ثقافة مجتمع

بول طبر في “شذرات من سيرة حياته العادية”: من طرابلس إلى استراليا و.. مواقع نضال مستمر

زهير هواري

في كتابه الصادر حديثاً عن منشورات المعهد الفرنسي للشرق الأدنى IFPOCHE يقدم بول طبر ما يصفه بأنه “شذرات من سيرة ذاتية عادية”. والشذرات في معاجم اللغة العربية هي نُتَف الذهب التي تتجمع خلال عملية صياغة الحلى وسك النقود الذهبية. ويقول بعض المعجميين إنها الخرز الذي يفصل بين الاحجار الكريمة في العقود والقلائد. وعليه يقدم لنا بول في مؤلفه هذه الشذرات عن حياته، يقيناً أن أحداً من يكون ومهما بلغت بلاغته، لا يستطيع أن يقدم سيرة حياته كاملة، كما كانت عليه في لحظات معاناتها فرحاً ولهواً وصعوبات عيش وكفاح. لكن بول ينجح في صفحات عمله أن يقدم ما هو أهم من الشذرات التي اختارها عنواناً لعمله، يقدم لنا مجتمعين بكل ما فيهما من صراعات واتجاهات ومعضلات وأنظمة وتفلت وما تركاه من بصمات في هويته الفكرية ـ الثقافية ـ السياسية، بالعلاقة مع المكان أو المكانين اللذين أمضى شطراً من حياته في كليهما، من دون إغفال الهوية الكونية التي تنتسب إلى العالم الأوسع في عصر المعلوماتية والعولمة.

يمكن مع بعض المبالغة تقسيم العمل إلى قسمين، أولهما يتناول سيرة حياته العادية في لبنان حتى سن السادسة عشرة من عمره، حين غادر مع بقية العائلة وطنه الأم لبنان، أما القسم الثاني فيتناول إقامته في استراليا، وحياته الحزبية مناضلاً مع تنظيم الخارج في منظمة العمل الشيوعي وسط الجاليتين اللبنانية والعربية خلال احتدام الصراع في غضون سنوات الحرب الاهلية بين الاعوام 1975 – 1990، ومسيرته الاكاديمية دارساً ومدرِّساً في جامعاتها، أوجامعات لبنان خلال عودته مرتين إليه، محاولاً الاستقرار في بلد بات طارداً لأهله منذ أن كانت هجرة أول لبناني في غضون الحرب العالمية الاولى، أي منذ أن باتت الحياة العادية عصية إلى حد يدفع دوماً بقسم من سكانه إلى البحث خارجاً عن تحسين ظروف حياتهم التي يجدونها تنهار أمام أعينهم دون أن يجدوا أمامهم سبيلاً لوقف هذا الانحدار. فكيف إذا ما تضافر العاملان السياسي مع الاجتماعي والأمني؟

يبدأ من طرابلس وتحديداً من محلة القبة، وهي منطقة اجتذبت خليطاً من الناس الذين ينتمون إلى طبقة من الحرفيين وصغار الموظفين في القطاعين العام والخاص والجنود من الأقضية المجاورة زغرتا واهدن وعكار والكورة، فالمدن دوماً تجتذب إليها أبناء الأقضية المفقرة، يقيناً أنه من خلال أنشطتها وقطاعاتها تستطيع استيعاب طاقاتهم على العمل. والوالد هو واحد منهم حيث يعمل دهاناً للبيوت في حرفة ورثها عن أبيه. وهو في مزاولتها شبه مياوم، يعمل حيث يتوافر من يحتاجه إلى طلاء منزله. ومن هذا الدخل الهزيل على الوالدة ليندا أن تتدبر أمور الانفاق على الأسرة التي تمر بظروف قاسية، لا ينفع الالحاح على الوالد في ضرورة إنقاذ وضعها المتهالك رغم السفر لفترات إلى الكويت ودول الخليج. فالمنزل عملياً مؤلف من غرفتين، ويفتقد إلى الوسائل الحديثة كالتلفزيون والبراد والغسالة وباقي تجهيزاته متواضعة. يدرس بول كما أخيه الاكبر بيار في مدرسة رسمية أو خاصة بسيطة يلتحق بها من هم ذوي مرتبة اجتماعية دنيا، بهدف تحسين لغته الفرنسية التي لا تتحسن فيها. الوالد كتائبي ويملك الثياب النظامية التي وزعها الحزب على عناصره بما فيها البيرية والشارة التي يضعها على ياقة سترته في المناسبات. ولأنه من زغرتا كان انتسابه للحزب هرباً من العشائرية التي تحكم الحياة السياسية في زغرتا، لكنه يحافظ على موروثه المحلي بدليل وضعه في صدر البيت وعلى نحو يستطيع من في الشارع رؤيتها صورة مؤسس الحزب الشيخ بيار الجميل مع صورة النائب الأب سمعان الدويهي، ثم أنه أسمى ابنه البكر بيار تيمنا بالشيخ المؤسس. وهي الصورة التي ظلت معلقة في مكانها رغم رفض الوالدة لبقائها مخافة أن تقود إلى مشكلة مع مجتمع محلي طرابلسي سمته القومية والناصرية والاسلامية السنية. ستظل الصورة معلقة حتى رحيل الأب إلى استراليا على أمل أن يتمكن في بضعة سنوات من العودة بعد تكوينه ثروة تنقله من موقعه الطبقي المتدني إلى موقع متوسط. لكن العكس يحصل مع هذه العائلة وباقي عائلات المهاجرين إذ تتحول الإقامة المؤقتة إلى دائمة مع زيارات متقطعة للبلاد.

بداية ينجح الأب في إلحاق ابنه الاكبر بيار به في بلاد الكنغر، ثم تلتحق به البقية بعد أن يكون بول قد أتم الحصول على الشهادة المتوسطة. في غضون ذلك نتعرف على نماذج من شيطناته ومغامراته كمراهق مع رفاقه، وعلى أفراد هيئته التعليمية سواء في القطاع العام أو الخاص. وبداية تعرفه البسيط على الفكر السياسي للحزب القومي السوري (مجلة مواقف)  أولاً ثم للحزب الشيوعي  (مجلة الطريق)، دون أن تتركا بصمات واضحة عليه. أن يصل بول مع باقي الأسرة إلى استراليا ليس أمراً تفصيلياً في حياة مراهق مغترب، مواجه ليس فقط بصدمة ثقافية، بل بصدمة سياسية ـ اجتماعية ـ اقتصادية أيضاً.  يعمل كادحاً لمساعدة العائلة في أحد المصانع ويصبح في عداد البروليتاريا، ثم ينتقل منه بعد إجادته الانكليزية إلى وظيفة أمين مستودع وهو عمل أكثر مردوداُ ومسؤولية. ودوماً يجتهد لامتلاك اللغة الانكليزية ويستفيد من فرصة وصول حزب العمال واجراءاته الاصلاحية واعترافه بالتعدد والتنوع التي تتشكل منها استراليا وحقوق الاقليات، ويحصل على منحة للدراسة تعوض على العائلة مساهمته في تأمين مصروفها بما فيه المساهمة في دفع قسط المنزل. كان طموحه بداية أن يصبح مهندساً كهربائيا، لكنه لم يلبث أن يتخلى عن هذا الطموح لصالح دراسة الانتروبولوجيا والفلسفة. وهكذا يتابع دراسته الليلية قبل أن ينخرط في الجامعة ومناخها، طالباً ثم باحثاً. وقبل أن يحصل على الدكتوراة يصبح مدرساً لبعض المواد، ثم بعدها يصير أستاذاً في عداد هيئتها التعليمية.

يبدو التقسيم الذي اعتمدته لمقاربة حياة بول متعسفاً بعض الشيء، فالمرحلة الاسترالية من حياته التي طغا عليها العمل والكدح بداية، ثم الانغماس في الدراسة الجامعية لا تعني غياب لبنان عن اهتمامه كما يظهر من النص، وأنها اقتصرت على ذاكرة الطفولة و”الولدنة” سواء في طرابلس أو أهدن وزغرتا، أو خلال تلك الزيارات في الاعياد إلى برج حمود لمعايدة جدته لأمه وأخواله، حيث يتعرف في الاخيرة على ما يتجاوز المشاغل العادية لمراهق كما حدث معه في مسقط رأسه طرابلس، من نوع الذهاب إلى السينما أو مناصرة صديق يتعرض للتنمر، متأثرً بما غرسته الوالدة فيه من قيم التعاطف مع الضعفاء، سواء أكانوا ضمن بيئته أو بعيداً عنها. دوماً يصبح المهاجر أقرب إلى أمكنة وطنه مما كان عليه خلال إقامته فيه، وهو ما يمكن أن يفسر الكثير مما دأب عليه بول في مسيرته، وبصرف النظر عن النقاشات التي خاضها مع والده الكتائبي ومن خلافهما على الكبيرة والصغيرة مما يشهده لبنان، واستعماله ترسانة الردود على منطقه، يمكن أن يكون انتسابه إلى منظمة العمل الشيوعي نوعاً من العودة إلى لبنان بصرف النظرعن بقائه في استراليا. كل البناء التنظيمي للمنظمة الذي ساهم مع رفاقه في تشييده يندرج في هذا الاطار، إذ ليس أمراً تفصيلياً أن يصبح لديك بنية تنظيمية عبر أكثر من ستين رفيقاً ومائتين من الانصار والاصدقاء.  وضمنه هو ذلك الحضور الثقافي الذي يتجلى في مناسبات محددة من نوع إقامة المعارض والندوات والمسابقات الشعرية والقصصية وتأسيس فرقة للدبكة والغناء وتنظيم مهرجانات الدعم والتأييد للحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، وحق الأخيرة في ممارسة الكفاح المسلح من لبنان وسواه. لكن الأكثر سطوعاً يبقى في تأسيس مدارس تعليم العربية التي أطلقها الرفاق والاصدقاء والتي اجتذبت حوالي خمسماية طالب من أبناء الجالية. أكثر من ذلك جرت محاولة لاستنساخ تجربة الحركة الوطنية السياسية على استراليا ما تطلب تنسيقاً مع باقي القوى المنضوية في التجربة في لبنان. وهي محاولة لم تنجح وبدت متعثرة في العديد من المحطات التي أظهرت مقدار تعمق الفئوية بما فيها الممارسات الميليشياوية في مناسبات محددة والمنقولة من البيئة اللبنانية. من يتابع وصف بول لعلاقاته النسوية مع محيطه الاكاديمي يكتشف مدى جذرية خياره الديمقراطي والعلماني والعاطفي بعد لقائه مع رجاء وقرارهما الزواج رغم معارضة الأهليْن للدوافع الطائفية نفسها من خلال ضفتي زغرتا الشمالية المارونية والعائلة الكتائبية، وعيترون الجنوبية الشيعية، علما أن أسرة رجاء هي أسرة شيوعية مناضلة بالاصل، لكن المعطى الطائفي يظل أكثر رسوخا من الانتساب الحزبي.

الجانب الموازي لهذه النهضة اللبنانية العربية هو تأسيس المجلس العربي ـ استراليا الذي التحق منه رفيق بشارة بحزب العمال، ورفيق مارون وسط العمال المهاجرين وفي مقدمهم العمال اللبنانيين، ورفيق جورج في هيئة تمثيلية للجالية اللبنانية في مجلس هذه الجالية ودعم جون في الترشح إلى عضوية الانتخابات البلدية لمنطقة أوبرن ونجاحه و…

يبقى أن أقول أن بول لا يقدم لنا نصاً شخصياً بقدر ما يقدم عبر صفحات كتابه نصاً وروحاً مسكوناً بتحليل المجتمعين اللبناني والاوسترالي. قد يبدو للبعض أن ما يقدمه بول هو حكاية فتى ولد في القبة وتردد على مدارسها وزار جده وجدته في اهدن وزغرتا وأكل الكبة والمجدرة الزغرتاوية من أيدي جدته القادمة من صافيتا في سوريا و… بينما الفعلي أن الكتاب برمته هو درس تحليلي لحياة عالم انثربولوجي ـ فلسفي يجهد في تقديم رؤية متجددة للبنان وتركيبته وعلاقة الطوائف فيه بالبنية السياسية وبالنظام وتراكيبه وتراتبيته، وكيف أصبح هذا النظام عائقاً أمام أي محاولة لعقلنته، ورسوخه نظاماً ديمقراطياً له رسومه ومؤسساته الناظمة لحياة المجتمع وأهله. لذلك يستمر مثل هذا النظام بإشكالياته في البقاء على قيد الحياة عائقاً أمام التطور. ودون أن ينجح اليسار في دك جدار هذا الحاجز الذي يفصل العمال والفلاحين الموارنة أو باقي الهويات الطائفية عن الانتساب إلى صفوفه والمساهمة في شق طريق حداثة لا تجد طريقها للنفاذ. وللوصول إلى مثل هذه النتائج يستعين بول على فهمه بابن خلدون وكارل ماركس ولوي التوسير وبورديو وكوكبة من المفكرين الذين اشتغلوا على تحليل ونحت المفاهيم التي تساعد على فهم المجتمعات وتكوينها ورأس المال السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي وطرأئق عملها، وعصبياتها وتفسخ تكويناتها وتحلل بُناها، وعوامل تعذر ظهور البدائل القادرة على استقطاب الجمهورالمتضرر من آثام النظام وتراكيبه. يوجه بول نقده في مسرى سرد حياته ليس إلى اليمين فقط، بل إلى اليسار، وهو أحد المساهمين في بنائه سعياً نحو الإفادة من دروس الماضي وفهم التناقضات التي تعتمل داخل المجموعات المكونة لبلادنا ولعموم دول المنطقة. لا، لا يكتب بول شذرات حياته وسط هذه المعمعة، بل يكتب عن رؤيته الثاقبة التي ترى بأم العين أن المستقبل ممكن إذا ما أحسنا صياغة رؤانا ورؤيتنا لما نحن فيه، وما يجب أن نكون عليه من وعي لواقعنا المحلي وسط هذا العالم المتلاطم المترع بالتناقضات والصراعات من كل نوع ولون.

بيروت 8 نيسان 2023

Leave a Comment