سياسة

بقاء البلد أهم من العهد ورئاسة الحكومة و منظومة السلطة

كتب زكـي طـه  

 هي ابواب الجحيم باتت مشرعة أمام اللبنانيين كما وعدنا الرئيس القوي قبل أقل من عام. ليس في الأمر ما يفاجىء، لأن مسارات الحكم وإدارة شؤون البلاد وسياسات وأداء وممارسات اطراف السطة قبل الوعد وبعده، لا تقود إلا إلى الهاوية، أو الزوال كما حذر مراراً  مسؤولو الخارج. وهي المسارات التي سبقت التسوية الرئاسية، لتتخذ بعدها وجهة متفجرة مع سيادة نهج الاستئثار والتعطيل المتمادي، ومعارك المحاصصة المفتوحة على كل مستويات مؤسسات السلطة والإدارة وأجهزة الدولة. 

   هذا ما حكم أوضاع البلاد في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وقد أدى راهناً  إلى شلل مؤسسات الحكم، وانهيار مؤسسات الدولة وأجهزتها الادارية وقطاعات الخدمات، بالتزامن مع الانهيار الاقتصادي المالي الذي بلغ مستويات قياسية عالمياً. وبالتوازي، وبعد افلاس الخزينة العامة، يجري استكمال نهب ودائع اللبنانيين والاحتياط الالزامي، بقرارات رئاسية بذريعة تأمين السلع والخدمات الضرورية التي لا تزال مفقودة، لأن خدمات الاستشفاء والدواء والكهرباء والمحروقات وصولاً إلى الغذاء وغيره من السلع الضرورية، تتحكم بها سلطة التجار ومافيات الخدمات والسوق السوداء الموازية والآخذة في الاتساع.

   هي أبواب الجحيم التي ساهم الانفجار الذي دمّر مرفأ بيروت ومحيطه في تسريع فتحها أمام اللبنانيين. وهو الانفجار الكارثة بكل المقاييس الانسانية والاقتصادية والعمرانية، التي تسببت بها، وتعاملت معها منظومة الحكم بشكل غير مسبوق عالمياً على الاطلاق، لناحية انعدام المسؤولية انسانياً ووطنياً وأخلاقياً وقانونياً. كان الحدث وأداء منظومة السلطة موضع إدانة وطنياً ودولياً، لكنهم لم يكتفوا بإدارة الظهر لها، وتجاهل مضامينها بوقاحة غير معهودة. بل تشاركوا أوسع حملة تضليل للتغطية على أدائهم في محاولة مكشوفة منهم لتعطيل مسار التحقيق بشأن ملابسات الانفجار وأسبابه والمسؤولية عنه. ولذلك ليس مفاجئاً أن ترتكب الآن قوى المنظومة جريمة التهرب من مجريات العدالة، والتي لا تقل خطورة عن الاولى، عبر الإصرار على رفض رفع الحصانة عن المسؤولين السياسيين والأمنيين والاداريين، المتهمين والمدعى عليهم من قبل قاضي التحقيق المطلوب منهم المثول أمامه.  

   ما جرت الإشارة إليه هي “الإنجازات” الأهم التي تضاف إلى سجل العهد القوي في طائفته وشركائه من أقوياء الطوائف الأخرى. وهم يتابعون معاركهم العبثية التي انتقلت من حافة الهاوية إلى دهاليزها وقعرها.. وهي المعارك التي تتجاوز في حقيقتها، اعتراض العهد وتياره على الرئيس المكلف وقدرته على تشكيل الحكومة، ومطالبتة بالاعتذار واستسهال اقصائه عن التكليف، أو انتزاع صلاحيات تناقض اتفاق الطائف لتكريس تعديل توازنات مواقع الحكم بقوة الأمر الواقع.

   مما لا شك فيه أن الأبعاد المعلنة للأزمة لا تقتصر حول الصراع على السلطة والنفوذ بين أطراف الحكم باسم الصلاحيات وحقوق الطوائف، أو بتوازنات القوى والحصص الفئوية لمدعي تمثيل الطوائف. بل تتعداها إلى صيغة نظام الحكم ومستقبل تسوية الطائف، وسائر مواقع اطراف السلطة وأدوارها المستقبلية. كما هي موصولة بأزمة الكيان وهويته الوطنية وعلاقته بمحيطه وموقعه في اطار استراتيجيات الاطراف والقوى الاقليمية والمحاور الدولية المتصارعة للسيطرة على المنطقة.

    إن قوى المنظومة كافة تخوض معاركها في ظل علاقات مأزومة  في ما بينها، مستندة في ذلك إلى ادعاءات القوة الطائفية والفئوية لكل منها، وبذرائع حقوق الطوائف التي تشكل اساس وعلة وجودها ومستقبل أدوارها ومواقعها في السلطة وخارجها.  لكن ما يسمح لها بممارسة شتى أشكال التعطيل والرفض والانغلاق على أي تسوية داخلية تشكل مخرجاً انقاذياً ولو مؤقتاً، هو الرهان على تحالفاتها وارتباطاتها الخارجية لضمان أهدافها ومصالحها، في ضوء نتائج مسارات الصراع الاقليمي والدولي، وما ستنتهي إليه في نهاية المطاف من تسويات لملفات المنطقة المتنوعة، وأزماتها المتعددة بما فيها لبنان.

   إن ارتباطات ورهانات بعض القوى، عطلت في السابق محاولات النأي بلبنان عن أزمات المنطقة، وأبقته ساحة صراع مفتوح ملحقة بسائر الساحات المحيطة، التي تتحكم بأزماتها المتفجرة والمتشابكة استراتيجيات الأطراف الاقليمية الإيرانية والتركية والدولية المتعددة. والتي ترى فيها الإدارة الاميركية وحليفتها اسرائيل أفضل ميادين الاستثمار، لنهب مواردها وتقاسم النفوذ فيها، عبر إدارتها والتلاعب في دواخلها لاستنزاف طاقات الآخرين، واخضاعهم لشروط سيطرتها وهيمنتها.

   وعليه، وبصرف النظر عن ما هو معلن أو مضمر من أهداف فئوية، في السياق العبثي المستدام لصراعات اطراف السلطة الذي قاد البلاد إلى الهاوية. وبعيداً عن  تفاصيل ويوميات سجالاتها وما تنطوي عليه من انحطاط ورداءة فكرية وثقافية وسياسية، ولأن الأزمة  تتجاوز مسألة تشكيل الحكومة أو اعتذار الرئيس المكلف وضرب المواعيد لأي منهما، وكلاهما في الأصل ليسا شأناً داخلياً صرفاً خلافاً لاعتقاد البعض. فإن كل الوقائع والمعطيات ترجح انعدام أفق الحلول والتسويات راهناً، حتى بحدها الأدنى. ما يعني أن الأزمة بكل أبعادها السياسية والاقتصادية ومضاعفاتها الاجتماعية والأمنية، مرشحة للاستطالة والانزلاق إلى منعطفات شديدة الخطورة. وما يعزز ذلك هو تعثر المفاوضات الاميركية الايرانية حول الملف النووي الايراني، واستطراداً حول دور ايران في سائر الملفات الاقليمية المتفجرة، في العراق واليمن وسوريا ولبنان.. وصولاً إلى افغانستان. أما حركة الموفدين الدوليين والعرب، ولقاءات وزراء وسفراء اميركا وفرنسا والسعودية واجتماعات المجموعة الاوروبية، فإن سقف اهتماماتها لا يتعدى أعمال الإغاثة للبنانيين عبر المؤسسات التي تدور في فلكها، أو توفير الدعم للمؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية لتمكينها من تأدية مهام الحد الادنى، وحمايتها من التفكك والانهيار. أما العقوبات التي تلوِّح بها فهي ستضاف إلى سابقاتها في اطار الضغوط عديمة الفاعلية.

   ورغم أن الوصول إلى الهاوية، لا يُقراً إلا في إطار موازين القوى الناظمة لصراعات أهل السلطة، بالارتباط مع عوامل الخارج المتدخله في وضعي البلد والمنطقة. إلا أن الخروج منها راهناً، لا يمكنه التحقق إلا في اطار تسوية، تقضي بإقامة الحد الأدنى من التوازن الذي يُبقي البلد في خانة الاستقرار، عبر تبادل تقديم التنازلات لتشكيل حكومة توقف اندفاع الانهيار وتفتح الأفق أمام امكانية الخروج من الهاوية. وهي التسوية التي لا تزال تلك الأطراف تعجز عنها وترفضها في آن.

   والاسباب في ذلك تبدأ أولاً من استغلال العهد لاختلال توازنات الداخل والاستقواء بحليفه القوي المتمثل بحزب الله وهو يخوض معركة دور وموقع التيار الحر والرئاسة القادمة، في مواجهة الرئيس المكلف، وحاجة الأخير إلى موقع رئاسة الحكومة لضمان وتعويم دوره المتآكل. بينما يحاول سائر الاطراف وبشكل منفرد كل على طريقته تحصين موقعه. وثانياً، إن المنظومة بتوازناتها المختلة استطاعت وهي لا تزال قادرة على تجاهل طلبات وشروط الخارج الاصلاحية التي تمس مواقع نفوذها ومصالحها أو تحد منها. كما ثبت أيضاً أن باستطاعتها تعطيل وإفشال كل المبادرات التي يمكن أن تؤدي إلى اعادة النظر بتوازنات الداخل، والحد من نفوذ الحزب المتحكم بوضع البلد بقوة الامر الواقع، بأمل فك ارتباط لبنان بأزمات المنطقة. علماً أن التزام الخارج توفير المساعدات خارج اطار الدولة ومؤسساتها أعفى منظومة السلطة من مسؤولياتها وخفف عنها ضغوط المتضررين.

  لكن السبب الأهم، أن منظومة الحكم لا تشعر بالقلق على مواقعها في السلطة، ولذلك هي تتابع أداءها وممارساتها وسط أقصى درجات الاستهانة باللبنانيين واعتراضاتهم، والاستهتار بمصالح البلد الوطنية ومصيره في آن. وذلك بالنظر لعدم وجود بديل لها، لأن قوى الاعتراض لا تزال تقيم وسط العجز عن اللقاء على برنامج الحد الأدنى الانقاذي، وتنظيم صفوفها وتحشيد قواها، ما يؤهلها لاستعادة ثقة الفئات المتضررة، ووضع خطة مواجهة تشمل كل قطاعات المجتمع لاستعادة الحقوق المهدورة، وانتزاع المطالب المشروعة، عبر محاصرة قوى السلطة واجبارها على تعديل أدائها وتغيير سياساتها انقاذا للوضع، وفي سبيل بقاء لبنان وطناً لأبنائه، لأن بقاء البلد أهم من العهد ورئاسة الحكومة وكل منظومة السلطة. 

Leave a Comment