سياسة

الهروب من تشكيل الحكومة نحو المجهول

كتب زكـي طـه

بات الحديث عن تشكيل الحكومة أشبه بالألعاب البهلوانية التي تتقنها الطبقة السياسية بامتياز. وعود تذهب وأخرى تعود من دون أن يرى اللبنانيون هذه الحكومة الموعودة. وأسباب عدم التأليف لم تعد خافية على أحد. بعضها معلن على ألسنة المعنيين بالتأليف، وبعضها مضمر تشي به مواقف وممارسات من هم وراءها.

أما حروب البيانات وتبادل مشاريع الحصص وتوزيع الوزارات وتسمية الوزراء وتقاذف تهم التعطيل، وسط تكرار إدعاء تقديم التسهيلات والتنازلات وافتعال ايجابيات فلا اساس لها. وهي بمجملها تقع في إطار التضليل حول التعطيل الذي يتقنه سائر الفرقاء، الذين لا يمكن تبرئة أحد منه. وعليه فقد انتهى عام آخر من شلل وفراغ السلطة التنفيذية الذي ظلل سنوات العهد الخمس المنصرمة من ولايته، عطفاً على سنوات التعطيل التي سبقت التسوية التي أتت به إلى سدة الرئاسة. 

تؤكد مواقف العهد وأداؤه على نحو لا يحتمل أي التباس، أن لا حكومة إلا بموافقته ووفق شروطه. وما على الآخرين سوى القبول بما قرره الرئيس لموقعه وما يملكه من صلاحيات ودور وحصة في الحكومة ومواقع السلطة، بما فيه توريث رئيس التيار رئاسة الجمهورية. ولذلك فإن جميع من تولوا رئاسة الحكومة أو كُلفوا بتأليفها، وجدوا أنهم يدورون في حلقة مفرغة، وسط عجز قاتل عن الحسم في مواضيع أساسية، يتنازعهم خياران لا ثالث لهما: إما الخضوع والتسليم بشروط الرئيس وتياره السياسي والقبول بجعل الحكومة ورئاستها ورقة بيد رئاسة الجمهورية خلافاً للدستور. وإما الاعتذار حفظاً لماء الوجه أمام من يدّعون تمثيله. أما أحوال غالبية شركائهم في السلطة  فلا تختلف أوضاعهم  لناحية القدرة على الاعتراض لذا تجدهم موزعين بين التسليم  ومحاولة وتحسين الشروط والاستنكاف.

ولأن  العهد “القوي” تتحكم به عقدتي الصلاحيات والتوريث، فإن مصادره وأمام رفض تأليف الحكومة خلافاً لشروطه وطلباته، تلوّح بإدامة فراع السلطة التنفيذية حتى نهاية ولاية العهد. ما يعني ضمناً تعطيل الانتخابات النيابية بذريعة عجز الحكومة المستقيلة عن اجرائها كما حصل بالنسبة للانتخابات الفرعية. وتعطيل التمديد للمجلس النيابي باعتباره غير مؤهل لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. ما يجعل بقاءه في سدة الرئاسة والقصر “واجباً وطنياً” باعتباره الرئيس المنتخب شرعاً والمؤتمن على البلاد والدستور، مما يتيح له استخدام الصلاحيات المُدعاة واصدار مراسيم  تسليم مقاليد حكم البلد لحكومة انتقالية يرأسها المرشح الأقوى للرئاسة المتمثل برئيس التيار. 

   وفي موازاة الانهيار الشامل، يتشارك الجميع  الاستثمار في التعطيل كما في الأزمات لتنفيذ أهدافهم وتحقيق طموحاتهم.  وفي هذا السياق يستمر استقواء العهد  بحزب الله والرهان على تجديد التحالف معه. أما الحزب فلا يتردد في استغلال ضعف العهد وعجزه عن تحقيق ما يصبو إليه. كما في استخدام الاستقواء به غطاءً لسياساته واهدافه المحلية الموصولة بدوره الاقليمي في إطار مشروع النظام الايراني الذي ينتسب له. بدءاً من تكريس هيمنتة في الداخل واستغلال فائض قوته سواء للتحكم بقرارات البلد على الصعيدين السياسي والأمني بذريعة حمايته من العدوان الاسرائيلي ومواجهة الحصار الاميركي. أو لجهة  توسيع مساحات نفوذه في شتى ميادين السلطة، بما فيه القيام بمهام الدولة البديلة، بحجج معالجة الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية للبنانيين والسعي لتأمين حاجاتهم من الخدمات الضرورية في شتى الميادين ومن السلع الاساسية، بما فيها استيراد النفط والدواء والغذاء.

من المؤكد أن  ما يقوم به الحزب وأداؤه، لا يتعلق بعجز الدولة أو انهيار مؤسساتها، لأن الحزب شريك في المسؤولية عما آلت إليه أحوالها ومعها اوضاع اللبنانيين المأساوية. كما لا يتعلق أيضاً بالحصار الاقتصادي والمالي  المفروض على البلد سواء بذريعة سياسات الحزب الاقليمية أو رداً على رفض منظومة الحكم تنفيذ ما تعهدت القيام به من اصلاحات والاستجابة لمطالبات اللبنانيين أو لشروط الخارج. لأن ما يقوم به في لبنان وما يؤديه من أدوار في بلدان الجوار يقع بمجمله في إطار التزامه اهداف  مشروع  النظام الايراني في الاقليم. وهو الذي يرى في لبنان كما في سواه، ورقة يستخدمها في الصراع الدائر مع الولايات المتحدة التي تتلاعب بكيانات المنطقة ومصائرها. حيث لا مكان لمصالح الشعب اللبناني وحاجاته إلى استقرار الحكم أو وقف الانهيار.

 وعليه تتشابك المصالح الإيرانية الخارجية مع المصالح الداخلية للعهد وتياره وسعيهما للاستئثار بالسلطة، كما مع حزب الله ومشروعه للهيمنة  الكاملة على الحكم والتحكم بأوضاع البلد. ولأن إصرار العهد والتيار لتعديل وإلغاء الطائف لم يعد مستغرباً، فإن صمت حزب الله عن أدائهما ليس مستهجناً أيضاً، لأن النتائج مهما كانت طبيعتها تصب في طاحونته. وبصرف النظر عما حل بالبلد من كوارث الانهيار وما هو آتٍ في ركابه من أخطار، فليس  خافياً على أحد أن التسويات البديلة  في نهاية المطاف، تتحكم بها وتقررها توازنات قوى الداخل والخارج، وهي  التي تضمن نفاذها، وليس المبادىء أو الرهانات الخاطئة والتحالفات الملتبسة والطموحات غير المشروعة.  هكذا كان الامر مع ما سبق من تسويات وعلى هذا المنوال يستمر الحال.

هذا ما تؤكده صفقة استيراد النفط من ايران بقوة الأمر الواقع، وقد سبقها استيراد الادوية والمنتوجات الغذائية والسلع الضرورية وتنظيم بيعها وتوزيعها في السوق دون حسيب أو رقيب. ما يعني  أن الحزب قرر الدخول طرفاً شريكا في سوق الاستيراد والتوزيع  على الصعيدين الاقتصادي والتجاري، بعيداً عن قوانين الاستيراد المعتمدة.  علماً أن هذ الأمر لم  ولن يساهم في معالجة  النقص في حاجة السوق إلى الوقود  والأدوية والسلع الضرورية ولن يسهّل الحصول عليها. لأن المشكلة لا تكمن في قدرة التجار على الاستيراد، إنما في آليات الدعم المعتمدة من قبل منظومة السلطة، غطاءً لنهب أموال الخزينة وودائع اللبنانيين وما يرافقها من عمليات احتكار وتخزين وتهريب الى سوريا من قبل المافيات التابعة لقوى السلطة والمحمية منها والتي يشكل حزب الله احد اطرافها وحماتها.

 وبغض النظر عن التوظيف السياسي لاعلان الاستيراد ترحيباً به أو رفضاً له. يبقى الأهم هو قبول سائر اطراف الخارج به،  باعتباره يقع في اطار الصراع بين ايران والولايات المتحدة  بشأن استئناف المفاوضات حول الملف النووي  وملحقاته.  ولأن لكل طرف الحق  في تجميع ما يستطيع من اوراق، فقد استهدف الرد الاميركي التقليل من اهمية الاستيراد من ايران، وتحويله إلى عبء على اصحابه لناحية التفريغ والنقل والتوزيع. ولذلك جرى توجيه رسالة متعددة الاهداف حيال النظام السوري والداخل اللبناني، تمثلت بتسهيل زيارة وفد لبناني رسمي إلى سوريا لبحث ترتيبات استجرار الكهرباء والغاز إلى لبنان عبر اراضيها من مصر والاردن. الأمر الذي شكل مخرجاً لأطراف السلطة في التعامل مع النفط الايراني، كما للعلاقة المقطوعة رسمياً من عشر سنوات مع النظام السوري، الذي رأى في الطلب اللبناني المجاز اميركياً ورقة هو بأمس الحاجة لها ولتوظيفها سواء في الداخل السوري، أو في علاقاته  العربية، كما مع الاطراف الفاعلة في الأزمة السورية. أما موعد وصول الكهرباء والغاز فدونه شروط وعوائق وعقبات لا تحصى.

لا شك بأهمية تشكيل الحكومة من أجل أن تنتظم الحياة السياسية في البلد مدخلاً للانقاذ. لكن المعضلة تكمن في انعدام إهلية مكونات الحياة السياسية والطبقة الحاكمة و فقدانها حس المسؤولية الوطنية والانسانية، ورفضها القيام بخطوات انقاذية لتدارك الاخطار الزاحفة  على البلد. ولذلك يسود التضليل  والإكثار من مواعيد التأليف الوهمية. علماً أن تشكيل حكومة لن يؤدي إلى وقف الانهيار وتدفق المساعدات وبدء ورشة اعادة النهوض. كما وأن وجودها لن يحل المشكلات القائمة. لأننا أمام طبقة حاكمة تدرك جيداً مصادر وعوامل قوتها، بحيث لا يخيفها فسادها وسوء سياساتها وممارساتها، وهي المسؤولة أولا وآخراً عن كل الكوارث التي أصابت البلد والمخاطرالمحدقة به.

هي تعرف جيداً أن ثقة  اللبنانيين بها مفقودة، ومثلها ثقة الخارج  الذي أبدى ولا يزال استعداده لتأمين قروض، ولكن بشروط تضمن مصالحه وهو ما تخشاه.  وأن أحداً ليس بوارد تصديق وعود لم تلتزم  بها مراراً وتكراراً. وهذا يشمل سائر اطراف منظومة الحكم التي لا ترى سوى مصالحها الفئوية.

أما وقد دخل البلد في النفق المظلم، وعم الانهيار والفوضى الأهلية كل المناطق، وباتت طلائعها تنذر بما هو أخطر، على نحو يفتقد معه اللبنانيون القدرة على تصور ما ينتظرهم من آلام قياساً لما هم فيه الآن. فإن ما يفاقم مأساتهم ليس ألاعيب منظومة الحكم التي لا تقيم اعتباراً لمعاناتهم واستعداد قواها لتنظيم وتقاسم إدارة الفوضى وحسب. إنما في من يدعون النضال باسمهم، خاصة الذين يفتقدون بوصلة الأزمة، ويصرون على البحث عن أجوبة ومشاريع حلول لها خارج أرض الواقع. فتراهم ومن كل الضفاف يستسهلون الارتداد إلى مقولات وشعارات الانقسام  والحرب الأهلية والهروب من الواقع الصعب إلى فضاءات البرامج الوهمية بعيداً عن أولويات الناس، أو الانشغال بالتحضير لانتخابات  تتشارك مع اللبنانيين مصيراً مجهولاً.

Leave a Comment