سياسة مجتمع

الهروب من تحمّل المسؤولية إنتظاراً لمبادرات الخارج!

 زكـي طـه

 بيروت 26 حزيران 2023 ـ بيروت الحرية

من المؤكد أن زيارة الموفد الفرنسي قد ساهمت في تزخيم رهان اللبنانيين على امكانية الوصول إلى حل. وهو رهان لا يزال يتجدد مع زيارات الموفدين الى لبنان، أو مع ما يعقد من لقاءات في الخارج يرد فيها اسمه. ولا شك أن الموفد الفرنسي الجديد، ومن موقعه السابق وزيراً لخارجية بلده، هو من الأكثر إدراكاً بين سائر أقرانه في الإدارة الفرنسية، لطبيعة وخطورة الأزمة الحالية في لبنان وحجم الاستعصاءات المحيطة بها. ولذلك فإن تكليفه العودة  للامساك بملف الأزمة اللبنانية التي قادت إلى الشغور الرئاسي، أتى باعتباره الوزير الذي رافق قبل عامين رئيسه في زيارتيه للبنان، اللتين جرتا في اعقاب انفجار المرفاً. الأولى لاستطلاع أوضاع البلد، وحث الطبقة السياسية على إعادة تأهيل قواها وتحسين أدائها، والانفتاح على المجتمع  اللبناني، واستيعاب ردة فعله السلبية حيال سياساتها وممارساتها وانتفاضته عليها.

والثانية، كانت لاطلاق المبادرة الفرنسية للإنقاذ. والتي جرى تجاهلها من قبل منظومة السلطة، وسط اصرار منها على متابعة ما كان دأبها من سياسات وممارسات. الأمر الذي دفع الوزير الفرنسي إلى تحذير اللبنانيين من مصير “التيتانيك” القادم عليهم، وتحميل المسؤولية عنه للطبقة السياسية الحاكمة ” لأن لبنان يسير نحو المجهول وامام خطر الزوال”.

وبصرف النظر عن النهاية البائسة لتلك المبادرة وتخلي صاحبها عنها. ولأن سياسات الدول تحركها مصالحها أولاً وقبل أي شيء آخر. كان لا بد من تجديد المحاولات الفرنسية حيال لبنان والمنطقة. والتلطي خلف ما يعقد من لقاءات ثلاثية أو خماسية حول الشأن اللبناني وما يصدر عنها من بيانات أو توجهات.

وفي هذا السياق كانت المبادرة  للتوافق على رئاستي الجمهورية والحكومة مخرجاً من الأزمة. وهي التي لم تزل تجرجر ذيولها، جرّاء ردود الفعل المعترضة عليها من أكثرية اللبنانيين وخصوصاً الاطراف المسيحية، التي رفضتها وسعت إلى مواجهتها وتعطيلها. وهي التي رأت فيها  انحيازاً فرنسياً لمصلحة حزب الله، الذي يسعى لتكريس هيمنته وسيطرته على البلد والسلطة فيه من خلال فرض مرشحه للرئاسة. ولذلك كان قرار الإدارة الفرنسية تكليف وزير خارجيتها السابق متابعة الملف اللبناني والأزمة الرئاسية فيه.

وبعيداً عن التحفظات الاميركية حيال المبادرات الفرنسية  في لبنان، والمصالح التي تعبر عنها أو تستهدفها من خلال الانفتاح على حزب الله، ليس باعتباره الطرف المتحكم بأوضاع البلد  وحسب، إنما أيضاً بحكم علاقته بالسياسات والدور الايراني في المنطقة. وبصرف النظر عن الهواجس السعودية حيال تلك المبادرات، والتحصن بعدم تاييدها، أو توفير الدعم لها في ظل تراجع نفوذها في لبنان، وحصر دورها بمطالبة اللبنانيين بتحمل مسؤولياتهم عن معالجة أزماتهم.  فإن ما يضاف إلى الموقفين الاميركي والسعودي، في وجه المبادرة الفرنسية هو استعصاءات الوضع الداخلي، وما يحتشد فيه من عوائق تعبر عن مصالح فئوية ضيقة، تتحصن بها سائر اطراف منظومة السلطة المعبرة عن البنية اللبنانية الطائفية، التي لا يمكن عزلها عن العوامل الخارجية المتدخلة في الأزمة اللبنانية، كما كان الأمر على الدوام في سائر محطاتها السابقة منذ تأسيس الكيان.

وفي هذا السياق فإن زيارة الموفد الفرنسي التي اعقبت، الجلسة النيابية الثانية عشرة لانتخاب رئيس للجمهورية، ولقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين، كان هدفها استطلاع آراء واقتراحات هؤلاء حول سبل التعاطي مع أزمات البلد التي تسببوا بها، ويتحملون المسؤولية عنها، مدخلاً  لمحاولة جديدة تستهدف البحث عن مخارج الحد الأدنى الممكنة لها، سواء عبر إنقاذ مشروع التسوية الرئاسية المقترحة، أو العمل من أجل مبادرة أخرى للتعامل مع الأزمة اللبنانية في طورها الراهن، للحؤول دون انفجارها ولضمان المصالح الفرنسية في آن.

لا جدال في أن نتائج الجلسة النيابية الأخيرة، معطوفة على ما سبقها من نزاعات وتوترات واصطفافات، قد أكدت بمجملها عمق وخطورة الاستعصاءات التي تحكم أوضاع البلد وتتحكم بها على كل المستويات. وهو الامر الذي يدركه جيداً الموفد الفرنسي من موقع المعاينة،  والمعرفة بعوامل القوة لدى سائر اطراف منظومة السلطة، التي التقاها جميعاً، سواء لناحية طبيعة بنيتها وقدرتها على تجديدها وحدود مواقعها ضمن طوائفها. أو لجهة المصالح الفئوية التي تصدر عنها والتحالفات الآنية التي تجمعها، ومستوى الدهاء والكفاءة والخبرة في إدارة  الخلافات والنزاعات فيما بينها، ونجاحاتها في ممارسة التضليل والتهرب من المسؤولية وإحالتها على الآخر، بالإضافة إلى جهوزيتها لإعادة تنظيم العلاقة فيما بينها في مواجهة ما يهدد مصالحها، أو ينال من نظام المحاصصة الذي يبرر وجودها. هذا بالإضافة إلى ما هو قائم لديها من ارتباطات أو رهانات خارجية تستقوي أو تتحصن بها.

أما عامل القوة الاهم لدى سائر اطراف السلطة، والذي جرى اختباره مراراً وتكراراً مع كل اصحاب المبادرات الخارجية حيال أزمات البلد، فهو انغلاقها، في ظل عدم وجود بدائل لها. ما يعني استحالة  تجاهلها أو القفز فوقها. وما يؤكد ذلك هو قدرتها على استيعاب ما تتعرض له من ضغوط خارجية، سواء أتت في صيغة  تهديد لها، أو عبر فرض عقوبات مالية عليها. وهو الامر الذي اشارت إليه مختلف التقارير الدولية والاممية، عندما وصفتها باعتبارها قوى صاحبة سياسات وممارسات احتيالية ومافياوية.

في المقابل لا يخفى على الموفد الفرنسي مدى ضعف وارتباك القوى التي تُصَنف في خانة المعارضة، نظراً لهشاشة بنيتها المجتمعية، الأمر الذي يبقيها على هامش اصطفافات قوى السلطة  القادرة على استدراجها إلى ملعبها. وعليه، فإن اللقاء مع بعض النواب “التغييريين”  لم يخرج عن كونه من باب رفع العتب.

وأمام كل المعطيات والمؤشرات الدولية والاقليمية حيال أزمات المنطقة  ولبنان منها، وبانتظار ما ستسفر عنه جهود الموفد الفرنسي، من أجل ايجاد المخرج الممكن من المأزق اللبناني الراهن، في ظل انغلاق قوى منظومة السلطة ورفضها تحمّل مسؤولياتها حيال ما تسببت به من أزمات، وبصرف النظر عن التوصيفات التي تدعيها لنفسها، أو ما تطرحه من آراء أو اقتراحات. من الواضح أن مهمة الموفد الفرنسي مرشحة للتمديد إلى أمد طويل. لأن احتمالات التوصل إلى مخرج أو تسوية ما للأزمة  ولمسألة الشغور الرئاسي، هي أمر عسير وشديد التعقيد والصعوبة، ويتجاوز مسألة الفراغ الرئاسي خلافاً لظنون وأوهام الكثير من اللبنانيين. ما يعني أن ساحة منظومة قوى السلطة ستبقى محكومة بجولات من التهدئة والتصعيد فيما بينها.

في المقابل فإن أكثر قوى المعارضة من أحزاب ومجموعات ونواب، لا تزال  اسيرة الاستخفاف بتحديات الانقسام الاهلي، المفتوح دوماُ على استمرار الفوضى وتجدد النزاعات والحروب الاهلية. فيما هي تتنازع الاوهام والهروب من المواجهة عبر الالتحاق واستسهال محاصرة المشاريع الطائفية بمثيلاتها، وقد فاتها أنها ردائف متشابهة لا يمكن مواجهتها، إلا بما هو نقيض لها. وهو المشروع الذي ما زال مفقوداً ويبحث عمن يضطلع بمهام صياغة رؤاه وتوجهاته، وبناء قاعدته الاجتماعية وفق معادلة صعبة جداً لكنها ليست مستحيلة.

وإلى أن ينجلي غبار حركة الموفد الفرنسي، تتجدد انتظارات اللبنانيين وانشغالاتهم بمتابعة أخباره، ومعها سيل التحليلات والاستنتاجات التي تعبر عن أهواء ورغبات اصحابها. في موازاة اضطرارهم لإيجاد ما يستطيعون من مخارج ممكنة للتعايش مع مضاعفات الانهيار الاقتصادي والمالي الذي تخفف من وطأته مؤقتاً أموال موسم الاصطياف، في ظل الاقامة الدائمة وسط القلق الدائم من المفاجآت وخطر اقدام بعض أطراف السلطة على خوض المغامرات الانتحارية التي تساهم في تعميق أزمات البلد ودفعه نحو المجهول.

Leave a Comment