ثقافة صحف وآراء

اليسار وعودة صعوده في أمريكا اللاتينية

طارق جلال*

مقدمة:

ساهمت تجربة اليسار السياسية في دول أمريكا اللاتينية في دعم المشروع اليساري العالمي، الذي ظن الكثير أنه دخل مرحلة الأفول بزوال الاتحاد السوفيتي، حتى جاءت تيارات وأحزاب اليسار اللاتيني لتُعيد تجديد الدماء في الوعود التي بشرت بها الاشتراكية والشيوعية.

لقد قدمت الأحزاب اليسارية في أمريكا اللاتينية أدوات ثرية من خلال تجاربها في الحكم بدايةً من استراتيجيات تعاملها مع السلطة عندما كانت في موقع المعارضة، مرورًا بتكتيكات وصولها إلى السلطة وقيادة الأنظمة السياسية، وليس انتهاءً بخططها التنفيذية والاستراتيجية في التعامل مع الأوضاع الإقليمية والدولية.

لذلك تتميز العروض التي نقدمها بين يدي القارئ في السطور المقبلة، بأنها تُمثل صورةً موجزة تتناول رحلة سريعة عبر ثلاث دراسات: تركز الأولى على سياق نشأة اليسار في دول أمريكا اللاتينية، ومراحل تشكله الأولية، وكيف أثرت الأحداث التاريخية الدولية في المسارات التي اتخذها اليسار اللاتيني. في حين تركز الدراسة الثانية على مستقبل اليسار اللاتيني عقب فضيحة الرئيس البرازيلي لولا داسلفا والتي انتهت إلى اعتقاله، في ضربةٍ ظن الكثير أن اليسار سيعاني بعدها عقودًا، إلى أن يستعيد عافيته مجددًا. ولكن المفاجأة ما جاءت به الدراسة الثالثة، وهي التي تتمحور حول صعود اليسار اللاتيني بصورةٍ تشبه صعوده التاريخي في نهاية القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، الأمر الذي تجلى في عودة داسلفا ذاته إلى رئاسة البرازيل… فما هي أسباب صعود وانهيار اليسار اللاتيني؟ وما أبرز استراتيجياته في الوصول إلى السلطة؟ وكيف كانت تجارب اليساريين في دول أمريكا اللاتينية؟ وما مستقبل اليسار اللاتيني في ظل تباطؤ النمو العالمي؟

ظاهرة صعود اليسار في دول أمريكا اللاتينية… المتغيرات الذاتية والموضوعية الجديدة[1]:

شهدت أمريكا اللاتينية صعودًا غير مسبوق للتيار اليساري، لدرجة أن أكثر من ثلثي شعوب أمريكا اللاتينية، أصبحوا يقبعون تحت رئاسة حكومات يقودها اليسار. هذا بعدما أخذ اليسار يتمدد بدايةً من فنزويلا عام 1998 بفوز هوجو تشافيز، ثم ريكاردو لاجوس في تشيلي عام 2000، وكانت ذروة الصعود بفوز لولا داسلفا برئاسة البرازيل في عام 2002، وتلاه نيستور كيرشنر في الأرجنتين عام 2003، وتاباري فاسكويز في أوروجواي، وإيفو موراليس في بوليفيا عام 2005، ودانييل أورتيجا في نيكاراجوا عام 2006، ورافييل كوريا في الإكوادور، واستمر هذا التمدد حتى عام 2009 ليضم الباراجواي والسلفادور، على نحوٍ جعل المراقبين يصفون ما تشهده أمريكا اللاتينية بالتغيير الأحمر، ووصفته الصحافة الأمريكية بالتسونامي اليساري.

أولا- اليسار في أمريكا اللاتينية: قراءة في النشأة والتطور

1-منذ عام 1848 حتى عقد الستينيات من القرن الماضي: تُعد أمريكا اللاتينية من المناطق القليلة التي ظهر فيها الفكر اليساري في وقتٍ مبكر للغاية، وذلك بعد فشل الثورة الأوروبية عام 1848، تم نفي بعض الثوار والنشطاء اليساريين إلى أمريكا اللاتينية، فكان ذلك سببًا في انتشار الأفكار اليسارية في تلك المناطق. ثم جاء انتصار الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، والنضال ضد الفاشية في أربعينيات القرن الماضي، لتكون دفعة جديدة للتيار اليساري في أمريكا اللاتينية.

وبدأت مرحلة تطبيق الأفكار الشيوعية على يد فيدال كاسترو الذي أطاح بنظام باتسيتا في كوبا في عام 1959، بعد ثورة ناجحة قادها الحزب الشيوعي الكوبي. وقد حظيت تجربة كاسترو في كوبا باهتمامٍ عالمي واسع، نتيجة التنمية الاجتماعية التي حققها النظام الشيوعي هناك.

2-فترة الستينيات والسبعينيات والقراءة الاستراتيجية الخاطئة: تعرض اليسار في الستينيات والسبعينيات لمجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي أدت لحدوث انتكاسة كبرى، وهي:

عوامل داخلية: حيث قدم بعض قادة اليسار قراءةً خاطئةً للسياقات أدت لحدوث انتكاسة كبرى، فعلى سبيل المثال، اعتقد تشي جيفارا أنه يمكن إسقاط الحكومات عن طريق تشكيل عصابات في الجبال، وهي ما عُرفت باستراتيجية “تطويق المدن بالريف”، إلا أن هذه الاستراتيجية انهارت باغتيال جيفارا.

عوامل خارجية: كان هناك نزاع شرس في تلك الفترة بين الدول التي تبنت الشيوعية، بسبب قضية المسار الثوري. إذ وقع انقسام حاد بين مكونات التيار اليساري، ولذلك كان في كل بلد أكثر من حزبين من الأحزاب التي تدعي الإيمان بالماركسية، وقد أحدث ذلك حالة من الضعف وغياب القوة، بسبب التشرذم والتفكك.

3- عقد الثمانينيات: تغير الاستراتيجيات: قام التيار اليساري بمراجعة تاريخية في الاستراتيجية المتبعة للوصول إلى السلطة، وذلك بعدما هجر مفهوم القوة لصالح العمل السياسي السلمي الديمقراطي وفي مقدمته المشاركة في الانتخابات العامة. هذا التحول ساهم في دخول فئات اجتماعية جديدة في الأحزاب الشيوعية، بعدما اطمأنت أنها لن تستخدم العنف مجددًا.

رغم توقع الكثير بأن انهيار الاتحاد السوفيتي، سينتج عنه وفاة تيارات اليسار في العالم، وفي أمريكا اللاتينية بالتبعية، ولكن حدث العكس، فقد تحول اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية من مقاومة الشيوعية إلى التركيز على القضايا الاقتصادية، وعلى جانبٍ آخر كان انسحاب العسكر من الحياة السياسية اللاتينية، بمثابة فرصة لتسريع عملية التحول الديمقراطي في دول أمريكا اللاتينية.

وقد شهدت أمريكا اللاتينية صعودًا تاريخيًا لليسار، عن طريق التداول السلمي للسلطة بانتخاباتٍ نزيهة، لاسيما بعدما فشلت أحزاب اليمين المؤمنة بالليبرالية الجديدة.

وهناك ثلاث استراتيجيات اتبعتها أحزاب اليسار اللاتيني:

الأولى: هي الطريق الثالث أو الاشتراكية- الليبرالية، وهؤلاء تأثروا بنظرية الطريق الثالث، بالإضافة إلى اهتمام مؤيدي هذا التصور بنقد التجارب الاشتراكية السابقة، التي كان الاستبداد والتسلط أبرز سماتها.

الثانية: تشكيل جبهات معادية للنيوليبرالية، بالاعتماد على مجموعة من الزعماء الملهمين الذين يأتون عادةً من خلفيات عسكرية، ويُصادرون حريات المواطنين في سبيل تحقيق مجد قومي.

الثالثة: استمرار المطالبة بالاشتراكية كهدف.

ثانيًا- إشكالية تعريف اليسار في أمريكا اللاتينية:

هناك إشكاليات خاصة بتعريف اليسار، أولاها هي التمييز بين اليسار القديم الذي جربته أمريكا اللاتينية، واليسار الجديد الذي يصعد في الفترة الحالية، فاليسار الجديد يؤمن بالديمقراطية وبالتداول السلمي للسلطة، بعكس اليسار القديم الذي يؤمن بالبندقية. البعض يؤكد أن اليسار الجديد مختلف عن القديم، بصورةٍ لم يعد معها هناك علاقة بين اليسار الجديد والأفكار الاشتراكية، وأبرز مثال على ذلك تجربة لولا دا سلفا في البرازيل، الذي يرى الكثير من اليساريين الجدد أنه خذلهم، وأن سياساته كانت استمرارًا لسياسات النيوليبرالية وليست الاشتراكية الجديدة. وبالمثل مع نيستور كيرشنر الذي حكم الأرجنتين واقتصادها مُثقلا بالديون؛ إذ اتخذ نفس مسار نظيره البرازيلي. يرى اليساريون الجدد أن سياسات هؤلاء الرؤساء كانت إصلاحية وغير ثورية، بل ولا ترغب في إسقاط المؤسسات السياسية والاجتماعية للوصول إلى المجتمع الاشتراكي.

ثالثًا-أسباب صعود اليسار في أمريكا اللاتينية:

جغرافيًا، تقع أمريكا اللاتينية في الفناء الخلفي للولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما جعل الأولى في ضغطٍ مستمرٍ من جانب الأخيرة، بسبب رغبة الولايات المتحدة في دعم حكومات ليبرالية يمينية متحالفة معها، وهو ما جعل شعبية الولايات المتحدة في معظم دول أمريكا اللاتينية متدنيةً للغاية، حيث يُحملها قطاعات واسعة مسؤولية أوضاعهم المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ويمكن حصر أسباب صعود اليسار في خمسة أسباب رئيسية هي:

1ـ جاء صعود اليسار كرد فعل على الإجراءات التقشفية العنيفة لبرامج الإصلاح الاجتماعي التي تشترطها الليبرالية الجديدة، والتي نتج عنها آثار اجتماعية فادحة، عكس ما بشرت به.

2ـ ساهمت عملية الدمقرطة التي بدأت مع أواخر ثمانينيات القرن الماضي في جعل اليسار هم القوة البديلة القادرة على حل الأزمات الاجتماعية.

3ـ ساعد انهيار الاتحاد السوفيتي في صعود اليسار اللاتيني، لأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد ترى اليسار اللاتيني، كتهديد مباشر لأمنها القومي.

4ـ تبني خطاب سياسي واقتصادي مناهض للولايات المتحدة الأمريكية، ساعد بقوة في صعود اليسار.

5ـ حققت بعض الأنظمة اليسارية نتائج اجتماعية ملموسة في دعم قطاعاتٍ واسعة من الفقراء، وقد منحها ذلك شعبية كبيرة في أمريكا اللاتينية.

رابعًا- أداء اليسار السياسي الجديد في أمريكا اللاتينية:

إن السياسات الداخلية والخارجية لحكومات اليسار نفسها مختلفة بشكلٍ كبير، ومن المفارقة، أن الاختلافات بين حكومات اليسار واليمين، أقل من الاختلافات بين حكومات اليسار نفسها.

وتظهر الاختلافات واضحة ضمن اليسار في جانبين:

1ـ على صعيد السياسات الداخلية:

السياسات الاقتصادية لليسار: لعب التنوع في أصول اليسار اللاتيني دورًا بارزًا في تعدد السياسات الاقتصادية التي اتبعها كل تيار من اليسار يصل للسلطة، ففي البرازيل، أكد لولا داسلفا أنه لن يجري تغييرات جذرية على سياسات سلفه الليبرالي كاردوسو، أي أنه سيستمر في سياسات الليبرالية الجديدة. والأمر مختلف في فنزويلا، التي تبنت نظام معادٍ للليبرالية الجديدة، والذي أدى في بداية نظام هوجو تشافيز في 1999 إلى تدهور مؤشرات النمو الاقتصادي، فقد انكمش الاقتصاد الفنزويلي بمعدل 45٪ في الفترة (1997-2003). ولكن على الرغم من ذلك، فقد أثبتت سياسات تشافيز تحقيق نتائج إيجابية في المراحل اللاحقة، والمحصلة النهائية هو انتعاش اقتصادي حقيقي عاشته فنزويلا، وهو ما أكدته تقارير البنك الدولي.

السياسات المتعلقة بالدمقرطة: تعد عملية ترسيخ الممارسات الديمقراطية وتعميق مؤسساتها، هي الإنجاز الأهم للأنظمة اليسارية، ولذلك خرج الشعب بقوة ضد الانقلاب العسكري الذي حدث ضد هوجو تشافيز في 2002. وكانت هناك مداخل متنوعة على المسار الديمقراطي، على سبيل المثال، يرى اليسار التشيلي أهمية دعم المسار الديمقراطي عبر تشجيع الاستثمارات الأجنبية، بينما وعد الرئيس الإكوادوري رافييل كوريا بإقامة جمعية تأسيسية لصياغة الدستور وتعهد بتدعيم التعليم وحقوق الإنسان.

علمًا أن التجارب الديمقراطية في أمريكا اللاتينية تنطوي على قدر لا يُستهان به من المعارضة من داخل أحزابها، المثال الأبرز مواجهة داسلفا معارضة قوية من الأجنحة اليسارية في حزب العمال.

السياسات الاجتماعية: يُركز اليسار اللاتيني على منح الطبقات الأكثر فقرًا قدرًا من الحاجات بما يحول بينها وبين الخروج على النظام وإشعال الثورات مجددًا، ولم يعتمد في تمويل تلك البرامج على الضرائب أو القروض، وإنما ركز على تأميم كل مصادر الريع الممكنة.

وفي هذا الإطار، يُركز رئيس الأورجواي فاسكويز على دعم الفقراء مع التعهد بالحفاظ على السياسات الاقتصادية المحافظة. ونظرًا لغياب حركة عمالية قوية، فقد اعتمد تشافيز على بعض قطاعات القوات المسلحة، وتعتمد حكومته برنامج طوارئ اجتماعي يؤتي ثماره.

2ـ على صعيد السياسات الخارجية:

تأرجحت السياسات الخارجية لدول أمريكا اللاتينية ما بين التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية والصدام الدائم معها، إلا أنها في كلتا الحالتين، قدمت نموذجًا في كيفية إخضاع علاقاتها الخارجية لخدمة أهداف مشروعها المحلي في النمو الاقتصادي من جهة، والعدالة الاجتماعية من جهةٍ ثانية، وترسيخ التحول الديمقراطي من جهةٍ ثالثة.

حاولت هذه الدراسة تناول اليسار اللاتيني، وبالتحديد إشكالية الفرق بين اليسار الجديد والقديم، وأبرز سمات التشابه والاختلاف بينهما، ووصلت إلى أن اليسار الجديد مختلف بصورةٍ شبه كلية عن اليسار القديم، في عدد كبير من المحددات؛ أبرزها استراتيجية الوصول إلى السلطة، وطرق التعامل مع المجتمع الدولي، وتحديدًا الدول الإمبريالية. وخلصت إلى نجاح اليسار الجديد في الموازنة بين أهداف النمو الاقتصادي المحلي، وعقد علاقات متوازنة مع الدول الكبرى، دون أن يكون ذلك على حساب سيادة بلاده.

اعتقال دا سيلفا: تحديات اليسار في أمريكا اللاتينية[2].

شهد العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين بدايةً لانحسار التصدر اليساري للمشهد السياسي في أمريكا اللاتينية، حيث أخذ تيار اليمين يتمدد في مساحاتٍ واسعة نتيجة النجاحات التي حققتها نخبته السياسية في عدد من الانتخابات البرلمانية والرئاسية في عدة دول وفي مقدمتها البرازيل، والأرجنتين، والبيرو، وتشيلي، والباراجواي.

أولا- البرازيل: صعود وتراجع اليسار

ساهمت تجربة اليسار في البرازيل في نجاح اليسار في أغلب دول أمريكا اللاتينية، فقد نجح الرئيس لولا داسلفا في تحويل بلاده من دولة هامشية لا وزن لها، إلى قطبٍ إقليمي مؤثر وحيوي، وهو ما شجع كثيرا من الشعوب اللاتينية على دعم اليسار في بلادهم لتطبيق النموذج اليساري التنموي في البرازيل. لكن تعرضت هذه الصورة لكارثة بعدما نجحت الملاحقات القضائية في الكشف عن فضائح مالية خاصة بالرئيس البرازيلي، التي حكم عليه فيها بالسجن اثنى عشر عامًا، ومن حينها بدا التركيز على المصير الذي سينتظر اليسار اللاتيني برمته، الذي لطالما روج لنفسه بنجاحات اليسار البرازيلي.

ثمة عناصر متشابهة تُظهر أن ظاهرة اليسار اللاتيني واجهت انحسارًا حقيقيًا وأزمة حادة، فالنظام اليساري في فنزويلا شهد تراجعًا شعبيًا بصورةٍ غير مسبوقة، ونظام آل كاسترو الذي استمر في حكم كوبا قد انتهى، بجانب تعثر دانيال أورتيجا في الإكوادور، علاوةً على النهاية الكارثية لنظام الرئيسة كريستينا كيرشنر في الأرجنتين.

ومن المهم أن نوضح أن اليسار ليس واحدًا، بل هناك اختلافات جوهرية واسعة في الأجندة المحلية والإجراءات السياسية والاقتصادية، نهايةً بالموقف من العالم الخارجي، فهناك نوعان من اليسار في أمريكا اللاتينية:

الأول: هو اليسار القومي الراديكالي أو اليسار الشعبوي، وهو اليسار الذي تصدر في فنزويلا، وكوبا، والإكوادور، وبوليفيا، والأوروجواي. وصدر هذا اليسار خطاب سياسي شعبوي ضد قوى العولمة والإمبريالية.

والثاني: هو اليسار الإصلاحي المعتدل في البرازيل، والأرجنتين، وتشيلي، والبيرو، وكولومبيا. وركز هذا التيار على بناء أنظمة تعليمية وعلمية حديثة، لطيفٍ واسع من مجتمعاتهم.

لقد نجحت تجربة داسلفا بفضل اعتماده النهج البراجماتي الذي يُقدم مصلحة الشعب، على مقولات الأيديولوجيا اليسارية، ولم يصدر خطاب عدائي ضد الغرب كما فعل اليسار الشعبوي الذي قادته فنزويلا.

رغم النمو الاقتصادي الكبير الذي حققته تجربة داسلفا في البرازيل، إلا أن ذلك لم يخل من السلبيات، فقد شهدت المرحلة ذاتها ظاهرتين كبيرتين، الأولى هي ارتفاع معدلات الفساد، والثانية هي زيادة حدة الاستقطاب السياسي في البلاد، ومع تراجع معدلات النمو وتأثيرات الأزمات المالية العالمية المتجددة، أخذت الطبقات الاجتماعية الداعمة لليسار تتآكل بفعل صعوبات الحياة.

ثانيًا- تآكل اليسار: معطيات ودوافع

ركزت هذه الدراسة على تحليل أسباب انحسار اليسار اللاتيني، وخلصت إلى أن ثمة تراجعًا ملحوظًا في مؤشرات التحول الديمقراطي، بل وردة ديمقراطية في بعض القضايا السياسية، مثل تكريس سلطات الفرد، وإهمال الدستور، والتحايل على القانون، وهو ما أدى لزيادة حدة الانقسام الشعبي والاستقطاب السياسي، بالإضافة إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، وفشل اليسار في تحقيق وعوده الاجتماعية (حيث تنامي الفساد، وانهيار برامج الضمان الاجتماعي)، وهو ما نتج عنه توجه الشعوب اللاتينية نحو اليمين.

سياقات ومستقبل صعود “اليسار الجديد” في أمريكا اللاتينية[3]:

بعد عقدٍ كامل من التخبط السياسي لتيار اليسار، ساعدت السياقات أحزاب اليمين على تصدر المشهد السياسي، ولكن يبدو أن ثمة عودة سياسية قوية لليسار.

أولا- المشهد السياسي الراهن في أمريكا اللاتينية

تشهد أمريكا اللاتينية حاليًا موجة جديدة لما يعرف بـ”المد الوردي”، وبدأت مع وصول “أندريس مانويل لوبيز أوبرادور” للسلطة في المكسيك عام 2018، لأول مرة منذ 40 عامًا كحدث تاريخي أن يفوز بالسلطة حزب يساري في المكسيك الحليف التقليدي للولايات المتحدة الأمريكية. وفي عام 2019، نجح “ألبرتو فرنانديز” في الأرجنتين، و”كورتيزو” في بنما، وكذا فوز “لويس آرس” برئاسة بوليفيا في عام 2020. ولا يزال اليسار مسيطرا على مقاليد الحكم في فنزويلا، وكوبا، ونيكاراجوا.

وفي عام 2021، فاز ثلاثة مرشحين من اليسار في أربعة انتخابات تم عقدها، ويتشابه هذا السياق، مع ما حدث في أواخر القرن الماضي والعقد الأول من القرن الجديد. وشهدت الانتخابات في كولومبيا ظاهرة هي الأولى من نوعها، عندما فاز المرشح بيترو جوستافو بانتخابات كولومبيا، ليكون أول رئيس يساري يحكم البلاد، مستغلًا الغضب الشعبي في كولومبيا، ضد سياسات الليبرالية الجديدة.

ولكن الحدث الأهم كان في عودة الرئيس البرازيلي لولا داسلفا لرئاسة البرازيل في عام 2022، نظرًا للثقل والوزن النسبي الهام الذي تتمتع به البرازيل في أمريكا اللاتينية.

على الجهة الأخرى، تقلص وجود حكومات تابعة لليمين في أمريكا اللاتينية، ولم يصمد اليمين سوى في أربع دول فقط: باراجواي، والسلفادور، وأوروجواي، والإكوادور.

ثانيًا- أسباب عودة اليسار

يرتبط الأمر بالتكلفة السياسية لسوء إدارة أزمة كوفيد – 19 بالإضافة لسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الناجمة، حيث ساهم وباء كوفيد في ارتفاع معدلات الفقر وكذلك البطالة، إذ تُعد أمريكا اللاتينية من أكثر القارات التي تضررت من هذا الوباء، وعلى رأسها البرازيل التي شهدت ثاني أعلى معدل وفيات في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية.

واستغل اليسار هذا السياق للتأكيد على أهمية العودة لبرامج الدعم الاجتماعي، ما دفع المتضررين من الأوضاع لدعم اليسار، أملًا في تجاوز الأزمات المعيشية الصعبة.

ثالثًا- ملامح الموجة اليسارية الحالية

هناك تشابه بين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في السياق الراهن، والسياق السابق لصعود اليسار في أوائل القرن الحالي، ولكن ثمة اختلافات جوهرية بين اليسار الحالي واليسار السابق، وعلى رأسها ميل القادة اليساريين الجدد للديمقراطية، بالإضافة إلى اهتمامهم بقضايا المناخ والبيئة، فيما بات يُعرف باليسار البيئي.

يُمثل الاستثناء الكوستاريكي حالة تُدرس في النموذج اللاتيني برمته، حيث تتميز كوستاريكا بانخفاض حدة الاستقطاب السياسي بين اليمين واليسار، وهناك رسوخ واضح في التقاليد الديمقراطية، كما أن هناك اتفاقا بين النخبة الحاكمة والمعارضة على عدم إحداث أي تغيير جذري في المؤسسات، ولذلك تتمتع كوستاريكا بدرجة مرتفعة من الاستقرار السياسي، الذي ساعد الدولة في تقديم برامج اجتماعية شاملة، مع توفير العوامل التي تُشجع الاستثمار الاجنبي.

رابعًا- مستقبل اليسار في أمريكا اللاتينية

يتوقف مستقبل اليسار اللاتيني على قدرة حكوماته على التغلب على تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، في ظل انتشار تقارير المؤسسات المالية العالمية التي تؤكد دخول العالم في مرحلة الركود التضخمي بما قد يؤدي لحدوث كساد اقتصادي مدمر.

كما أن اليمين مازال قويًّا، ولا يعني هزيمته أنه تم إقصاؤه تمامًا من المشهد السياسي، فمازال تواجده في المؤسسات البرلمانية قائم وقوي.

ركزت هذه الدراسة على تحليل سياق عودة اليسار لقيادة أنظمة لاتينية عدة، وأبرز التحديات الاقتصادية التي تواجه اليسار الحالي، في ظل وضع اقتصادي استثنائي، ومستقبل اليسار في ظل هذا الوضع، لاسيما أنه لطالما اعتمدت أجندته على النمو الاقتصادي.

خاتمة:

ترفض الشعوب العنف وتخشى انعدام الأمن والسلم الأهلي، لذلك نجحت أحزاب اليسار في سيادة المشهد السياسي، عندما تخلت عن استراتيجية الوصول إلى السلطة عبر البندقية، وهو ما يوضح أن اهتمام الشعوب بالأمن والأمان قد يفوق في كثير من الأحيان اهتمامهم بالخبز والحقوق السياسية والاقتصادية.

هناك طريقتان للتعامل مع التجارب الفاشلة أو التي لم تكتمل، الأولى تتمثل في تمجيدها وبحث المؤامرات التي تمت على قادتها، والطريقة الثانية هي الاستفادة من معرفة الأخطاء التي حدثت في تلك التجارب لمنع تكرارها في المستقبل. فقد نجح اليسار الجديد، في تقديم قراءة واقعية متقنة لأخطاء التجارب اليسارية القديمة التي حدثت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وهو ما ساعد اليسار الجديد في تحقيق نجاحات كبرى في أواخر القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، فكلما كانت القراءة مجردة وأقرب للحقيقة، كانت درجة الاستفادة منها مرتفعة، شريطة عدم التحجر أمام الاستراتيجيات وتغييرها بتغير سياقات تشكلها عن توقيت تحققها وتطبيقها، وعدم استسهال استنساخ التجارب، بحجة نجاحها في دول متشابهة في الواقع، بل وحتى عدم استنساخ التجارب في البلد نفسه، إذا كان الزمان غير الزمان.

يؤدي التشرذم والانقسام إلى الضعف والهوان، ويزداد البنيان قوةً بالوحدة، لذلك فالتناحر الداخلي لا يُنتج سوى الفشل، فالدول التي تتسم بوجود عدد كبير من الأحزاب اليسارية، لم تنجح، لأنها حاربت بعضها البعض، وقامت بتقسيم كتلتها السياسية بينها.

تعد قضية الاستفادة من السياق الدولي، أحد أهم عوامل نجاح التجارب السياسية لليسار في أمريكا اللاتينية، فقد استوعبت دول أمريكا اللاتينية أن انهيار الاتحاد السوفيتي قد يكون فرصتها للصعود وليس الزوال، عندما تمكنت من تجديد خطابها السياسي ليتوافق مع السياق الدولي والإقليمي والمحلي.

نجحت الأحزاب اليسارية في الوصول إلى السلطة ثم العودة لها مجددًا بعدما سقطت، بفضل تركيزها على تقوية المسار السياسي السلمي لتداول السلطة، وترسيخ المؤسسات الديمقراطية، مع التركيز أيضًا على نشر الوعي بين الطبقات الفقيرة والمتوسطة حول محورية الدور الذي يجب أن يقوموا به في حماية المسار الديمقراطي.

___________________

الهوامش

1ـ كاظم علي مهدي/ نصر محمد علي، ظاهرة صعود اليسار في دول أمريكا اللاتينية.. المتغيرات الذاتية والموضوعية الجديدة، مجلة المستنصرية للدراسات العربية والدولية، العدد 42، سنة 2012.

2ـ كرم سعيد، اعتقال داسيلفا: تحديات اليسار في أمريكا اللاتينية، مجلة الديمقراطية، العدد 71، يوليو 2018.

3ـ  د. صدفة محمد محمود، سياقات ومستقبل صعود “اليسار الجديد” في أمريكا اللاتينية، مجلة الديمقراطية، العدد 86، نيسان 2022.

*فصلية قضايا ونظرات – العدد الثامن والعشرون كانون الثاني 2023، نشرت على موقع : مركز الحضارة للدراسات والبحوث/ 25  كانون الثاني، 2023                           

Leave a Comment