الشاشة العملاقة التي تسمى “سينما”، وهو ممتنّ لكل ثانية خداعٍ تنطلي عليه، معلناً تصديقها أمام الملأ و مبتعداً بها عن واقعه المرير.

فإن أتينا على ذكر تاريخ المؤثرات البصرية فسيكون للعام 1857 علامة فارقة قبل ظهور السينما بأربعين عاماً، و ذلك عن طريق “أوسكار ريجلاندر” الذي أنشأ اول مؤثرات بصرية في العالم من خلال دمج أقسام مختلفة من 32 نسخة سلبية من صورة فوتوغرافية في صورة واحدة، مما أدى إلى تكوين أول طباعة مركبة.

أما في السينما فإن أول مؤثرات بصرية على الإطلاق كانت عام 1895 على يد ألفريد كلارك في فيلم “ماري ملكة أسكتلندا” (Mary, Queen of Scots ) حيث ظهرت في مشهد قطع رأس الملكة “ماري” آنذاك .

لقد وصلنا اليوم مع السينما اعزائي إلى أعلى درجات المصداقية فيما نشاهده أمامنا، و ذلك بفضل ما وصلت إليه الصورة من تطور رهيب و غير مسبوق، عن طريق تقنيات الجرافيك والصورة المخلّقة التي قدمها لنا  الكومبيوتر ( CGI ) والصورة الثلاثية الأبعاد أيضا، كل هذا التقدم والازدهار الصوري والطفرة في خلق صورة متحركة تكون موازية في مضمونها للصورة الحقيقية، لدرجة أنك ستكون حائراً في معرفة إن كان هذا حصل بالفعل أم لا .

حسناً لنعد للوراء قليلاً ونراقب المشهد العام بدقة، هل كان ظهور هذا التطور الرهيب في الصورة التي وصلت إليه السينما، على حساب شيء آخر؟

وهل أوجب دخول التكنولوجيا الحديثة على السينما مؤخراً، ضرورة اختفاء قطعة من اللوحة الأم؟ ما هي هذه القطعة؟ و هل سيُعتَبر غيابها بمثابة المسمار الاول الذي دُقّ في نعش مستقبل السينما؟

نرى الان جيلاً عظيما من المخرجين المخضرمين الذين وضعوا حجر الأساس للسينما الكلاسيكية وقدموا تعريفاً لها عبر أعمالهم الخالدة، والذين بدورهم ادانوا وعارضوا بشدة دخول المؤثرات البصرية بشكل مفرط أفقد السينما جوهرها الاصلي، وبها اصبحت المؤثرات هي فحوى العمل، بدلاً من أن تكون في خدمته، نذكر بعضهم على سبيل المثال لا الحصر: فرانسيس فرد كابولا – وودي ألن – أندريه تاركوفسكي – مارتن سكورسيزي وغيرهم الكثير.

برأيي المتواضع جدا وبعد أن مررت كضيف عاشق أبدي للسينما وأعمالها، أقول بأن المؤثرات البصرية إن أُجيد توظيفها بالاسلوب والوقت المناسبين في العمل المطروح تشكّل إضافة غنية ومثمرة للفيلم، وتعتبر مكملة له في إظهار غنى وسحر المشهدية العامة المراد إظهارها كما تصورها المخرج، وكدليل يعزز ما اقوله هو المخرج الكندي الاصل “دينيس فيلينوف” الذي حاز مؤخرا على جائزة “مخرج العقد”. “فيلينوف” يحسن توظيف واستخدام المؤثرات البصرية بشكل يضفي على قصته رونقاً براقاً، و يلبسها عباءة الحقيقة الداعمة للمشهد العام .

أما إن ظهرت بالمقابل المؤثرات البصرية كقطعة أساسية في العمل لا غنى عنها، فهنا أصبحت هي المحتوى وهي المضمون، ومن دونها سوف يفشل العمل بأكمله، وأفلام “مارفيل” و”دي سي”، أو كما تُعرف بافلام الابطال الخارقين، هي المثال الأبرز لهذه الجهة من موضوعنا الذي يرتكز جلّ عملها على الشاشة الخضراء التي تشكل نافذة نحو فضاء سريالي واسع، يضج بكل ما يريد البطل الخارق إظهاره أمام الناس .

والأخطر من ذلك أن هوى الجمهور المتابع اليوم يذهب باتجاه المؤثرات وأبطالها الخارقين، لأن أغلبهم هم من ضمن الفئة العمرية الصغيرة، أو بالأحرى “المراهقون” الذين ابصروا النور على افلام خاوية المضمون والمحتوى الأصلي الذي يجب أن يتغنى بها اي عمل يحصل على شرف العرض السينمائي .

جيلٌ انجرف إلى التغني بالشاشة الخضراء والتصديق بان ما تراه عيناه هو السينما فقط لا غير، ضارباً عرض الحائط بأصالة الفن السابع المتمثلة بالأعمال الكلاسيكية التي تطرح محتوى تأملياً، شاعرياً، وجودياّ بامتياز .

من جديد اصدقائي أعود لأقول، هي مجرد نظرة ثاقبة لمخرج امتهن صوابية التوظيف في فيلمه، فعرف اين و متى يستخدم الحداثة لتدعيم أصالة العمل .

Leave a Comment