ثقافة

نوال السعداوي تكتب على حد النصل بين الثوريّة والشوفينيّة

عائدة خداج أبو فراج

       إن الاهتمام بقضيّة المرأة والدفاع عن حقوقها وحريّتها هو جزء لا يتجزأ من الاهتمام بالإنسان المستَلب الإرادة والحقوق والكرامة الإنسانيّة. وهي قضيّة مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالقضايا الاجتماعيّة – الاقتصاديّة والعقائديّة قبل أن تكون قضيّة محض جنسيّة، كما تصورها أحياناً الدكتورة نوال السعداوي. إذ لا يجوز موضَعَة الرجل والمرأة في خندقين متناقضين وكأنهما في ساحة مواجهة، لأن العلاقة بين الجنسين هي علاقة تكامل وحاجة إنسانيّة واجتماعيّة وجنسيّة، وليست علاقة تنافٍ أو تفاضل.

        ولكن ومنذ قديم العصور، والمرأة توضع في خانة التبعيّة والدونيّة والخضوع والعبوديّة. وفي هذا السياق، يأتي القول “الرجل رأس المرأة” الذي ساد في أثينا سقراط وأفلاطون وأرسطو، وذلك على قاعدة ثنائيّة المالك والمملوك، السيّد والعبد، وثنائيّة الرجل –  العقل والمرأة الجسد، ليجتث رأس المرأة، وتصبح معه جسداً بلا عقل ولا روح. وقد رسّخ أفلاطون هذه المقولة حين شكر ربّه على ثلاث: “لأنه خلقه يونانيّاً وليس بربريّاً، حراً وليس عبداً، رجلاً وليس امرأة”، واضغاً بذلك المرأة في خانة العبيد.

        وكما اجتثت الفلسفة اليونانيّة رأس المرأة، كذلك فعل الدين. فقد وضعت الرواية الثوراتيّة المرأة في فقص الاِتهام، وجرى تأثيمها وتحميلها تبعيّة طرد آدم من الجنّة، وحرمان الجنس البشري من الخلود.

        وفي القرآن آيات تتميّز ببعدها الإنسان الرائع، ومنها: “ومن آياته أن خلق لكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة”، وآيات تمجّد الأمهات وتضع الجنة تحت أقدامهن، ولكن في الوقت ذاته يجعل القرآن الرجال قوَّامين على النساء. هذا ما جعل رجال الدين ينتجون ثقافة دينيّة تزمتيّه جعلت المرأة مصدر الغواية، والخطيئة، والفساد، والشرور. فالمرأة عورة، وهي خلقت أصلاً لإمتاع الرجل، يمتلكها كما يمتلك السيّد العبد.

        هذا الموروث العدائي ضد المرأة  هو الذي أثار حفيظة الدكتورة والأديبة والباحثة نوال السعداوي التي أعلنت الحرب على الظلم والتمييز على قاعدة الجنس، مرمزاً إليه بالرجل – الذكر والسلطة والدين. فحاولت هدم هذه الموروثات لتبني “مجتمعاً أفضل، وأسرة أفضل، وحياة أكثر سعادة وعدالة وحباً”، كما تقول في كتابها” الرجل والجنس”، ولكي تُخرج المرأة إلى رحاب هذا العالم الفسيح، بعدما كانت مصادرة في “العش الزوجي”، يقتصر دورها “على احتضان البيض ورعاية الفراخ”.

تشكلت شخصيّة نوال السعداوي من أربعة مكونات جوهريّة، طبعت حياتها وإنتاجها الفكري والأدبي:

أولها، المكوّن الديني المتزمت. لقد نشأت السعداوي في مجتمع مصري، شأنه شأن الأمصار والمجتمعات العربيّة كافة، يتجذر الدين في وعيّه الظاهر والباطن ومنذ القدم، ما جعل كبير المؤرخين اليونانيين هيرودوتس يصف الشعب المصري بـ “شعب خائفي اللـه”. ومصر هي مهد التوحيد الأخناتوني؛ ومنها خرج موسى؛ ومصر تلقفت الإسلام واعتنقته بسرعة هائلة، بينما كانت عصيّة على الهيلنة والرومنة؛ وفي القاهرة الفاطميّة شُيِّد الأزهر؛ ومنها انطلقت حركة الإخوان المسلمين السلفيّة التي أطلقت إيديولوجيّة الإسلام المخلِّص. وهذا ما ثارت عليه السعداوي.

أما المكوّن الثاني، فهو ثورة 23 يوليو 1952، التي شكلت وعي نوال السعداوي الاجتماعي والسياسي والثوري، فكانت واحدة من جمهرة الكتاب والمفكرين الذين وُلدوا من رحم الثورة. فهبّت السعداوي تدافع عن الفقراء والفلاحين والريفيين، وكرست نفسها طبيبة تبلسم جراحهم وتداوي آلامهم.

أما المكوّن الثالث، فكان هزيمة عام 1967 المخزية والمُذلّة التي أحبطت الآمال وزعزعت الأنظمة العربيّة المتخاذلة التي أفلست وفشلت على المستوى الوطني اقتصادياً واجتماعيّاً وتربوياًّ وسياسيّاً، ومهدت لنشوء حركات أصوليّة وتسرب الفكر السلفي والرجوعي الذي يستحضر الماضي ويفرضه على الحاضر والمستقبل، وكونت مجتمعات عربية “تجثم فيها الأموات على الأحياء”.

ولكن على الضفة المشرقة المقابلة، تكوّن تيار فكري تقدمي ناقم على الأنظمة العربية الدكتاتوريّة الفاشلة كافة. وشكّل منظومة فكريّة جديدة تهدف إلى التحديث والتغيير على قاعدة المساواة والعدالة الاجتماعية، والتي أعطت قضيّة المرأة بُعدها الإنساني، واعتبرت أن لا حريّة مجتمعيّة دون حريّة المرأة. وعلى خلفية هذه المنظومة، استعادت قضيّة المرأة زخمها كما كانت أيام الليبراليين والإصلاحيين. ورفعت نوال السعداوي الصوت عالياً للتصدي للفكر السلفي السائد والمعيق لحريّة المرأة، وتعرضت بالنقد للنصوص الدينيّة المجحفة، وللأخلاق الجنسيّة السائدة.

أما المكوّن الرابع لبُنية نوال السعداوي الفكرية، فهو تأثرها بالفكر الغربي والحركة الشوفينيّة النسويّة التي اجتاحت أوروبا في ستينيات القرن العشرين، وعلى رأسها الكاتبة الوجوديّة سيمون دي بوفوار صديقة جان بول سارتر. لقد شكّل كتاب دي بوفوار “الجنس الثاني” اللَبِنَة الأساس في فكر نوال السعداوي التي وصفت بـ “سيمون دي بوفوار العرب”.

تتصارع في كتابات نوال السعداوي رياح الثقافة الشرقيّة ورياح الثقافة الغربيّة، فأصابها ما أصاب الكتّاب الليبراليين والإصلاحيين الذين عادوا من بعثات محمد علي إلى الغرب وخاصة فرنسا، مثقلين بالفكر التنويري ومبادئ الثورة  الفرنسيّة، واضعين قضيّة تحرر المرأة على سلَم أولوياتهم. فيقول سلامة موسى، واضعاً حريّة المرأة في مصاف الكرامة الوطنيّة، “إن حريّة المرأة في أوروبا الغربيّة كانت لهباً يلسعني ويجرحني في كرامتي الوطنيّة كلما تذكرت حالة المرأة المصريّة – وإلى هذا الوجدان تعود ثورتي على التقاليد المصريّة”. أما رفاعة الطهطاوي فهو “أول داعية في الشرق لتعليم المرأة”، ومساواتها بالرجل لأنها تملك ما يملكه من ملكات الحس والعقل والشعور. ونادى بالعلم مقروناً بالعمل، لأن العلم يصون المرأة ويقربها  من الفضيلة. وشكّل طه حسين أول صرخة مدوية ضد جرائم الشرف في روايته “دعاء الكروان”، وهو أول من فتح أبواب الجامعة أمام الفتيات متحدياً كل القوى الرجعيّة السائدة منذ دهور. وجاء قاسم أمين ليجعل التربية والتعليم حبل الخلاص للمرأة وطريق الحريّة الذي لا بديل سواه. وانضم إلى هذا الرعيل الإصلاحيون الكبار أمثال محمد عبده ورشيد رضا والأفغاني وغيرهم من الإصلاحيين الدينيين.

أما التيار الليبرالي الذي أراد اعتماد العقل دون الدين، أمثال سلامة موسى، وفرح انطون وشبلي الشميّل وغيرهم، فقد غالوا  وتمادوا في غربنة المرأة العربيّة والمصريّة تحديداً، وأرادوا نقلها إلى حضانة الغرب الفكريّة والمسلكيّة، راسمين للمرأة طريقين لا ثالث لهما: طريق العلم وطريق العمل.

إلى هذا السرب من المفكرين والكتّاب الليبراليين تنتمي نوال السعداوي، ولكنها تجاوزتهم إلى حد كبير بمغالاتها في طرح موضوع تحرر المرأة الجنسي الذي اعتبرته الحجر الأساس في تحرر المرأة، ومدخلاً لتحررها من جميع المعوقات.

صدر لنوال السعداوي أكثر من أربعين مؤلفاً، وتُرجم بعضها إلى ما يقارب العشرين لغة. وتصادمت أفكارها الثوريّة بالمجتمع وثوابته الأخلاقيّة، والعقائديّة الدينيّة، والطقوس والأعراف الإجتماعيّة، والقوانين المجحفة التي سلبت المرأة إنسانيّتها وأقصتها عن الحياة العامة الفاعلة. ولم يشهد المسرح الأدبي والفكري الليبرالي وأدب الرائدات في الحركة النسويّة شخصيّة أكثر جرأة وأشد جسارة وأعنف مواجهة من السعداوي، التي قلبت كل المفاهيم والقيم المعلبة والتابوات الجنسيّة. وقد أثارت مواقف السعداوي العدائيّة من السلطة والدين والذكوريّة. وأمر الرئيس أنور السادات بسجنها، وحاول الرئيس حسني مبارك إسكاتها، وقرر الأزهر منع كتبها خاصة بعد صدور كتابها “سقوط الإمام”. ولكن لم تستطع هذه القوى مجتمعة إسكات السعداوي التي صرّحت بعد خروجها من السجن أنها “تشهد ميلاداً جديداً”. وجاء كتابها “مذكراتي في سجن النساء” (1986) ثمرة هذا الاضطهاد، متحديّة الجميع بالقول: “مدح مؤلفاتي لا يعنيني، إنتقدوني”.

لقد شغل نوال السعداوي هاجس الختان والاغتصاب الذي يسكن بطلات رواياتها. ويتحول الختان إلى عُقدة تفصل المرأة عن كل شعور طبيعي، فتنتفي العلاقة الجنسيّة السليمة. فالبطلة المختونة جسديّاً ونفسيّاً تبحث عن جسدها المسروق، وتسأل: “لماذا لا أحس… أريد أن أحس”. ويحوّل الختان المرأة إلى “أداة لا توجد لذاتها وإنما للآخر الذي يكرسها لإمتاعه. ويقوم المجتمع الأبوي بختنها جسديّاً ونفسيّاً، ويحولها إلى موضوع ممتع ولا يتمتع، يستجيب ولا يتجاوب، يتلقى ولا يبادر”.

وفي رواية “أغنية الأطفال الدائريّة” يتبدى هاجس الاغتصاب بأبشع صورة. فتهاجم السعداوي الرجل المفترس، وتنعته بالفسق وانتهاك المحرمات. وتصف تعرض “حميدة” للاغتصاب بالقول: “يد كبيرة مفلطحة سدّت فمها وأنفها، فاختنقت، وأدركت أنها لا تحلم، وأن جسداً كبيراً له رائحة التبغ  ملاصق لجسدها، كانت عيناها مغمضتين، لكنها استطاعت أن ترى ملامح الوجه وتدرك أنها تشبه ملامح أبيها، أو أخيها، أو عمّها، أو خالها، أو ابن خالها أو أي رجل آخر”. وهنا يبدو التنميط الذكوري في أوجه عند نوال السعداوي.

وفي كتابها “مذكرات طبيبة” تعلن السعداوي أنها كرهت أنوثتها التي حولتها إلى سجينة جسد أنثوي تحاول تغييره فلا تستطيع. وقد تمنت أن تجتث نهديها بسكين حاد لأنهما يحددان مستقبلها ومصيرها المحتم كزوجة، عليها أن تخدم زوجها بكل السبل. تنكمش الفتاة الصغيرة داخل شرنقة الذات بعدما حاول البواب اغتصابها، وتتولد لديها عقدة الذكور الذين لا يرون فيها سوى جسد يسعون إليه بشتى الوسائل.

وفي هذا السياق، تحضرنا صرخة بطلة رواية منى جبّور “فتاة تافهة” (1962) التي ترفض أنوثتها وهويّتها الجنسيّة وتقول: “كلا، لن أصبح امرأة، صرخت. لن أصبح امرأة… مستحيل أن تتخذ مني لذة، فأنا لست امرأة، أنا كيان”.

وتحمل نوال السعداوي مبضعها الطبي في عمليّة تشريحيّة للأنثى وللرجل على حد سواء، وعلى قاعدة الجنس. فجاء ثالوثها “المرأة والجنس” (1969)، و”الأنثى هي الأصل” (1971)، و”الرجل والجنس” (1976) التجسيد الكلامي والروائي لهذه العمليّة التشريحيّة، والذي تميّز بلغة علميّة، تخصيصيّة وواقعيّة بعيدة كل البعد عن الإنشائيّة، تحاكى اللغة العاميّة أكثر منها الفصحي.

جاء كتاب السعداوي “المرأة والجنس” صادماً، جاهراً العصيان ضد المجتمع الذكوري، مما أثار حفيظة السلطة ورجال الدين والمجتمع. وجاءت أفكارها مثيرة للجدل، فانقسم الناس بين مؤيد ورافض لآرائها.

لقد قلب هذا الكتاب المقاييس والثوابت العقائديّة، وأضاء على معاناة المرأة، ونادى بتحررها الجنسي والاجتماعي والفكري، وانتشر بشكل مذهل بين الفئة الشبابيّة، شأنه شأن كتاب سيمون دي بوفوار “الجنس الثاني”. وقد اتصف الكتاب بالواقعيّة والصدق، فنقلت الكاتبة مشاهداتها كطبيبة من أرض الواقع إلى لغة تناشد الضمائر، لإنقاذ المرأة مما تعانيه من جهل وتجهيل، واستعباد وإذلال. وهو أول كتاب في العالم العربي يتطرق إلى موضوع الجنس عند المرأة بعلمانيّة مفرطة، وواقعيّة جارحة، ومنحى ثوري ضد الختان والاغتصاب وجرائم الشرف.

أما كتاب السعداوي “الأنثى هي الأصل” فجاء مماثلاً لكتاب سيمون دي بوفوار “الجنس الثاني”، بشوفينيّتة النسويّة وتعصبه الفاقع ضد الرجل. فينقسم المجتمع عامودياً على أساس الجنس، يضع التنافي مكان التكامل، ويتحول الكتاب، كما في معظم كتاباتها، ساحة مواجهة بين النساء والرجال، أي بين العبد وسيّده. وينشطر النوع الإنساني إلى نوعين وليس إلى جنسين: “نوع إنساني هو المرأة، ونوع آخر ذكري يتم تجريده من كل الصفات الإنسانيّة”. فالأنثى هي الأصل، تتفوق على الرجل جسديّاً ونفسيّاً. لكن الكتاب، خلافاً لكتاب السعداوي المرأة والجنس يفتقر إلى الوقائع الحيّة، ويكتفي بالنظريات والإيديولوجيات المستقاة من الفكر الغربي، والأنثويّة المفرطة والمتطرفة التي سادت أوروبا في تلك الحقبة.

وتصب السعداوي غضبها على الرجل، وتفتح باب الصراع بين السيّد والعبد. فالرجل يسود المرأة، وهو بدوره عبد لسيّد يتحكم به، فتصبح المرأة قاعدة الهرم الإجتماعي، تتحمل ثقل السيّد، وثقل الرجل – العبد لسيّده. والطبيبة السعداوي، تضع المبضع الطبي جانباً وتُلقي بالرجل على سرير الطب النفسي لتكتشف أنه فرد في صيغة الجمع، ونمط بشري شبق، مهووس بالجنس. فلا فرق بين فلاح ومثقف، بين عامل وأمير، وبين شيخ وشرطي. كلهم سواسية في نهش جسد المرأة. فالرجل بالنسبة إليها هو “الأناني العقيم، المغرور، الشهواني والمتحجر القلب”.

وتبلغ المغالاة حدّها الأقصى حين تجعل السعداوي البطلة المومس في كتاب “إمرأة عند نقطة الصفر” تقول: “كل رجل يحتوي على قوّاد يأكل لحم المرأة، وكل امرأة هي مومس على اختلاف في الثمن”. و”فردوس” المومس رمز المتعة والإناس تقتل “مرزوق” القواد الذي جعل من جسدها باب رزقة، والذي يرمز إلى الاستغلال الجسدي الجنسي والاقتصادي الاجتماعي. وبقتل “مرزوق” القواد تقتل “فردوس” كل الرجال في رجل، وهو نمط لا ينتمي إلى الإنسانيّة أو البشر. ولا تتردد السعداوي من القول على لسان بطلتها: “أصبحت واعية بأني أكره الرجال”. وتعتبر السعداوي كلمة رجل رديفاً لكلمة قاتل. وتقول بجرأة وتحدٍ، “أن كل شيء يقتل، لا بد أن يكون مذكراً”.

وهكذا يغيب “الرجل الشريك والمحب عن أدب نوال السعداوي، وكذلك الشيخ الورع”. وسلامه موسى ينتقد النمط الأناني التملكي من الأزواج في كتابه “فنّ الحب والحياة”، وتحضره صورة الشاعر الألماني “هاينيه” كبديل إنساني للرجل الأناني السعداوي الذي يغار على زوجته بعد موته، حين يوصي هاينيه أن تحرم زوجته الشابة من ميراثه إذا لم تتزوج بعده.

ونوال السعداوي لم تخرج يوماً من الدين الإسلامي، واعتبرت في كتابها “الوجه العاري للمرأة العربية” أن الثقافة العربيّة لم تنفرد في تحويل المرأة إلى سلعة، وان “التراث العربي الإسلام” لديه بعض الإيجابيّات التي تستحق البحث عنها”، وأن اضطهاد المرأة لا يرجع إلى الأديان فقط، انما إلى “النظم الاجتماعية في المجتمع البشري”. إلا إنها وفي نفس الوقت تنتقد الطقوس الدينيّة بشدة، وخاصة رجال الدين، فهي تعتبر “ان الإيمان بالفطرة هو باطل”، وان الأديان تغرس في نفوس الأطفال الخوف من الـله والرهبة من نار الآخرة، بدل أن يكون اللـه مصدراً للمحبة والسلام. وجاهرت بمطالبتها بفصل الدين عن الدولة لأن اللـه لا يتعاطى السياسة.

أما رجل الدين فلم يفلت من قبضة نوال السعداوي. وفي رواية “موت الرجل الوحيد على الأرض”، تُجبر بطلة الرواية من الزواج من الشيخ حمزاوي العاجز جنسيّاً، وتصفه السعداوي أنه “منافق، تابع للعمدة… يُسخّر له الدين والصلاة”. وهو جاهل لا يفقه شيئاً من الدين، ويتمسك بحرفيّة النص قائلاً: “كلمات اللـه لنحفظها لا لنفهمها”.

ولا تتردد السعداوي في رسم صورة كاريكاتوريّة للشيخ  حمزاوي، فتقول: “وقبل أن يرتفع في الظلام صياح ديك، أو نباح كلب، أو نهيق حمار، أو صوت الشيخ حمزاوي يؤذن صلاة الفجر…”. فهذه الصورة الممسوخة لرجل الدين إلى حد الإذلال لم يتجرأ أحد أن يسوغها من قبل.

وفي رواية “الغائب” ترسم السعداوي الشيخ أستاذ الدين بالأسود. فهو يربي الأطفال على الخوف والرعب والعيب والخجل من الجسد الطبيعي، خاصة لدى الفتيات، ما يؤدي إلى عقد النقص والأمراض النفسيّة عند الأطفال. وتبالغ السعداوي في وصف التخويف والتهويل، فتجعل الطفلة “تبوّل على مقعد الدراسة”.

ولم يسلم الأب والسلطة الأبويّة القهريّة من قلم السعداوي. فصورة الأب لا تختلف عن صورة الشرطي والعمدة. فهو رمز للسيّد المستبد الذي تصاب بناته بعقدة أوديب، فيتمنين قتله. وفي رواية “امرأة عند نقطة الصفر”، ترسم السعداوي صورة مقززة للأب تثير الاشمئزاز لدى القارئ. فتصف “فردوس” أباها الأناني الجشع وهو يلتهم الطعام من أمام ابنته الجائعة بالقول: “كان فمه كبيراً” كفم الجمل… يمد لسانه خارج فمه ليلعق شيئاً سقط على شفتيه أو ذقنه… يتجشأ من فمه بصوت عالٍ مسموع… ويسعل ويتمخط ويرقد، ويعلو شخيره في الدار”. فهذه الصور القبيحة للأب ترمز إلى رفض سلطته الأبويّة وسطوته الذكوريّة.

ولم تنجُ الفرائض الدينيّة كذلك من النقد، فرفضت السعداوي الحجاب والحج. فالحجاب يرمز إلى عبوديّة المرأة، وهو “عادة جاهلية مفروضة على الجواري”. وفي أحد مقابلاتها تصرح وتقول: “الحجاب ضد الأخلاق، لأني إذا أردت أن أظهر بمظهر الشريفة، سأشتري حجاباً بخمسين قرش، وأشتري الجنة بهذا المبلغ، وأنا أريد أن أدخل الجنة بأخلاقي وسلوكي وليس بقماش على رأسي”.

وساوت السعداوي بين رفضها للحجاب ورفضها للعري. فالمرأة ليست سلعة للعرض والطلب، و”المرأة ليست لعبة الرجل”، حسب سلامة موسى، وقد رفضت السعداوي العلاقات الجنسيّة خارج إطار الزواج، ولكنها في الوقت نفسه وافقت على حقوق المثليين.

وتابعت السعداوي حملتها على الطقوس الدينيّة، فهاجمت فريضة الحج بعد الحجاب. وتقول في مقابلة تلفزيونيّة عام 2010: “إن فريضة الحج طقس من طقوس الوثنيّة الجاهليّة”. وتضيف: “إن العمل عبادة، وأنا لا أؤمن بالطقوس، والحج طقوس… ومن حقي أن أطرح ذلك على المجتمع، فالدين ينفصل عن الدولة وعن المجتمع… والدين يمارس في البيت… والمجتمع يحكمه عقل وثقافة…”

هذا بعض من لاءات نوال السعداوي واعتراضاتها ورفضها لكل ما يكبل المرأة ويعيق تحررها ومسارها نحو الحداثة. وعلى الرغم من بعض شطحاتها الشوفينيّة الإستفزازيّة، ومواقفها السلبيّة أحياناً في كسر التابوات والأعراف والطقوس والعقائد السلفية، التي تعداها الزمن، تبقى نوال السعداوي ثائرة جامحة في ثوريّتها، عصيّة على التدجين، مدافعة عن حقوق الفقراء في العيش الكريم والعلم والحريّة والمساواة، مناهضة للسلطة بكل أشكالها الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والذكوريّة. وكان همها الأول تعزيز مكانة المرأة عن طريق التصدي للإيديولوجيا المضللة والمحرمات السائدة والمعيقة لمسارها نحو الحداثة والمشاركة في الحياة العامة.

ولقد ربطت السعداوي تحرر المرأة بالتحرر الاجتماعي الاقتصادي، وجعلت الأدب وسيلة لنشر أفكارها الثوريّة. واعتبرت أن إنسانيّة الإنسان وشرفه مرتبطان بعقله، رجل كان أم أنثى. وتقول في إحدى مقابلاتها: “الإنسان بعقله وليس بجسده، لذلك يجب أن يرتبط مفهوم الشرف بعقل الإنسان… والعقل الصادق هو الإنسان الشريف، والعقل المفكر المنتج هو الإنسان”. وعلى قاعدة هذه الإنسانيّة العاقلة، يتوجب على النساء النضال من أجل تحرير أنفسهن.

حملت نوال السعداوي جسدها ورحلت، تاركة وراءها طيفاً يلاحق الختان والاغتصاب وجرائم الشرف. وستبقى صورتها في الأذهان صورة الطبيبة والكاتبة الخارجة عن المألوف، الفريدة من نوعها تماماً كطائر غرّد خارج سربه. غابت السعداوي بعدما ربحت معركتي الختان وزواج القاصرات. وعلى نساء العالم العربي متابعة المسيرة لكسر ما تبقى من تابوات ومواريث سلفيّة تعيدنا إلى ماضٍ تجثو فيه “الأموات على صدور الأحياء”.

Leave a Comment