صحف وآراء

الاتجاهات السياسية في البيئة المسيحية: من الانتفاضة الى الفيديرالية الى المؤتمر الدولي

كتب غسان صليبي

المصدر ـ جريدة النهارـ 4 آذار 2021

في غياب استطلاع للرأي، علمي وموثوق به، يصعب تحديد الاتجاهات السياسية بدقة في #البيئة المسيحية اليوم. افترض في هذا النص، وبناء على ملاحظاتي وتحليلي الخاص، ان مواطني البيئة المسيحية يتوزعون على اربعة اتجاهات سياسية: إتجاه لا يزال منخرطا في الانتفاضة وما تحمله من أبعاد مختلفة؛ اتجاه يفضل الصيغة الفيديرالية في الحكم؛ اتجاه يؤيد طرح البطريرك الراعي حول المؤتمر الدولي وما يتضمنه من تمسك باتفاق الطائف؛ وأخيرا الاتجاه الذي يمثله “التيار الوطني الحر” والمتماهي اقليميا مع “حزب الله” والساعي محليا الى تعديل نظام الطائف. 

افترض ان الاتجاه الغالب اليوم هو الاتجاه المؤيد للبطريرك، وان هذا الاتجاه هو نتيجة لما آلت اليه التبدلات في اوساط الرأي العام المسيحي، التي بدأت مع الانخراط في الانتفاضة مرورا بالعودة الى المناداة بالحل الفيديرالي، وصولا الى المطالبة بالمؤتمر الدولي.

عشية الانتفاضة، وبعد الانتخابات النيابية الأخيرة، بدت البيئة المسيحية منقسمة سياسيا، مع تراجع تأثير “التيار العوني” لصالح “القوات”،  وبداية تنشيط الاحزاب القديمة كالكتائب والكتلة الوطنية، إضافة الى بروز كتل مستقلة عن الاحزاب خاضت للمرة الأولى الانتخابات النيابية الأخيرة.

الانقسامات السياسية داخل البيئة المسيحية، بالمقارنة مع التماسك السياسي داخل المذاهب الأخرى، كانت لافتة منذ اتفاق الطائف وقد تُرجمت عمليا بدينامية ومنافسة في الانتخابات النيابية لم تشهدها البيئات المذهبية الأخرى التى طغت عليها اتجاهات شبه إحادية. هذه الانقسامات في البيئة المسيحية سهّلت بروز إتجاهات مستقلة عبّرت عن نفسها خلال الانتفاضة. يمكنني القول ان نسبة المشاركة في الانتفاضة في البيئة المسيحية كانت عالية نسبيا بالمقارنة مع البيئات الأخرى، التي شهدت ضغوطا أكثر حدّت من مشاركة المواطنين المسلمين. وقد تمظهرت المشاركة المسيحية من خلال مؤشرات بينها: 

– كثافة المشاركة الشعبية في ساحات متعددة: بيروت، جل الديب، الزوق، جبيل، زغرتا، وبشري، كما في بعض الساحات الاخرى.

– مشاركة الاحزاب المسيحية، ولأغراض متعددة، في الانتفاضة، بإستثناء “التيار الوطني الحر”.

– غضب شعبي مسيحي عارم في اوساط المنتفضين ضد جبران باسيل تّرجم بشتيمة “الهيلا هيلا هو”، مما شكل نوعا من الانتفاضة داخل البيئة المسيحية ضد السلطة التي تدّعي تمثيلهم.

 – التأييد العلني المتكرر للانتفاضة من المرجعيتين الدينيتين البارزتين، البطريرك الراعي والمطران عودة.

– تقاطع بعض استطلاعات الرأي حول النسبة الكبيرة للمسيحيين (قُدّرت بستين في المئة) الذين لن يصوتوا مستقبلا للأحزاب القائمة حاليا.

– وجود أكثرية مسيحية ساحقة من بين النواب الذين استقالوا من مجلس النواب، واستقالة حزب “القوات” وحده من حكومة الحريري ورفضه المشاركة في الحكومات قبل إجراء انتخابات نيابية مبكرة.

تعثر الانتفاضة، لا بل وصولها الى حائط مسدود سياسيا، كان لهما تأثير كبير على المزاج المسيحي، الذي عاد يميل الى الصيغة الفيديرالية مع تعذر التغيير على المستوى المركزي. ولا سيما ان هذا التعذر ترافق مع ترسخ إتجاهين على مستوى البلاد؛ من جهة تزايد هيمنة “حزب الله” على القرار الوطني ووقوفه سدا منيعا امام إسقاط السلطة ووصول الانتفاضة الى مبتغاها. من جهة ثانية تطبيق “حزب الله” لأقصى درجات الفيديرالية من خلال استقلالية مناطقه على المستوى السياسي والاقتصادي والمالي والامني والعسكري والثقافي. وفي إعتقاد نسبة كبيرة من المسيحيين ان بيئة “حزب الله” لا تدفع رسوم الخدمات العامة وهي معفاة من رسوم الجمارك في المرفأ وفي المطار، اللذين يسيطر عليهما “حزب الله” بحسب إعتقادهم أيضا. فضلا عن الوجود المهيمن نسبيا لمحازبي او مناصري “الثنائي الشيعي” في مؤسسات الدولة.

جاء الدفع الاكبر في اتجاه الفيديرالية بعد تفجير مرفأ بيروت في ٤ آب وتضرر المناطق المسيحية خاصة، وما تلاه من شبه إجماع لتحميل “حزب الله” مسؤولية جلب كمية نيترات الامونيوم وحمايتها، هذا الاجماع الذي يترسخ يوما بعد يوم عند الرأي العام المسيحي، مع تأكد ضلوع عملاء للنظام السوري في العملية. 

نزعة الفيديرالية هذه تختلف عن تلك التي شهدتها “المنطقة الشرقية” ابان الحرب. ففي تلك الفترة كان “التقوقع” المسيحي موقفا حزبيا رافضا لخسارة امتيازات سياسية في نظام سياسي طائفي، مع قدرة الحفاظ على امتيازات اقتصادية وصحية وتعليمية وثقافية تاريخية. اليوم اصبح الموقف ذا طابع شعبي وجودي، في ظل غياب الامتيازات على جميع الصعد، ولا سيما بعد الانهيار المالي والاقتصادي من جهة، والنزيف الديموغرافي المسيحي من جهة أخرى. كل ذلك في إطار تنامي النزاعات الدموية الاصولية السنية والشيعية في المنطقة،  وما أدت اليه من فرز مذهبي جغرافي، ومن تهجير مسيحي.

ترافقت هذه النزعة الجديدة نحو الفيديرالية مع نزعة لطلب الحماية الدولية في ظل تقاعس السلطة عن حماية ارواح الناس وممتلكاتهم وعن تأمين معيشتهم. وقد جرى التعبير عن هذه النزعة بشكل فج من خلال توقيع عدد كبير من المسيحيين لعريضة تطالب بعودة الانتداب الفرنسي، بعد زيارة ماكرون الاولى لبنان. ويجب فهم طلب الحماية هنا بجانبيها الامني والمعيشي.

على مستوى الاحزاب المسيحية لم تُسمَّ الفيديرالية بإسمها، بل جرى التوافق حتى بين الخصوم، على المطالبة باللامركزية الموسعة. لكني اعتقد انه على المستوى الشعبي كما على المستوى الحزبي، هناك شبه إقتناع ان الفيديرالية غير قابلة للتطبيق عمليا. ليس فقط لاسباب ديموغرافية، جيوسياسية او اقتصادية، بل لأن “حزب الله”، كفريق مقرر في شأن المسار الوطني، يرفض ذلك رغم تطبيقه الفيديرالية في مناطقه. وهذا النفوذ لـ”حزب الله” مرشح للتزايد والترسخ، مع بداية المفاوضات الاميركية – الايرانية، وقبول “حزب الله” بترسيم الحدود مع إسرائيل، وتقدم العلاقات الاسرائيلية – السورية في إتجاه التطبيع برعاية روسية. جميع هذه التطورات قد تأتي لصالح “حزب الله”، الذي سيستفيد أيضا في مجال المحاصصة المذهبية المتعلقة بالغاز والبترول، لأنه هو من سيقود عمليا ترسيم الحدود البحرية. أضف الى ذلك سعي الحزب الى ترجمة قوته العسكرية دستوريا من خلال تعديل النظام بمساعدة من حليفه “التيار الوطني الحر” ممثلا بجبران باسيل.

في هذا السياق يمكن فهم تطور مواقف البطريركية المارونية، التي تؤكد اليوم الحياد الناشط وضرورة عقد مؤتمر دولي من اجل لبنان برعاية الامم المتحدة، مع حرص البطريرك على التوضيح ان هدف المؤتمر هو الحفاظ على اتفاق الطائف. وكأن بكركي تحاول ان تحجز منذ الآن مقعدا في المفاوضات الاقليمية -الدولية على مستقبل لبنان. ويبدو ان هذا الطرح يلقى تأييدا مسيحيا واسعا ودعما متزايدا في الاوساط السنية والدرزية، وبعض الاوساط الشيعية. وتكمن جاذبية الطرح البطريركي على الارجح، في انه اولا يؤمن توازنا دوليا مع التأثير الايراني، ويشكل ثانيا تعويضا للمسيحيين عن عدم القدرة على تحقيق الفيديرالية وذلك من خلال تأمين حماية دولية بديلة، وثالثا يحفظ للقوى السياسية السنية والدرزية الاساسية وبعض القوى الشيعية، مصالحها في نظام الطائف. وأزعم ان طرح البطريرك، مع انسداد الافق الداخلي، يلاقي عطش اللبنانيين بشكل عام الى حياة مشتركة كريمة تنتشلهم من المآسي التي يتخبطون فيها بعيدا من التجاذبات الاقليمية والدولية وخطر الحروب. ولعل شعار “حياد- سيادة- استقرار” الذي رُفع في ساحة بكركي في يوم التضامن الشعبي الحاشد مع مواقف الراعي، السبت في 27 شباط، يعبر ابلغ تعبير عن حاجة اللبنانيين الى حياة هادئة خالية من التوترات والازمات والتدخلات الخارجية.

قد يتساءل المرء عن هذا الانتقال السريع في المزاج المسيحي، من الانتفاضة الى الفيديرالية الى التدويل، وقد يرى في ذلك تناقضا وتقلبا جذريا في المواقف. هذا صحيح. الصحيح أيضا اننا قد نشهد عودة الى طرح الفيديرالية مع دعم شعبي كبير هذه المرة، اذا فشلت مبادرة بكركي من اجل عقد مؤتمر دولي. هذه التبدلات هي إحدى نتائج النظام الطائفي والموقع الاقلوي للمسيحيين، في إطار اقليمي متمذهب وفي حالة صراع دموي.

يمكن فهم أفضل لدور بكركي المركزي في هذه المرحلة، على حساب القوى الحزبية ومجموعات الانتفاضة، إذا أخذنا في الاعتبار العوامل الآتية:

– في بداية الانتفاضة كانت المسألة تغيير السلطة، اليوم  ومع الانهيار الكامل في مؤسسات وقطاعات الدولة، اصبحت المسألة استمرارية الكيان اللبناني. ولطالما كان دور بكركي أساسيا وتاريخيا في حقبات مماثلة.

– مع عجز القوى العلمانية داخل الانتفاضة عن التصدي الواضح للطابع الديني العسكري لـ”حزب الله”، الذي يضرب أساسات اي مشروع لبناء دولة مدنية، لا غرابة، في نظام مذهبي- طائفي، ان يتولى رجل دين مواجهة رجل دين آخر يبسط حاليا نفوذه على المسار السياسي الوطني. وكون رجل الدين الثاني مسلحا، يوفر اللباس الديني نوعا من الحماية للطرف الاعزل الذي يريد مواجهته، ولا سيما ان بكركي تحظى بحماية الفاتيكان. – بروز دور بكركي جاء أيضا نتيجة انكفاء قوى الانتفاضة بشكل عام وإفتقار الاحزاب للثقة الشعبية التي تؤهلها للقيادة. للمفارقة، حمل حزب مدني مسيحي، هو “التيار الوطني الحر”، مطلب “حقوق المسيحيين”، في حين ان المرجعية الدينية في بكركي، رفعت المطالب الوطنية. وقد كان لافتا في كلمة الراعي في ساحة بكركي، تبنيها مطالب الانتفاضة كافة بما فيها مطلب الدولة المدنية، مع إضافة “لا تسكتوا عن السلاح غير الشرعي”، الذي عجزت الانتفاضة عن البوح به. بهذا المعنى فرضت الانتفاضة خطابها حتى على المراجع الدينية. وهذا ما يجب التوقف عنده أيضا، وعدم الاكتفاء بنقد تدخل المراجع الدينية في السياسة، وكأننا نعيش في مجتمع علماني. انها دينامية التأثير المتبادل بين الديني والمدني، في المجتمعات التي نعيش فيها.

Leave a Comment