سياسة مجتمع

انهيار الهدنة الانسانية والمسارات المفتوحة للحرب الاميركية ـ الاسرائيلية

  زكـي طـه

بيروت 7 كانون الاول 2023 ـ بيروت الحرية

انتهت الهدنة الانسانية التي أجازتها الولايات الاميركية المتحدة في قطاع غزة،  وسعت لها كل من اسرائيل وحماس بوساطة شاركت فيها قطر ومصر. وكلاهما، تلعب دور الوسيط بين الطرفين، اللذين تمكنا خلالها من التقاط أنفاسهما وإعادت ترتيب أوضاعهما بعد خمس وأربعين يوماً على بدء الحرب المفتوحة، تخللها سيل هائل من عمليات القتل والدمار والتهجير، التي لم تعرفها سابقاً جميع الحروب العربية والفلسطينية ـ الاسرائيلية. فقد ارادت اسرائيل الهدنة لاستيعاب ردود الفعل الغاضبة على قيادتها، والتحضير لاستئناف حرب إعادة التأسيس المفتوحة بإدارة اميركية ودولية صريحة. وسعت لها حماس، من أجل متابعة خوض معركتها الوجودية. أما الاعلان عن اضطرار اسرائيل للاعتراف بها والتفاوض معها بعد فشلها في القضاء عليها. فإنه لا يلغي المفاعيل الخطيرة للانقسام الفلسطيني حول مصير وحقوق الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية. كذلك فإن المواقف المبدئية التي تتحصن بها السلطة الوطنية المحاصرة، لن تبدل في نتائج الحرب، جراء عجزها عن القيام بالحد الأدنى من واجباتها في دعم صمود شعبها، وتوظيف تضحياته الهائلة لدرء المجهول الذي يهدد وجوده وقضيته على ارضه.

انتهت الهدنة، واستأنف جيش الاحتلال الصهيوني حربه على الشعب الفلسطيني، سعياً منه لتحقيق أهدافه السياسية والعسكرية المعلنة. الاولوية هي القضاء على حماس، أو الحد من فاعلية مقاومتها من خلال تدمير البنية التحتية لمناطق تواجدها وحركتها، وبواسطة استكمال تهجير من تبقى من سكان القطاع والدفع بهم نحو الجنوب، حيث يجري البحث عمن يتولى إدارة ترتيب شؤونهم في المنطقة الحدودية مع مصر.

رغم إعتراف القيادتين السياسية والعسكرية الاسرائيلية، بحجم الخسائر الكبيرة والاكلاف الباهظة لهذه الحرب، والتي تزيد عن أكلاف حروبها منذ تأسيس الكيان. لكن ذلك لم يؤدِ إلى إعادة النظر بطبيعة الحرب واستهدافاتها لأنها تتعلق بوجود الكيان. ما يعني أن المدى الزمني لها مرتبط بتحقيق أهدافها في قطاع غزة والضفة الغربية على السواء وعلى الصعيدين السياسي والأمني. هذا ما يؤكده قادة العدو ومسؤولي الإدارة الاميركية المشرفة على مسارات الحرب، بصرف النظر عن حملة التضليل والتعمية التي تمارسها حول حماية المدنيين وضرورة ادخال المساعدات، أو تكرار الكلام عن حل الدولتين، وتجاهل ما ستؤول إليه أوضاع الفلسطينيين وأحوالهم بنتيجة الحرب الدائرة بكل ما تنطوي عليه من عمليات قتل وتدمير وتهجير، في ظل رفض وقف اطلاق النار، وعدم وجود أية مؤشرات أو معطيات جدية يمكن لها أن تضع حداً لها. بما فيها الرأي العام الدولي الذي يقف عند حدود الاعتراض والتنديد بقتل المدنيين، والمساواة بين الضحية والجلاد. فيما الرأي العام العربي يلوذ بصمته، والانضباط تحت سقف سياسات الأنظمة الحاكمة التي عبرت عنها القرارات الصادرة عن القمة العربية ـ الاسلامية، التي كررت رفض تهجير الفلسطينيين، وطالبت اميركا بالعمل على وقف الحرب.

صحيح أن عملية “طوفان الاقصى” والحرب الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني على ارضه، قد ساهما في انكشاف حقيقة الدور الايراني ووظائف استراتيجية الاستثمار في الانقسام الفلسطيني، وفي تزخيم أزمات بلدان المنطقة وتسعير مساراتها المتفجرة. ولذلك كان تكليف الميليشيات التي تشكل محور الممانعة خوض معارك الدعم والمساندة لحركة حماس من مواقعها المحلية. والهدف هو التغطية على قرار عدم مشاركتها في الحرب بفعل التهديدات الاميركية، والتخلي عن شعار وحدة الساحات. وعدا الذرائع الاضافية التي تستخدمها اسرائيل لحربها الاسرائيلية، والتي تستغل لتبرير وتزخيم الدعم الدولي لها، وتشتيت دعم الرأي العام المتعاطف مع الشعب الفلسطيني، فإن المعارك المستمرة لم تحقق أيّ من أهدافها، ولم تؤثر في مسارات الحرب والحد من وتيرة ونتائجها عمليات الإبادة البشرية والتدمير والتهجير المستمرة منذ شهرين على غير انقطاع.

وفي موازاة الأهداف الخطير للحرب الاميركية ـ الاسرائيلية المفتوحة، ومفاعيلها التدميرة على الشعب الفلسطيني وقضيته، واستهدافاتها الاوسع في سبيل السيطرة على المنطقة على كل المستويات. فإن معارك المساندة التي تخوضها ميليشيات محور الممانعة في العراق واليمن وسوريا ولبنان، ومفاعيلها السلبية على صعيد اوضاع المنطقة، فإنها تستدعي طرح الكثير من الاسئلة ليس حول جدواها وحسب، بل حول أهدافها ووظائفها الفعلية، التي لا يمكن قراءتها والنظر إليها بمعزل عن طموحات ومساعي النظام الايراني المحمومة، كي يكون شريكاً في تقرير مصائر بلدان المنطقة، بالاستناد إلى دوره في تفكيك بناها المجتمعية والدولتية والوطنية، وخدماته على امتداد العقود الاربعة الماضية. وهو الطموح الذي لم يزل يواجه بالمزيد من الانذارات والتهديدات الصادرة عن أركان الإدارة الاميركية، في ظل استحضار المزيد من الاساطيل الحربية إلى المنطقة، على نحو لا يوحي لغاية الآن بإمكانية اعطاء النظام الايراني ما لم يعطَ له قبل الحرب، رغم الشغب الذي تقوم به الميليشيات التي تدور في فلك سياساته.

وفي السياق عينه يقع الاشتباك المفتوح منذ شهرين تحت راية المساندة والتضامن مع غزة على جبهة الحدود الجنوبية للبنان مع العدو الاسرائيلي، الذي تحكمه قواعد الاشتباك المتوافق عليها، وتتحكم به موازين القوى المختلة لمصلحته، والتي لا يخفف من وطأتها سهولة التخفي والحركة في الميدان مقابل المواقع المحصنة والثابتة له على طول الجبهة. ولا يحد من فداحتها نوعية الاسلحة الصاروخية المستخدمة في ظل السيطرة الجوية واجهزة المراقبة المتطورة، ويفاقم مخاطرها مستويات النزوح المرتفعة من بلدات وقرى المواجهة وأثرها السلبي على حركة عناصر ومجموعات المقاومة.

صحيح أن دولة الاحتلال اضطرت لاخلاء مستوطناتها في شمال فلسطين وأن خسائرها كبيرة جداً. لكن الصحيح أيضاً أن خسائر المقاومة لا يمكن التقليل من حجمها وأهميتها بالمقارنة مع محطات سابقة. والصحيح كذلك أن المستوطنين الاسرائيليين لديهم دولة تهتم لشؤونهم وقضاياهم، فيما المواطنين اللبنانيين الذي اضطروا لترك منازلهم متروكين للمبادرات المحدودة التي تقوم بها بعض الجمعيات الاهلية أو الحزبية. لكن المفارقة الأهم أن جبهة العدو الاسرائيلي حيال الحرب موحدة مجتمعاً وقيادة سياسية وعسكرية، ولا تنال الخلافات السياسية من وحدتها.   في المقابل جبهة لبنان متصدعة على الصعيد الوطني، ومحاصرة بانقسامات المجتمع الاهلي وبتفكك البنية السياسية والادارية للدولة وأجهزتها بشكل تناحري على جميع المستويات، وسط تصاعد حدة الخلافات بشأن التعامل مع انفراد  قيادة حزب الله بقرار خوض الحرب، والاهداف المعلنة لها، وحول صلتها بالمصلحة الوطنية اللبنانية، ومستويات تعريض البلد لخطر الدمار جرَّاء العدوانية الاسرائيلية.

إنه الواقع الصعب الذي يضع لبنان أمام تحديات مصيرية خطيرة، تؤكدها التحذيرات والانذارات التي يكررها موفدو الدول الداعمة والمؤيدة لاسرائيل. ويعززها غياب المبادرات لإنقاذ البلد من خلال وقف التلاعب بأوضاعه، وفي التعامل مع مأزق حزب الله وصعوبة خروجه من حرب المساندة، وسط انعدام المسؤولية الوطنية التي يتشاركها اكثرية أهل السلطة، في موازاة تصعيد المزايدات وتبادل اتهامات التخوين بين مختلف تشكيلاتها الطائفية انطلاقاً من رهاناتها الخارجية. وفي سياق ذلك لا تختلف عنها مجموعات وأحزاب المعارضة التي تدعي الديمقراطية والاستقلالية عنها، حيث التبسيط في قراءة الوضع الراهن بكل ما ينطوي عليه من مخاطر، والفئوية في التعامل معها، الامر الذي يبقيها جميعاً على هامش الاحدات وخارج القدرة على التاثير في مساراتها وفي مصير البلد.

Leave a Comment