ثقافة سياسة محسن إبراهيم منشورات

كتاب الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم عن تسعة قادة ومفكرين لبنانيين هم: جنبلاط وفضل الله والصدر وسعادة والصلح وإبراهيم ومالك والحاج ونصار/2/4

يساهم موقع “بيروت الحرية” بإعادة نشر بحث د. زهير هواري ضمن العمل المشار إليه أعلاه لتعذر الوقوف عند كل الأبحاث المنشورة في الكتاب . . 

محسن ابراهيم وإشكاليات الحرب الاهلية: مفتاح نقدي يكشف كيانات المنطقة 2/ 4

د. زهير هواري

 صعوبات ومقاربات

من جانبي أجد الإشكالية أكثر صعوبة من الآخرين فقد عاصرت ورافقت (من رِفقة) الرجل أكثر من عقود ثلاثة بكل ما حفلت به من أحداث كبرى، وكنت ألقاه أسبوعياً وأحياناً أقل، وأدّعي أنني أعرفه جيداً. وقرأت ما كتبه وكان يكتبه أكثر من مرة. وها أنه يتوجب علي َّ الآن أن أقف أمامه في غيابه الجسدي، وأحار كيف أتناوله بالشخصي؟ أم بالعام – الفكري  السياسي؟ . أقوِّم مسيرته بانحياز إليه فأصبح من الدُعاة والمروجين لأفكاره، وأفقد صفة الباحث المحايد، وأقع في محظور الترويج والتسويق. أم ابتعد عنه وأمارس سيف النقد على كتاباته وممارساته فأسقط في فخ التهوين من قيمة رجل كان يملك الكثير من التجربة والمعرفة والرؤية الثاقبة، ليس على صعيد لبنان بل حول تفاصيل ومفاصل المنطقة العربية، والعالم وسط خضم أحداث متلاطمة تقطع الأنفاس، بالنظر إلى سرعة إيقاعها وأحجام القوى المشاركة فيها ومساهماتها في صناعة وقائعها. وكما كان يعرف الماضي بدقة المشارك في أحداثه، خصوصاً مرحلة الاستقلالات الوطنية وحرب فلسطين في العام 1948 وماتلاها من تحولات عاصفة، كان يراهن دوماً على إعادة تجديد حركة التحرر الوطني لبنانياً وعربياً في المستقبل، بعد أن عايش في أخريات أيامه موجات المد الديني والاصولي، وعملها التدميري في  طمس ما حققته حركة النهوض العربية من إنجازات، من دون إغفال الإعاقات التي فرضتها من خلال مصادرة الحياة الدستورية والسياسية والحريات . من جانبي الشخصي فقط أريد أن أتناول الرجل بكلمات كي أستعيد لاحقاً رصانتي البحثية، وأشرع في قراءة بعض المقاربات في تجربته السياسية معبر عنها بعنوان واحد هو الحرب الاهلية باعتبارها أبرز القضايا التي شغلته مع كل ما تخللها، وعبرت عنه من دلالات ولحقها من أحداث، لا تنحصر بالمسرح اللبناني الذي تتجاوزه عربياً.

والحقيقة أنه يندر بين السياسيين أن تجد رجلاً على نمط كفاءة ورحابة وحسم وقدرة في عرض ما يدلي به محسن ابراهيم من أفكاره حول موضوعه التحليلي للوقائع المعالجة في مداخلاته. ولا شك أنني أتحدث عن عواصف كبرى عاتية هبت على المنطقة فقلبتها رأساً على عقب إلى هذا الحد أو ذاك. ففي الاجتماعات دوماً كانت هناك بعد قراءة محضر الاجتماع السابق وتصديقه ، وعرض جدول الاعمال، مداخلة افتتاحية، كان يقسم خلالها عنوان البحث المطروح إلى أجزاء، ويعلن سلفاً أنه يخصص لكل منها وقتا محدداً. وعندما يشرع في الكلام أتصور، وغيري أيضاً من الرفاق، أن جانباً من الجوانب سيطغى على الآخر، نتيجة الاندماج في سياق الكلام ومتابعة الفكرة التي يطرحها. لكن ما يحدث عكس ذلك تماماً، إذ يلتزم بما قرره سلفاً من تبويب. بالطبع يستطيع التحدث ساعات بلغة سليمة ومتماسكة لها أول ولها آخر، وخالية من السفسطة والحشو والاستطرادات، باستثناء ما يتطلبه البحث من شروحات توضيحية. هنا بالتأكيد لعبت تربيته في بيت يعتبر نفسه من السيَّاد أو السلالة النبوية، وما تحوزه من علوم دينية متوارثة، دورها في هذه المنهجية الكلامية والخطابية، التي برع بها، وأجاد استعمالها في غير ما وُضعت من أجله. ثم إنه من أظرف وأطرف الناس الذين يمكن أن تلتقيهم في حياتك، له قدرة على تحويل كل موضوع مهما كانت قسوته عندما يشاء إلى نكتة حاضرة تكسر رتابة العرض أو حدة الموقف أو مأساويته. دقته في المواعيد لا تبارى، فدوماً هو صاحب الالتزام الأكيد بما جرى الاتفاق عليه مع ما يتطلبه أو يتوجب مواكبته من أعمال تحضير واستعداد. على الآخر أن يخلف أو يتأخر أو يتكاسل في تجهيز نفسه ، أما هو فنادراً ما يفعل.

يقول الاستاذ المحاضر في جامعة السوربون الدكتور سامي دورليان : بالنسبة لي كباحث، عاش محسن ابراهيم حياته على مرحلتين واسعتين امتدت إلى نحو ستين عاماً . أنا لا أتحدث عن عمره الزمني ، بل عن عمره السياسي والفكري. الـ 30 سنة الأولى وضعته تحت الأضواء، وهي المرحلة التي عاصر وتفاعل فيها مع ثورة عبد الناصر في مصر، ومع المقاومة الفلسطينية وقائدها ياسر عرفات، وكذلك مرحلة الحركة الوطنية اللبنانية وقائدها كمال جنبلاط. أما مرحلة الـ 30 سنة التالية فقد مارسها من خلال حضور خجول. على أن هذا “الخجل” لا يظهر في تقارير مؤتمرات منظمة العمل التي انعقدت طوال العقدين الأّوَلين من القرن الحالي، إذ تتمحور معظمها حول شخصية “الأمين العام” التي لاحت لي أنها أقرب ما تكون إلى “الشخصية الروائية” منها إلى “الشخصية السياسية”. ولفتتني الاطراءات على دوره القيادي ” و” الجهد الاستثنائي الملحوظ  الذي بذله” وإلخ[1]

هذا ما يقوله دورليان في تعريف كتابه الذي صدر في شهر نيسان 2023  عن دار لارماتان الفرنسية بعنوان “محسن إبراهيم من خلال كتاباته”. وفي كلمة الناشر على الغلاف الخارجي نقرأ أن محسن ابراهيم ظلَّ أميناً عاماً لمنظمة العمل الشيوعي ما يقرب من الـ 50 عاماً ، وهو المتحّدر من حركة القوميّين العرب، وبالتالي كان لديه أذن عبد الناصر، ثم كان العقل المدبّر للاحزاب والحركات اليسارية اللبنانية خلال الحرب. وقد حظي بتقدير كبير من قبل زعيم الحركة الوطنية كمال جنبلاط، وقائد منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح ياسر عرفات و…

وما ذكره دورليان ردده آخرون على  نحو أكثر فجاجة، حتى بات المرء يخال أن محسن ابراهيم هو مستشار للثلاثة، أو مجرد ملحق أو ظل، يتنقل بين كل من جمال عبد الناصر وكمال جنبلاط وياسر عرفات تبعاً للمراحل. وهو أمر ليس صحيحاً. فالعلاقة التي ربطته بكل واحد من الثلاثة نسجها من خلال الموقع الذي يمثل في حركة القوميين العرب ومنظمة الاشتراكيين اللبنانيين ثم  منظمة العمل الشيوعي. بهذا المعنى كان حضور ابراهيم هو حضور فكري – سياسي – نضالي مع فارق الأوزان بين كل من الثلاثة. صحيح أن وزن حركة القوميين العرب أو منظمة الاشتراكيين اللبنانيين وانتهاءً بمنظمة العمل الشيوعي لا يمكن أن يقارن بوزن الحركة الناصرية ومصر، أو الثورة الفلسطينية وسطوتها على المشهد العربي طوال عقود، أو كمال جنبلاط ودوره من داخل النظام اللبناني كواحد من أركانه وبالضد منه والثورة عليه لاحقاً. وما يستطيعه هذا التمثيل في أن يلعب دوره في حركة النهوض العربي من خلال الوعي الفكري لمجريات الامور كما تحدث في ميادين الصراع السياسي، أو عبر عمليات التصنيع والتحديث والتأميم، أو من خلال الاشتباك مع الاستعمار ممثلاُ بكل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة واسرائيل والحركة الصهيونية، والفاشية المحلية التي رفضت القبول والتوافق على تسوية تحفظ لبنان، وتحافظ في الوقت نفسه على المقاومة الفلسطينية في أرضه. ثم إن أحداً من الذين جهروا بمثل هذا القول لم يكلف نفسه عناء مراجعة مواقفه من تلك التجارب التي تشابكت، كمحصلة بعد مرحلة من التفارق في الرؤية، ثم ما لبثت أن انتهت إلى قطيعة أو استمرارية. حدث ذلك نتيجة لمسار سياسي متناقض أدى إلى أن تشهد بيروت والعديد من العواصم العربية تظاهرات ضد عبد الناصر – وهو من هو في دنيا العرب وطموحاتهم – رداً على موافقته على مشروع روجز والقرارين 242 و338 والحل السلمي للصراع… وسائر مشاريع الحلول السلمية التي كانت متداولة اميركيا ودولياً للصراع العربي – الاسرائيلي في حينه بعد العام 1967 وقبل العام 1973 . بالنسبة لكل من جنبلاط وعرفات المسألة مختلفة تماماً . فمصر تستطيع – وكان يتوجب عليها –  أن تصمد كدولة وكيان تاريخي لديه مقدراته ووزنه الافرو – آسيوي والعالمي في مواجهة مضاعفات أثقال هزيمة 5 حزيران 1967 عليها من سائر النواحي . أما جنبلاط الذي انتقل من ضفة البحث عن التسوية الداخلية كأحد أعمدة الكيان اللبناني إلى قيادة قوة شعبية معارضة وطافرة على الاحتمال والاستيعاب من جانب النظام، ثم إلى شهيد بعد أن قصم رحيله العمود الفقري لقوة الحركة الوطنية، فلا مبالغة بالقول أن مصرعه كان بمثابة المدخل الحاسم في إلحاق هزيمة بمشروع التغيير والانقلاب على التركيبة الطائفية اللبنانية الذي صاغته الحركة الوطنية اللبنانية تحت عنوان ” البرنامج المرحلي للحركة الوطنية اللبنانية : من أجل اصلاح ديمقراطي للنظام السياسي في لبنان”[2] ، وبالتالي بقاء البنية الطائفية مهيمنة على لبنان إلى حين من الدهر لا يعلمه أحد. ودون مزيد من الشرح يعتبر عرفات بمثابة تكثيف لنضال الشعب الفلسطيني منذ صدور وعد بلفورفي العام 1917 وما واكبه وتبعه من صدام مع قوات الاستعمار البريطاني والعصابات الصهيونية حتى  قيام الكيان الاسرائيلي على جزء من الاراضي الفلسطينية، ثم مع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وانطلاقة المقاومة الفلسيطينية في 1/ 1/ 1965 ومحاولة اختراق الاسوار الحدودية العربية للاشتباك مع العدو القومي الذي شتت الشعب الفلسطيني وأقام كيانه على أرضه، كونه يمثل المخفر الامامي للاستعمارين القديم والحديث، والحارس المدجج بالسلاح لحراسة التخلف العربي باعتباره الضمانة للاستمرار في استباحة المنطقة العربية سياسياً ونهب ثرواتها النفطية، واستعمالها كموقع عسكري استراتيجي في تطويق الاتحاد السوفياتي ودول المعسكرالاشتراكي. وقد امتدت علاقاته مع ياسر عرفات عقوداً عدة وتواصلت حتى وفاة الاخير. ويظهر من كتابه عن الحرب وتجربة الحركة الوطنية مدى تقديره لكفاءة هذا القائد الفلسطيني تحت وطأة الحصار الاسرائيلي – العربي والدولي لبيروت . ورغم هذا الاعجاب بشجاعته وقدرته على اتخاذ القرار الصعب، نعلم أنه عندما عبر مع قواته المتجهة نحو السودان واليمن على مصر، والتقى خلالها الرئيس حسني مبارك أصدرت المنظمة بياناً شديد اللهجة أدانت فيه خطوة عرفات. علماً أن السوريين ظلوا طوال وجودهم في لبنان يعتبرون ابراهيم والمنظمة عرفاتيين لا يُؤمن شرهم.

وعليه، بمكن القول دون مبالغة إن محسن إبراهيم يختزل في تجربته المتفردة تجارب تاريخية عربية لأجيال عدة، إن لجهة المعاينة أو الممارسة أو التفكر. تجارب يمكن اختزالها بأنها تعبر عما عاشته المنطقة في مرحلة الحصول على الاستقلالات الوطنية وبناء الكيانات الدولتية، وانقسامها بين معسكرين: وُصف أحدهما بأنه رجعي، والآخر أنه تقدمي أو اشتراكي. هنا يطرح سؤال حول سر هذه الدورية في التبدل بين الافكار والطروحات والفلسفات السياسية الحاضرة عنده وفي فضاء المنظمة والمنطقة؟ يجيب عنه ابراهيم بالقول :” إن اول سر في دورية هذا التبدل انه تبدل عاصف لسنا وحدنا المقررين فيه، هذا موضوع اساسي ولا معنى لإسقاطه من الحساب، لم نعد نؤمن بان التاريخ حتميات ميكانيكية، ولسنا مؤمنين بان التاريخ مجموعة افكار مُنزلة تشق طريقها. هناك حركة كر وفر، وهناك هذا التبدل الذي حصل في المنطقة العربية خلال نصف قرن من المحاولة التي أجهضت مرة أخرى. وهذا التبدل الذي لا بد من الاحتكام إليه، وما يبدو أننا ننقد أنفسنا فيه هو مدعاة تسجيل ميزة التفاعل مع هذه التبدلات الحاصلة في عالمنا الأوسع وفي العالم العربي وفي لبنان. هذا التفاعل هو الصح فيما البلادة في التعاطي مع هذه التغيرات هو الغلط، التصرف كأن شيئا لم يحصل هو الخطأ”[3].

وهذه التجربة والمرحلة بكل ما شهدته من تقدم وتراجع، ما تزال بصماتها حاضرة في البنى السياسية والاجتماعية وهياكل الإدارة ودور الجيوش وغيرها، وقد أثرت دون شك في أجيال من المثقفين والمناضلين العرب الذين مارسوا مهام قيادة تنظيمات وخوض تجارب سياسية ونضالية وطنيا وعربياً على امتداد عقود، بدأت مع أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وما تزال تجرجر نفسها حتى الدخول في عقود القرن الواحد والعشرين مع كل ما حمله من زلازل، تكاد تطيح بالكيانات العربية ووحدة المجتمعات كما كرستها اتفاقيات سيايكس بيكو.

كان محسن ابراهيم خلال الحقبة الأخيرة وممارسة نقده أمام اللجنة المركزية لمنظمة العمل الشيوعي مهجوساً ببناء تنظيم سياسي يعبر عن الطموح إلى  اطلاق دينامية مشروع حركة نهوض عربي تقدمي متجدد يستفيد من تجارب الماضي، ويتلافى ثغراته ونقاط الضعف التي قادت إلى إنزال أفدح الخسائر بشعوب المنطقة على امتداد الساحات العربية، وبالأخص في مواقع الصراع الاساسية في بؤرة الشرق العربي الآسيوي أي في فلسطين ومصروالاردن وسوريا ولبنان حيث محيط الصراع المباشر مع المشروع الاسرائيلي. لقد كان همه العمل على محاولة التجديد الفكري – السياسي ضمن اليسار اللبناني – العربي. ولم يجد مسرحاً مؤهلاً للقيام بمثل هذه المغامرة سوى في استمرار اندماجه في  موقعين عربيين محوريين هما لبنان وفلسطين بعدما خرجت مصرمن دائرة الصراع ، وسوريا تدار بالطريقة البعثية الاستبدادية المعروفة. هذا مع الإنتباه إلى رفضه إعادة تجربة حركة القوميين العرب التي عمل وآخرون على فرط عقدها لصالح بناء مجموعات ماركسية – لينينية مهدت الطريق للانتقال نحو إقامة منظمة الاشتراكيين اللبنانيين ثم منظمة العمل الشيوعي، أو تأسيس تنظيمات يسارية عربية عديدة . إذن كان ابراهيم واثقاً من أن تجربة حركة القوميين العرب يجب ألا تتكرر، لكن ما يجب أن يتكررهو المسعى الدؤوب لاستعادة نهضة وطنية وعربية تتمحور كيانياً ثم تتلاقى  اتحادياً قومياً بعد أن تعرضت وحدوياً للهزيمة أكثر من مرة.

مراحل ومحطات في حياته

قبل أن نعرض لرؤية ابراهيم للبنان ونقده لتجربة الحركة الوطنية واليسار خلال الحرب الاهلية ، وما قاله أيضاً عن اليمين اللبناني بالاجمال ممثلاً بحزب الكتائب والقوات اللبنانية تحديداً، نتوقف عند مقاربة حسن الحاف الذي قسم حياة ابراهيم إلى ست محطات رئيسية تتلاحق على النحو الآتي:

– الدور القيادي التقدمي الذي لعبه في حركة القوميين العرب، ومساهمته، عبر الفرع اللبناني للحركة، بعد هزيمة العام 1967 في الانعطاف بالحركة يساراً، ومن ثم في حلّها وإنهاء دورها بعد خروج “الفصائل الماركسية -اللينينية منها”. وقد تولد من هذا الخروج منظمة الاشتراكيين اللبنانيين والجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين و…

– المساهمة في تأسيس منظمة العمل الشيوعي في لبنان، إثر اندماج منظمة الاشتراكيين اللبنانيين مع “لبنان الاشتراكي”. (اللقاء بين التنظيمين حصل بفضل الهم العربي المشترك والتقارب في التحليل الطبقي للوضع اللبناني، والاتفاق في النظرة الى الحزب الشيوعي اللبناني “الإصلاحي والتحريفي”، المتحالف مع أحد أجنحة التحالف الحاكم أو “البورجوازية الوطنية”. هذا إلى جانب نقد نظرية تراكم الإصلاحات أو الطريق البرلماني إلى الاشتراكية).

– المساهمة في تأسيس الحركة الوطنية اللبنانية ووضع برنامجها المرحلي للإصلاح الديمقراطي للنظام السياسي في لبنان.

– لعب الدور الأبرز فكرياً وسياسياً في التمهيد ولاحقاً انخراط كل تشكيلات الحركة الوطنية في الحرب الأهلية، تحت عنوان اختصار الطريق الى التغيير.

– تأسيس جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي مع الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي إلى جانب حزب العمل الاشتراكي العربي.

– وأخيراً، المراجعة الفكرية التي طاولت الخط الفكري والسياسي للمنظمة، والتي أدّت إلى انهيار إطارها التنظيمي، ومحاولته الطموحة، التي لم يكتب لها النجاح طوال ثلاثة عقود، لإعادة تأسيس مشروع حزبي جديد، ديمقراطي ذي أفق اشتراكي، على تضاد تام فكرياً وسياسياً مع أي منطق على صلة بالحرب الماضية [4].

بالنسبة لي لن أقسم حياة محسن ابراهيم إلى قسمين متساويين في المدى الزمني لكل منهما كما فعل دورليان، أو محطات ستة كما فعل الحاف،  بل أرى أن القسمين اللذين تحدث عنهما دورليان أولهما كان قبل الحرب الأهلية وخلالها وثانيهما بعدها . مرد هذا التقسيم سياسي وفكري . فانفجار الحرب الاهلية في لبنان بكل محطاتها كان بمثابة حدث لا يوازيه سوى حرب العام 1948 اقليمياً التي انتهت بإقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وتلغيم جغرافية المنطقة بأسرها بدليل الاعاقات والحروب المتلاحقة التي شهدتها . يمكن وصف الحرب الاهلية في لبنان بأنها فاتحة الأسئلة الكبرى التي تلقي بأثقالها على المجتمعات العربية قاطبة، وبالأخص على اليسار الذي من المؤسف، أنه لم يتوقف عندها مطولا ليبحث في ما أظهرته وأخفته من مواقف، وما انتهت إليه من نتائج. بالطبع لم تنته الحرب الاهلية في لبنان إلى نتيجة مشابهة لحدث قيام كيان صهيوني على أرض فلسطين مع كل مستتبعاته من حروب وسياسات وتحولات، لكنها كحدث أعادت تكثيف وتظهير ما سبقها وما تلاها من خلل في الكيانات والبنى السياسية العربية دولتية، وشعبية ومجتمعية على حد سواء. وما سبقها ممثلاً بتحقيق نتائج هزيمة العام 1967 التي قصمت ظهر ثلاثة جيوش عربية في عدة أيام [5]. ولم يغير من صورة الوضع حرب تشرين المحدودة الاهداف في العام 1973 وهي آخر حروب جيوش العرب، والتي انتهت إلى صلح مصري – اسرائيلي منفرد، ثم  تلاه اتفاق وادي عربة واتفاق فصل القوات في الجولان . ما دفع سوريا إلى تركيز استراتيجيتها في لبنان على الاستثمار في الحرب اللبنانية، وإدارتها واستغلال المقاومة الوطنية بما يقود إلى وضع اليد عليه، واستعماله في السعي لتعديل ميزان القوى الذي تعرض لاختلال عميق بعد خروج مصر من دائرة الصراع. بالطبع كان هناك دوما لدى حزب البعث نظرة “قومجية ” – والوصف لابراهيم – غير بريئة إلى الكيان اللبناني، الذي تعتبره مجرد جزء أو محافظة سورية سلخت عنها وأقيم عليها كيان تحت مسمَّى دولة لبنان الكبير.  والتعبير الأصفى عن هذه النظرة هو رفض التبادل الدبلوماسي بين البلدين، فضلاً عن اغلاق الحدود البرية بينهما لدى حدوث أي مشكلة، بما يعنيه من قطع الشريان الحيوي الذي يربط لبنان بالاسواق العربية الخليجية والسعودية والعراق. وظل حزب البعث يعتبر لبنان بمثابة قسم غربي من سوريا الكبرى – وفلسطين هي سورية الجنوبية – وقد جرى اقتطاعهما بقرار فرنسي – بريطاني عبر اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور.

أما ما تلا  الحرب الاهلية وضمنه الاجتياح الاسرائيلي مما عرفته القضية الفلسطينية ، فهو نهاية مرحلة الكفاح الفلسطيني المسلح من خارج حدود فلسطين. حدث ذلك قبلاً من الاردن عام 1970  وثانياً من لبنان عام 1982 . فانفجار العام 1975 كان مقدراً له أن يصل إلى خواتيمه بما هو إنهاء الموقع المسلح والسياسي والاعلامي الفلسطيني من لبنان. وبالتالي إرغام هذا الوجود ضمن ملابسات المواقف السورية المعروفة على مغادرة لبنان، بعد أن تخلت المقاومة الفلسطينية عن العاصمة بيروت بعد 83 يوماً من الحصار والصمود، وانتقلت أقسام منها مؤقتاً إلى البقاع والشمال. ولكن نظراً لكثافة المقاربة سأكتفي بتناول الحرب الاهلية اللبنانية فقط في أفكار محسن ابراهيم. وهي بمثابة حدث لا يوازيه في كثافة تاريخ المنطقة كما سبق وذكرت سوى حرب العام 1948 وهزيمة حزيران من العام 1967 . واندلاع الحرب الاهلية في لبنان بعد تحولات سابقة عميقة يعبر يوضوح عن كل ما اعتور ويعتور البنية اللبنانية – والعربية – من أعطاب في السياسة والجيوش والاقتصاد والاجتماع والإدارة، وما أتاحته كليهما من ممرات للقوى القريبة والبعيدة إلى الغوص في مسامها، بما قاد إلى مزيد من إنكشاف البنية اللبنانية وجعلها مفتوحة على نحو جعلها إلى هذا الحد أو ذاك مرتهنة لسياسات الخارج ومصالحه كما نتلمس فصوله الآن.

[1]    – راجع مقابلته على موقع بيروت الحرية بتاريخ 1 حزيران 2023

[2]  –   صدر المشروع في مطالع الحرب الاهلية بتاريخ 18/ 8/1975  ويتألف من سبعة بنود تتناول إلغاء الطائفية السياسية، واصلاح التمثيل الشعبي في المجال النيابي، وفي مجال التمثيل الشعبي المحلي والتنظيم الإداري، واصلاح السلطات العامة وتحقيق التوازن بينها، وعلى صعيد السلطة التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، والإدارة، وإعادة تنظيم الجيش، وتعزيز الحقوق والحريات الديمقراطية والعامة ، والدعوة لانتخاب جمعية تأسيسية. راجع النص من ص 7 إلى صفحة 22 في كتاب : وثائق الحركة الوطنية اللبنانية 1975 – 1981 دار النشر غير مذكورة وكذلك تاريخ النشر

[3]   –  الوثائق الفكرية البرنامجية – لبنان2 ، ص 3 – 4  ، نصوص غير منشورة .

[4]   –  حسن الحاف ، جريدة المدن الالكترونية ، 26 حزيران 2020

[5]   – حرب الايام الستة في الخامس من حزيران 1967 ، ويتضح من وثائق استحباراتية اميركية حديثة أنها كانت حرباً مدبرة لإلحاق الهزيمة بالجيش المصري والجيوش العربية وتوسيع حدود الكيان الاسرائيلي ليشمل أكثر من حدود فلسطين بضم أجزاء عربية من الاردن وسوريا ومصر.

Leave a Comment