كتب أحمد مغربي
الأرجح أن العالم يعيش انتقالاً يسير به إلى ابتكار نظام عالمي متعدد وهجين. ربما إنه آخذ في التبلوّر بالتدريج من آليات النظام الدولي المتعدد الأطراف الذي امتد بصيغ متنوعة من الحرب العالمية الثانية إلى نهاية رئاسة دونالد ترمب واندلاع جائحة كورونا، واقتراب “الثورة الصناعية الرابعة” عبر اندفاعة مذهلة في ثورة المعلوماتية والاتصالات والذكاء الاصطناعي وعلوم الجينوم والنانوتكنولوجيا.
هل من المبالغة القول إن التحوّل الأوضح [لا يعني ذلك سوى أنه نتيجة مسار تفاعل بين عوامل متشابكة ومتفاعلة] اندفع من صناديق الاقتراع الأميركية، في ظل جائحة كورونا، وبروز انقسام حاد في الداخل الأميركي للمرة الأولى في تاريخها الحديث كقوة عالمية، والمآزق المتنوعة في النظام الدولي لما بعد العولمة [خصوصاً ما سُمّي “الليبرالية القومية” التي قادها ترمب]؟
لعل المبالغة تبدو أقل في عين من يستمر في مراقبة المتغيّرات في العلاقة بين أقطاب النظام الدولي بعد انتخاب جو بايدن. الأرجح أنه من المستطاع البدء من المتغيّر الأميركي الداخلي مع خطة بايدن التريليونية في التعافي الاقتصادي [ بعد كورونا والأزمة المالية 2008] التي تسعى إلى التركيز على إعادة إحياء الطبقة الوسطى، وتقليص الفجوة الاجتماعية في المداخيل وبين الأعراق، والتعامل مع ظاهرة التمركز الفائق للثروة في يد قلّة تقدر بالـ1%، والعودة إلى التوظيف في البنية التحتية وغيرها.
وقد يندرج في الإطار نفسه، ذلك المتغيّر الفائق الوضوح المتمثّل في إعادة موضعة القوة العظمى ضمن قيادة العالم الغربي، ما يعني تجديد النظام الدولي المتعدد الأطراف، ولَجْم مسار المحاولة الأميركية في تفكيك الاتحاد الأوروبي. والتركيز على المنافسة في التعامل مع روسيا والصين التي اُعتُبِرت المنافس الأول عالمياً لأميركا مِنْ قِبَلْ ترمب وبايدن.
وتشمل ملامح المتغيّرات في النظام الدولي، حدوث تبدل في العلاقة مع أوروبا عبر تغيّر جذري في الموقف الأميركي من مشروع “نورد ستريم 02” في نقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى ألمانيا تحت مياه بحر البلطيق [ تذكيراً، لقد فرض ترمب رسوماً عقابية متنوعة لمنع المشروع، وألغاها بايدن]، إضافة إلى إلغاء الرسوم الجمركية العقابية “المتبادلة” على الألمونيوم والحديد والصلب وغيرها.
في السياق نفسه، الأرجح أن هنالك أشياء كثيرة يمكن أن ترد في وضع بريطانيا ضمن النظام الدولي الجديد، بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي عِبْرَ “بريكست”، ما شكّل آنذاك أحد أبرز نجاحات ترمب في محاولة تفكيك الاتحاد الأوروبي. ولعله جدير بالتأمل أن بريطانيا تحاول التقرّب من “الشرق”، بمعنى محاولة تعويض الخروج من الاتحاد الأوروبي بعلاقات مع الهند واليابان وأستراليا و… الصين. أليس ملفتاً أن تتقدم بريطانيا رسمياً بطلب الانضمام الى تكتل اقتصادي لدول في المحيط الهادئ، على الرغم من أن ذلك التكتل يوصف على نطاق واسع بأنه يسير تحت قيادة الصين، أو على الأقل، بدفع من القوة الاقتصادية الاستراتيجية للصين؟
الانقسام الأميركي في مشهدية تاريخية
في سياق التبدّلات الكبيرة، يبرز الشروع فعلياً وعملانياً في صوغ مشاركة أميركية أوروبية، خصوصاً فرنسية، في أفريقيا التي تتجه صوب أن تكون منطقة استراتيجية متقدمة في عمل قوى الإسلاموية المسلحة. إضافة إلى مسارات داخلية وخارجية متشابكة، لعل أبرز مظاهرها ضعضعة “الدولة” فيها. واستكمالاً، ثمة تبدل في موقف القطب الأبرز في النظام الدولي [= أميركا]، من قوى اقليمية كإيران وتركيا. ولعل الانسحاب التاريخي للقوات الأميركية من أفغانستان، يقدم مساحة يمكن التأمل في متغيّرات النظام الدولي وتبدله، بل تبلور تدريجي لنظام دولي جديد وهجين [ بمعنى انه يضم مكونات ليبرالية وغير ليبرالية وديمقراطية وغير ديمقراطية، ما يفرض أيضاً التأمل في إمكانية تجديد تعريف الديمقراطية وعلاقتها مع الليبرالية].
وفي سياق مؤثر، للمرّة الأولى تصل أميركا إلى انقسام سياسي يهدد نسيجها الوطني، مع مشهدية مماثلة بدرجات متفاوتة في دول الاتحاد الأوروبي، ما يشي بأن المعطى الداخلي في المعادلة بين الدولة والشعوب، بات يصنع آليات نوعية جديدة في النظام الدولي. [ تذكير بأن النظام الدولي تصنع آلياته الأساسية الدول الكبرى]. والأرجح إن ذلك المعطى متفاعل مع بروز دور اللاعبين غير الدُوَلاتيين، أي خارج مؤسسة الدولة، من الشعبوية القوموية العنصرية في الغرب، إلى الإرهاب الإسلاموي والمجموعات المسلحة المشابهة، ومروراً بحركات شبابية بلمسة يسارية مناهضة للعنصرية، وتؤيد البيئة وحقوق الشعوب والعدالة في النظام الدولي.
إذاً، فالأرجح أن تعزز جائحة كورونا تأثير عنصري المعطى الداخلي للدول واللاعبين من خارج الدول. ومع ملاحظة أن هذين العنصرين يتفاعلان في نظام هجين متعدد، فقد يؤدي ذلك إلى توسّع هوامش التحرك الاستراتيجي للقوى الإقليمية، وتعزيز تأثير الآليات الداخلية [ واللاعبين غير الدُوَلاتيين] في دول المركز والأطراف معاً!
لقد وضعت جائحة كورونا النظام العالمي على محك تاريخي ما زال في بداياته. وكشفت التفاوتات المتعددة والعميقة فيه، سواء داخل الدول أو بينها، والوهن في آليات النظام الدولي المتعدد الأطراف [ من “حرب الكمامات” إلى “حرب اللقاح” وحِزم دعم الاقتصاد] مع ضرورة إعادة صياغته نوعياً. وكذلك عمّقت الجائحة التغيير في أسس المعادلة بين النظم والشعوب، وقد تسهم متغيّراتها في تمهيد صعود الطبقة الوسطى في أميركا والغرب.
وكذلك تقدم الهند والبرازيل [ سادس وثامن الاقتصادات العالمية على التوالي] نموذجاً عن المأزق النوعي للتنمية ضمن نمط رأسمالي متفاوت التقدم في الحداثة، لكنه متمحور حول نُخُب معولمة وفاعلة. وقد يستطيع ذلك النموذج تحقيق إنجازات كبرى، لكن إخفاقه في حل معضلة التفاوتات الداخلية المتنوعة، يهدد انجازاته تماماً. وليس مصادفة أن يجري الحديث أميركياً عن تجديد “العقد الجديد” الذي تحققق بعد الحرب العالمية الثانية [ وسارت بعده أميركا في نظام ميّال إلى الكينزية في الاقتصاد]، وإعادة أحياء الطبقة الوسطى بأمديتها العريضة، والتوسع في توظيف القوى العاملة وزيادة نصيبها في الانتاج. وتبدو إدارة بايدن كأنها تعبّر عن ميل إلى تجديد “العقد الاجتماعي” [ خصوصاً مع أخذ معطيات أبرزتها جائحة كورونا] يشدد على إعادة بناء الطبقة الوسطى، ما يقربها من محاولة صوغ نوع من “الكينزية الجديدة” أيضاً.
لننظر إلى الأرقام والأموال
الأرجح أن أميركا ستبقى الدولة العظمى الوحيدة والقطب الأول في النظام العالمي المتعدد الهجين الصاعد. وقد يستمر ذلك على الرغم من تآكل حصتها من الاقتصاد العالمي. إذ شكّلت أميركا نصف الاقتصاد العالمي عند نهاية الحرب العالمية الثانية، وهبطت النسبة إلى 25% عند نهاية “الحرب الباردة”، وتتأرجح الآن عند قرابة 16%. وقد تتغيّر الأرقام كثيراً مع الانتعاش الاقتصادي العالمي المتوقع بعد كورونا بفعل أشياء من ضمنها حِزم الدعم والموازنات الغربية التريليونية، والارتباط بين الخروج من الجائحة والتعافي الاقتصادي، واستمرار الاقتصاد الصيني في النمو أثناء الجائحة، والتأثير الذي لا زال غير ثابت للعملات المشفرة والرقمية.
وفي المقابل، لعل التمركز الهائل [المتناقض النتائج] لرأس المال المالي، وهو ظاهرة تاريخية أيضاً، يحفظ لأميركا أرجحية ضخمة واستمرارية إمساكها بزمام القيادة في الاقتصاد العالمي. وفي ظل ما سُمّي “الليبرالية القومية” في زمن ترمب، بدت أميركا مختلة التوازن أمام جائحة كورونا. وفي المقابل، الأرجح أنها أثبتت أيضاً أنها تمتلك مرونة مذهلة، إذ برز تقدمها العلمي المسنود ببنى منسجمة متنوعة، خصوصاً مع سرعة نشر اللقاح، واقترابها السريع من الخروج من الجائحة.
وكذلك ترافقت جائحة كورونا مع تبدّلات كبرى ومتشابكة في الاقتصادات العالمية، خصوصاً حدوث تقلص شديد وسريع في النشاط الاقتصادي والدخل القومي [ركود شامل وحاد، لم يسجل نظيره في معظم الاقتصادات الكبرى منذ عقود ثلاثينيات القرن العشرين، بل ربما منذ ثلاثة قرون]، بالترافق مع بطالة واسعة وسريعة، وكساد هائل متأتٍ من تقلص حاد وواسع في الاستهلاك.
واستطراداً، دفعت تلك المتغيرات وغيرها، الاقتصادات الرأسمالية الكبرى إلى عمليات اقتراض حكومي قياسية ضخّمت الميزانيات الحكومية، على العكس من مساراتها منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين. وترافق ذلك أيضاً مع التشديد على القطاع العام وأشكال الملكية والضمان التي تصاحبة، إضافة إلى توضّح أهميته في الرعاية الصحية وغيرها. وفي استنتاج مبكر تماماً، قد تغيّر تلك المعطيات وتفاعلاتها أنماط الاستهلاك والانتاج، والعلاقة بين السلع والبشر في الاقتصاد وكذلك عقود العمل، بل ربما مجمل علاقة قوى العمل بالاقتصاد.
وبعبارة اخرى، قد يتشكّل مسار أساسي قوامه عودة تاريخية للطبقة الوسطى في الغرب [بعد تآكلها منذ صعود النيوليبرالية في زمن رونالد ريغان ومارغريت تاتشر]، مع تأثيرات واسعة وعميقة تتجاوز السياسة والاقتصاد معاً، ما يشكّل مؤشراً حاسماً يجدر تتبعه في مسار النظام المتعدد الهجين.
ربما يجدر أيضاً تذكر أن الوضع الراهن استراتيجياً يتضمن أيضاً وجود 3 كتل اقتصادية تمسك بـ80% من الاقتصاد العالمي، محور كل منها قطب في النظام الدولي المتعدد الهجين، هي كتل أميركا [خصوصاً بالامتداد القاري الجنوبي والشمالي]، والصين مع 13 دولة في “سوق التجارة الحرة التقدمي الشامل”، والاتحاد الأوروبي. وهناك 03 دول خارج الكتل الثلاثة، روسيا وبريطانيا والهند. وسيكون تفاعل كل منها مع الكتل الثلاثة حاسماً استراتيجياً، بما في ذلك مجالات الطاقة والبيئة والتكنولوجيا المتعلقة بالثورة الصناعية الرابعة.
الصين وأميركا: ليست ثنائية قطبية لكنها تنتظر روسيا
في منحىً متصل، ربما يتوجّب التنبّه إلى محورية التجاذب الثنائي بين أميركا والصين في النظام الهجين، لكن ذلك لا يجعله ثنائياً على غرار الثنائية القطبية بعد الحرب العالمية الثانية. إذ يشهد النظام المتعدد الهجين صعوداً للقطب الأوروبي يستدعي انتباهاً خاصاً، بما في ذلك تصاعد التصرف المستقل و”الحيادي” الاستراتيجي لأوروبا، خصوصاً حيال الحليف الأميركي المتقدم في معطيات القوة الاستراتيجية ومكوناتها. وتعطي القمة الثلاثية في تموز (يوليو) 2021 بين فرنسا وألمانيا والصين، نموذجاً عن مسألة التصرف المستقل. ويقود ذلك مباشرة إلى روسيا التي قد لا تكون مجازفة الإشارة إلى أنها تمسك ببيضة الميزان في تشكّل النظام المتعدد الهجين برمته، أكثر من الدول كلها. وبذا، يجدر التركيز خصوصاً على العلاقات بين أوروبا وروسيا باعتبارها نقطة التوازن والحسم، وتظهر أميركا والصين في خلفية ذلك التجاذب.
إلى حد كبير، قد يعتمد مسار تبلور النظام الهجين على مسار تلك العلاقات المتشابكة. ومثلاً، في أحد طرفي الطيف، قد تتقارب روسيا وأوروبا. ولعل ذلك يعني ذلك بلورة سريعة تماماً للقطب الأوروبي في النظام الهجين، خصوصاً بلورة الذراع العسكرية والنووية [وتذكيراً، الفضائية والرقمية في الفضاء السيبراني]، إضافة إلى نوع من “موازنة” خروج بريطانيا كقوة استراتيجية. وربما يعتمد الشيء الكثير على تصرّف أميركا حيال روسيا، بمعنى وجود مصلحة أطلسية مشتركة في ألا تُلقي روسيا بثقلها على الأمن الأوروبي، وكذلك في اجتذاب روسيا خارج أفق “الأوراسية” مع الصين. ثمة مشروع “أوراسي” آخر، يعتمد أساساً على تفاعل إيجابي استراتيجي بين أوروبا وروسيا، ويشمل دوائرهما في النفوذ، خصوصاً البحر المتوسط والشرق الأوسط.
وهنالك مساحة رمادية في تصرّف أميركا إذا تزايد اقتراب روسيا من أوروبا إلى درجة قد يتشكّل معها ما هو أكثر من منظومة توازن قوى قاري وعالمي. كيف ستنظر أميركا إلى تقارب روسي أوروبي يحمل إمكانية زيادة استقلال أوروبا استراتيجياً عنها؟
وفي الطرف الآخر من مروحة الطيف نفسه، ربما تنحو الصين صوب نسج تحالف مع روسيا [بمعنى التحالف المرن الذي يستمر طالما تناقضاته الداخلية أقل من الخطر الخارجي على أطرافه]، ضمن مسارها الاستراتيجي الذي لا يقتصر على المشروع العملاق “حزام وطريق” الذي ترصد له عشرة تريليونات دولار في أضخم مشروع بشري حتى بالمقارنة مع بناء الأهرامات. في تلك الحالة، ربما تحصل ولادة متعرجة لمشروع أوراسي صيني- روسي، يرسم صورة مغايرة في مسار النظام الدولي الهجين.
واستطراداً، ستكون علاقة ذلك المحور الأوراسي مع بريطانيا، عنصراً أساسياً في مصير أوروبا كله، وكذلك مسارها كوزن دولي متحالف مع أميركا في حلف الناتو وغيره. هل يخلو من الدلالة أن بريطانيا تقدّمت بطلب الانضمام إلى اتفاق “سوق التجارة الحرة التقدمي الشامل” المتمحور حول الصين؟
تذكيراً، لعل أول قفزة نوعية في التحقّق الاستراتيجي لمشروع “حزام وطريق” حدثت في 2017، مع وصول أول قطار انطلق من الصين ليصل إلى لندن في ظل حكومة محافظين قادتها تريزا ماي. وربما في السياق نفسه، يظهر أن أول اتفاق اقتصادي بارز عقدته بريطانيا بعد بريكست، جاء مع اليابان. وثمة تناقضات هائلة بين الصين واليابان تشمل تنافسهما طويلاً على المركز الثاني في الاقتصاد العالمي، إضافة إلى تراكمات تاريخية سلبية، لكن يقابل ذلك كله علاقة اقتصادية متصاعدة عبر اتفاق “سوق التجارة الحرة التقدمي الشامل” الذي يشملها [اليابان] مع الصين و12 دولة في المحيط الهادئ. وكذلك جاءت الخطوة البريطانية الثانية باتجاه الهند [التي خرجت في اللحظة الأخيرة من اتفاق “السوق الحرة…”]، محمولة على صهوة “حرب اللقاحات”، مع سماح بريطاني مُبَكّر بإنتاج لقاح “آسترازينيكا” في الهند التي تمثّل الصانع الأول للقاحات [غير كورونا] عالمياً. وتشكل الهند طرفاً في رباعية “عمالقة آسيا”، مع الصين واليابان وروسيا.
وفي ملمح متصل، بات الوزن الدولي للهـند معلقاً على طريقة تعاملها مع جائحة كورونا التي صدَّعت أسس بنياتها الداخلية، وكشفت خلل نموذج التنمية فيها، على الرغم من ضخامة إنجازاته التي جعلتها سادس اقتصاد عالمي مع بنية علمية وتكنولوجية قوية. قد تعتمد أشياء كثيرة في الهند، بما في ذلك وزنها الدولي، على مسار التفاعلات العميقة لانكشافاتها أمام جائحة كورونا.
أفغانستان نموذجاً عن “اللاعبين غير الدوُلاتيين”
لعله من الصعب اختتام مقدمة عن النظام الدولي الهجين من دون الإشارة إلى اللاعبين غير الدُولاتيين [= من خارج الدولة كمؤسسة تاريخية]، خصوصاً الإسلاموية والتنظيمات الإرهابية المتصلة بها. لعله ضروري تذكر أن ثمة تراخٍ تاريخي في معظم العالم الثالث [وخارجه أيضاً؟] للدولة كمؤسسة تاريخية. وفي المقابل، أسهمت العولمة في صعود قدرات اللاعبين غير الدوُلاتيين. ماذا لو ارتطم هذان المتغيران؟ ربما يفيد النظر إلى أفغانستان في رصد ملامح الإجابة. ماذا لو تمكنت “حركة طالبان” من تحقيق حلمها التاريخي، بل ربما سبب وجودها الأصلي، بأن تنهي حروب أفغانستان الداخلية وتفرض سيطرتها الكاملة على ذلك البلد؟ ماذا حينما يتحوّل لاعب غير دوُلاتي إلى نظام دولة، خصوصاً في منطقة فائقة التشابك لأنها تقع على خط الحرير القديم ومسار “حزام وطريق” وتتصل بالدول المحيطة ببحر قزوين التي يتصاعد دورها مع صعود دور الغاز في مشهدية الطاقة التاريخي وحلوله بديلاً للبترول؟ إذا لم تكفِ تلك التشابكات، فمن الممكن أن يُضاف إليها ذلك التفاعل المعقد بين أولئك اللاعبين كلهم من جهة، وأقطاب النظام الدولي [واستطراداً، بعض الأطراف الفاعلة في منظومات توازن القوى الإقليمية]، الذي يمتد من استمرار ما يشبه قوة الدفع الذاتي لـ”الحرب على الإرهاب”، ويمر بالتقلبات في مسارات “القاعدة” و”داعش”، ولا ينتهي عند تيارات العنصرية والتفوق العرقي واليمين الشعبوي [مسنوداً بمقولات الليبرالية القومية ومآزق مشروع الديمقراطية والحداثة وما بعدها]. ولعل مشهد اجتياح مبنى الكابيتول [مقر الكونغرس] في 6 كانون ثاني (يناير) 2021، تعبير كثيف عنها، وليس صدفة رواج تشبيهه بهجمات الإرهاب الإسلاموي في 11/9!
ويضاف إلى ذلك، أن تلك المشهدية الفريدة من نوعها في تاريخ القطب الأول للنظام الدولي، أبرزت انقساماً بات معلناً، في النسيج الوطني الأميركي، للمرّة الأولى منذ قرابة 145 سنة.
في المقابل، ثمة تيار عميق يتفاعل في عمق المعادلة بين الشعوب ومؤسسة الدولة [خصوصاً في الغرب] مسنوداً بزيادة قوة الأفراد والمجموعات، وزيادة الميل إلى اليسار في أميركا مع بروز قوى مناهضة العنصرية [“أنتيفا” مثلاً، ومعنى إسمها هو “ضد العنصرية”]، والدفع نحو اقتصاد اجتماعي والتشديد على التصدي للامساواة في المداخيل [خصوصاً بفعل تضخم رأس المال المالي] التي ترافقت مع تآكل تدريجي وتاريخي للطبقة الوسطى، وارتفاع نبرة الفكر الإنساني في الفضاء العام، خصوصاً في مساحتي المناخ والجائحة. وهنالك مسارات مماثلة في الغرب عموماً. ربما أسهمت “الأنفلونزا الإسبانية” في عشرينيات القرن العشرين في تعزيز الميول النازية، فهل تكرر جائحة كورونا ذلك أم تسير على النقيض فتدفع صوب فكر إنساني بتلاوين النهضة والتنوير، بل ربما تعزيز بداية عصر شعوب جديد؟
*يمكنك الاطلاع على مادة الدكتور احمد مغربي كاملة في قسم “صحف وأراء”
Leave a Comment