صحف وآراء

تحديات الدخول الى الوطن على الطريقة اللبنانية

كتب الدكتور بول طبر

بناء الوطن والمواطنة عملية متعثرة منذ ولادة لبنان الكبير. والأسباب عديدة ومتنوعة، منها يعود إلى التدخلات التي قامت بها الدول الاستعمارية في هذا المجال، أي فرنسا وبريطانيا العظمى، ومنها ما ينتمي إلى كتل وقوى إجتماعية كانت صاعدة في بيروت وجبل لبنان (برجوازية تجارية ومالية، مسيحية أساساً، مدعومة بمؤسسة كنَسية دينية وثقافية وتربوية واقتصادية وسياسية متكاملة) وجدت مصالحها في تحقيق فكرة نشوء لبنان الكبير بدعم من الانتداب الفرنسي لغاية تاريخ الاستقلال عام ١٩٤٣. ومع نشوء لبنان الكبير، تم إلحاق بيروت والجنوب والبقاع وطرابلس- سهل عكار بجبل لبنان، رغم تضارب هذا القرار مع التطلعات السياسية لأهالي تلك المناطق الذين كانوا في غالبيتهم مع فكرة الانضمام الى المملكة العربية الهاشمية، أو أقله غير موافقين على الإلتحاق المذكور. لكن المسألة الأساسية فيما يتعلق بموضوع بناء الوطن والمواطنة منذ ولادة لبنان الكبير تبقى أساساً متصلة بما قامت به النخب السياسية التي توالت على الحكم، وردود الفعل التي استدرجتها خصوصاً في المناطق التي استُلحقت بلبنان الكبير رغماً عن إرادة أغلبية سكانها.

بكلام موجز، شرع الجناح المسيحي المسيطر عل الدولة والإقتصاد وغيرها من المؤسسات في بناء مجتمع سياسي ما دون سقف الوطن والمواطنة. وكانت الشهابية الحالة الإستثنائية الوحيدة التي حاولت أن تعتمد هذا السقف السياسي مقياساً لوجهتها السياسية، وقد باءت بالفشل بسبب المعارضة التي واجهتها، لا سيما من قبل أركان الجناح المسيحي نفسه وما يمثله من مصالح. وفي هذا السياق، أصر هذا الجناح على التعامل مع سكان لبنان الكبير بصفتهم ينتمون إلى وحدات طائفية، وأخضعوا هذه الطوائف إلى علاقات تراتبية يتم بموجبها توزيع غير متساوٍ للموارد العامة وللحقوق والواجبات، كل حسب انتمائه المذهبي. هذه القاعدة العامة التي تجسدت في الدستور وميثاق 43 والمراسيم والقوانين، تجلت أيضاً في الفضاء الثقافي “العام” في البلد، جعلت من الإنتظام الطائفي للأفراد انتظاماً طاغياً في التفكير والممارسة السياسية.

بالمقابل، تشكلت المعارضة للسلطة في لبنان بصورة عامة بطريقتين: ألأولى اعتمدت القاعدة الطائفية لتنتظم وتصوغ مطالبها، وأصبحت تنادي بـ “المشاركة” و”حقوق أبناء الطائفة المحرومة”، والثانية، ارتكزت إلى الفكر اليساري والقومي متوسلة التنظيم الحزبي لتأطير الأعضاء وقيادة “الجماهير” للوصول إلى السلطة. وكانت المعارضة بشكلها اليساري والقومي الحزبي قد نمت نسبياً في أواخر الستينات ومعظم عقد السبعينات من القرن الماضي، إلا أنها ما لبثت ان تراجعت بسرعة، لا سيما بعد إنسحاب جيش العدو الإسرائيلي من بيروت ومنطقة صيدا. ويعود هذا التراجع لعدة عوامل ليس المجال هنا متاحاً لمناقشتها وأبرزها الهزيمة أمام اسرائيل وأمام جرافة الهجوم السوري، إلا أن هذه العوامل تضمّنت أيضاً سياسة هذه الأحزاب المهادنة عموماً للقوى “الإسلامية” المعارضة للجناح المسيحي في السلطة، خلال الحرب الأهلية التي دامت من 1975 إلى 1990. على أي حال، تطيَّفت “المعارضة” بالكامل منذ حوالي منتصف الثمانينات وتضاءلت أحجام القوى اليسارية والقومية، لا بل إندثر معظمها وغاب عن المشهد السياسي اللبناني العام.

أمام هذا الواقع والتطييف شبه الكامل للعمل السياسي في لبنان، وقعت انتفاضة 17 تشرين من العام 2019 لتدشن بروز معارضة ذات خصائص مميزة قياساً على المعارضات التي برزت في لبنان من قبل. أولاً، كانت المشاركة الشعبية الواسعة لتلك المعارضة مشاركة مدفوعة بقرارات تتعلق بإرادة المشاركين، لا علاقة لها بقوى أو أحزاب سياسية قائمة، وحتى المجموعات المنظمة التي شاركت في التحركات الشعبية كانت مجموعات لا علاقة لها بالأحزاب، وقد تم تشكيل أغلبها في سياق الإنتفاضة وتفاعلها مع الأحداث المتلاحقة. وثانياً جاءت الإنتفاضة عابرة للأطر السياسية الطائفية، مدفوعة بمطالب يصح تصنيف معظمها بأنها تدعو للإنتقال من مجتمع الطوائف وحقوقها، إلى مجتمع المواطنين وحقوقهم وواجباتهم المتساوية أمام القانون. كما اتسمت الإنتفاضة بمطالبتها بقيام دولة القانون وبفصل السلطات ومحاربة الفساد وتحقيق العدالة الإجتماعية وقيام سلطة قضائية مستقلة. وثالثاً، شملت الإنتفاضة مختلف المناطق اللبنانية واتخذت طابعاً لامركزياً لجهة المشاركين في التحركات والأطراف الموجهة لها.

بذلك يجوز القول أن انتفاضة 17 تشرين أسست لانطلاق مسار تكوين معارضة مميزة لا تشبه “المعارضات” الطائفية المسيطرة على المشهد السياسي، ولا المعارضات اليسارية والقومية الحزبية التقليدية. والجانب الأساسي لما يحدث في طرابلس يؤكد على ما نسوقه من كلام عن موضوع المعارضة المستجدة في لبنان. تاريخياً اختبرت طرابلس المعارضة للنظام في لبنان من مدخل طائفي مناطقي، ومن مدخل يساري وقومي حزبي (أضف المدخل الإسلاموي الذي تأرجح بين المدخلين الطائفي واليساري/القومي). وها هي طرابلس تعلن مراراً وتكراراً منذ تشرين 2019، عن ولوجها المشهد السياسي المعارض من مدخل المطالب الإجتماعية والسياسية والمعيشية المفتوحة بالتعريف على مطالب جميع المشاركين والمؤيدين لانتفاضة تشرين في جميع المناطق اللبنانية. إنتفاضة 17 تشرين وما تلاها من تحركات ومواجهات مع السلطة في لبنان، وآخرها انتفاضة أبناء طرابلس، تؤسس للحظة تاريخية في السعي نحو مسار بناء معارضة وطنية تسعى إلى تأسيس “وطن” مؤلف من مواطنين وليس من طوائف سياسية، لهم حقوق وعليهم واجبات متساوية. يتمتعون بنظام إقتصادي منتج يقوم على تطبيق العدالة الإجتماعية، وتأمين الكرامة والعيش الكريم في اطار نظام ديموقراطي يحقق التساوي بين جميع أبنائه. ويبقى المطلوب بإلحاح هو البناء على أساس هذا الحدث المفتوح على حلم اللبنانيين في تحقيق وحدة شعب ووطن لبناني طال انتظاره لمئة سنة ويزيد.                   

Leave a Comment