سياسة

المخاطر الاقليمية تتضاعف والاندفاعة اللبنانية تتسارع في الجحيم 

كتب زكي طه

مع تسارع الضغوط لاستئناف المفاوضات الدولية مع إيران، واحتدام مسارات ازمات المنطقة على نحو غير مسبوق، والتي يفاقمها تعدد استراتيجيات ومصالح القوى الدولية والاقليمية، ومعها سائر الاطراف المحلية المتصارعة  في المنطقة وعليها بما فيها لبنان، وسط سعي كل منها لتجميع أوراقها واستعراض قواها ومدى قدرتها. يؤكد ذلك تكاثر التهديدات وارتفاع حدة المخاطر وإعادة خلط الأوراق في المنطقة وعلى الصعيد الاقليمي في أكثر من اتجاه، تبعاً لتقاطع المصالح وتعارضها أو لناحية تناقضها وتصادمها، على نحو بات ينذر بإنفجارات واسعة وكبرى، تتجاوز بمضاعفاتها هذه الساحة أو تلك.

في هذا السياق لا يعود مستغرباً ما تشهده الساحة اللبنانية من تأزم يبعث على إثارة القلق والرعب وسط الجحيم الذي وعدنا به أهل الحكم أو مسؤولي الدول المتدخلة بذريعة المساعدة في معالجة ما هو قائم من أزمات، لم تزل تتناسل بقوة المصالح والسياسات الفئوية لأطراف المنظومة الحاكمة والمتحكة بأوضاع البلد، سواء بقواها المحلية أو عبر الاستقواء بالخارج، إما عبر الارتهان لمصالحه أو المراهنة عليه لتعديل التوازنات المحلية.

في هذا الاطار كان تعطيل تأليف الحكومة لما يزيد عن عام، قبل أن تجيز إيران الإفراج عنها عبر تسوية مع فرنسا مررتها الادارة الأميركية. وإلى جانب ذلك كانت أزمة التحقيق العدلي المتفاقمة فصولاً حول انفجار المرفأ، وسط اصرار القوى كافة على توظيفه وتعطيله في آن. بالإضافة إلى ما كان في امتداده من أحداث الطيونة الدموية والخطيرة قبل اسبوعين، والسعي لمقايضتهما لطي ملفي التحقيق فيهما. كان ذلك في موازاة توسع حالة الفوضى السياسية على رافعة تصاعد الانهيار الاقتصادي والمالي، وما نتج عنه من تأزم الوضع المعيشي لغالبية اللبنانيين، وتغطيه الأمرين بتصعيد الانقسام الأهلي ورفع حدة التحريض الطائفي والمذهبي، وصولاً إلى التلويح بالحرب الأهلية وسيلة للصراع، لتكريس ما هو قائم من خلل في موازين القوى لضمان واستمرار التحكم بأوضاع البلد بقوة الأمر الواقع وأخضاع المعترضين أو المتضررين من ذلك.

وعليه، أضيفت الحكومة الجديدة إلى مجمل مؤسسات الدولة وأجهزتها المشلولة والعاجزة، مما نتج عنه انعدام قدرتها على القيام بالحد الأدنى من أدوارها. ولنا راهناً مثلاً في استحقاق الانتخابات النيابية والبلدية، والتلاعب الفاضح بهما من قبل أهل الحكم، بدءاً من العهد وتياره إلى رئاسة المجلس النيابي والحكومة المعطّلة انتهاءاً بسائر الكتل النيابية. سواء تعلق الأمر بصيغة مشاركة المغتربين في الانتخابات، أو بموعد إجرائها رغم تجاوز المهل التي نص عليها القانون المعني، مما يعرضها  حكماً لخطر الإلغاء تنفيذاً لرغبة أكثر الاطراف أو مصلحته. بغض النظر عن الوعود التي اختبرت مراراً وتكراراً، أو الضغوط الدولية لإجرائها وغير القابلة للصرف، كما كان الامر مع المطالبات الكثيرة بالاصلاحات أو تشكيل الحكومة.

وفي امتداد ما ورد، تقع أزمة العلاقة مع دول الخليج العربي. وهي الأزمة التي تراكمت عوامل انفجارها على امتداد سنوات طويلة من مداخل شتى. بدأت مع   اسقاط مقررات بعبدا للنأي بلبنان عن أزمات المنطقة، والاصرار على انحيازه وربطه بمحور الممانعة بقيادة النظام الإيراني الذي يعادي دول الخليج وأنظمتها على رافعة إشكالية الاقليات المذهبية فيها..  الأمر الذي ادى إلى تحوّل لبنان منصة لاطلاق المواقف التخوينية المعادية لتلك البلدان وأنظمتها بما فيه التشكيك بانتمائها الديني. وجعل البلد مركز نشاط اعلامي للقوى والتنظيمات التي تنتمي إلى بلدان الخليج وتناصب انظمتها العداء، وصولاً إلى تبني ودعم ما تخوضه من معارك في مواجهتها، انتهاءً بتنظيم محاولات إغراق مجتمعات تلك البلدان بالمخدرات على نحو سافر.

وعدا التنكر للعلاقة بتلك الدول ولجميع مساهماتها وسياساتها الداعمة للبلد في مختلف أطوار أزماته ومحطاته الكارثية. لم يقتصر الاشتباك معها على الطرف المتحكم بأوضاع البلد والساعي لتنفيذ مشروعه السياسي، بل اصبح نهجاً معتمداً من قبل العهد الحالي، وحكوماته بقوة الامر الواقع وعبر ممثليه فيها. ما أدى إلى سلسلة أزمات كان من تداعياتها القطيعة غير المعلنة من تلك الدول، وخاصة السعودية مع السلطة الرسمية، والمشاركة في الحصار الاميركي السياسي والاقتصادي المفروض على لبنان. أما النتائج السلبية لذلك فإنها أكثر من أن تحصى. وهي تطال الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والاضرار بمصالح مئات الوف اللبنانيين العاملين في الخليج، ما يشكل خسائر إضافية تلحق بالمصلحة الوطنية للبلد.

من المؤكد أن الأزمة أعمق وأكبر مما أدلى به وزير الاعلام غير المعروف عنه كفاءته التي بررت توزيره، سوى إشاداته بالنظام السوري وقيادته. أما انفجارها على هذا النحو، وإن لم يكن مفاجئاً، فإنه أعقد وأخطر بكثير مما يظن المسؤولون اللبنانيون، الذين يتعاملون مع الأزمة وكأنها شأن عرضي ناجم عن خفة وزير أو سوء تقدير مسؤول. لقد بات واضحاً ومؤكداً أن القرار السعودي وكما عبر اصحابه عنه، هو تعبير عن حالة اليأس من التعامل مع السلطة القائمة في لبنان والخاضعة بالكامل لهيمنة حزب الله المتحالف مع النظام الايراني. ما يعني أن القرار كان منسقاً مسبقاً مع بقية دول الخليج، وهو يقع في إطار خارطة طريق جرى رسم توجهاتها وتحديد خطواتها قبل تكشّف تصريحات الوزير. إذ إنه وقبل اسابيع جرى الاعلان عن عقوبات قررتها دولة الامارات بحق بعض الشركات والمواطنين اللبنانيين بتهمة دعم حزب الله “الإرهابي”، وتلاها منذ اسبوعين قرار السعودية تصنيف “مؤسسة القرض الحسن” التابعة للحزب مؤسسة داعمة للارهاب محذرةً من التعامل معها. وأعقب ذلك اصدار وزارة الخزانة الاميركية عقوبات ضد أحد النواب الحلفاء للحزب، وإثنين من المقاولين التابعين لقادة تياري العهد والمستقبل. هذا عدا ما قررته مؤخراً العديد من الحكومات الغربية في الاطار ذاته.

أما الخطورة في الأزمة، وعدا أنها غير مسبوقة في تاريخ العلاقات مع لبنان، بالنظر لطبيعة ما رافقها من إجراءات طرد السفراء اللبنانيين وسحب الدبلوماسيين الخليجيين منه وإقفال السفارات ووقف التعامل الاقتصادي. فإنها مرشحة للمزيد من أشكال التصعيد التي تنذر بأوخم العواقب واشدها خطورة على لبنان سياسياً واقتصادياً ومالياً، خاصة في ظل الأداء السيء للمسؤولين اللبنانيين في التعامل مع الوضع الخطير الناشىء.

وما يجعل تلك المخاطر داهمة ومرشحة للانفجار على نحو يصعب التكهن بنتائجه، ليس تكرار تهديدات قادة العدو الاسرائيلي للبنان، إنما تزامنها مع بدء قواتها تنفيذ اوسع المناورات العسكرية التي لم يعرف الكيان الصهيوني مثيلاً لها، تحت عنوان “خطر المواجهة الشاملة مع حزب الله”. وهي التهديدات التي تأتي في ركاب تجديد التفاهمات المبرمة بين الحكومة الاسرائيلية والقيادة الروسية، والتنسيق بشأن استمرار الغارات على مراكز ومواقع الحرس الثوري الايراني وحزب الله في سوريا، بدعم ورعاية اميركية كاملة. وإلى ذلك تضاف تهديدات القادة الصهاينة والاعلان عن مباشرة التحضيرات استعداداً لضرب وتدمير المفاعلات النووية الايرانية حسب زعمهم، فيما تكرر إيران اطلاق التهديدات بتدمير اسرائيل. وفي الوقت عينه أفصحت الادارة الاميركية وعلى لسان رئيسها عن قرار الرد على الهجوم الايراني الذي استهدف قواتها المتواجدة في سوريا.

وما يزيد في الطين بلة، هو استخفاف المسؤولين بخطورة الأزمة ومضاعفاتها، والتي اتت في ركاب ما تشهده المنطقة ككل والمشرعة على كل الاحتمالات. وفي هذا المجال تبدو جلية مستويات التبسيط وانعدام الحد الأدنى من حس المسؤولية الوطنية لدى سائر منظومة الحكم والسلطة. وهم الساعون لتبادل عمليات تصفية الحسابات في ما بينهم، وسط الإمعان في التزام السياسات والممارسات التي دفعت ولا تزال البلد إلى قعر الهاوية. وضمنها السجال الرخيص حول استقالة الوزير أو عدمها تعبيراً عن الصراع بينهم..

وإذ يؤكد حزب الله أنه صاحب اليد الطولى في تقرير سياسات البلد رافضاً استقالة أو إقالة الوزير لنزع فتيل الأزمة متسلحاً بمقولة الكرامة الوطنية التي ساهم بإستباحتها، فقد ظهر واضحاً سعى العهد وتياره إلى  استغلالها عبر محاولته فتح قنوات الاتصال مع الادارة الاميركية، بذريعة طلب وساطتها مع السعودية لتعديل موقفها.  بينما يلوذ رئيس مجلس النواب بالصمت منتظراً نتائج الاتصالات واتجاه ريح الأزمة لتحديد موقعه وموقفه كي لا يدفع الثمن مضاعفاً. فيما يطوف رئيس الحكومة على قادة ومسؤولي الدول الكبرى المشاركة في قمة المناخ في استكلندة، مستنجداً بها للتوسط مع السعودية علّه ينقذ حكومته  ويضمن بقاءه رئيساً لها، وعدم العودة إلى نادي رؤساء الحكومات السابقين  وشماتتهم به. وإذ وجد زعيم تيار المردة المرشح لرئاسة الجمهورية، الفرصة مؤاتية لتسجيل مواقف متصلبة بشأن عدم استقالة الوزير الذي استُغلت تصريحاته لتفجير الأزمة، يمكن أن يستفيد منها رئيس تيار العهد لتعويم وضعه، أو قائد القوات اللبنانية الذي يتوهم أن  رياح الازمة تصب في خانة طموحاته. فإن  زعيم تيار المستقبل يكتفي بالتغريد عبر وسائل التواصل الاجتماعي علّ مسارات الأزمة تسمح له مرة أخرى بالعودة رئيساً للحكومة وإن في عهد آخر.

وأمام استمرار الاستهانة والاستهتار من قبل الطبقة السياسية الحاكمة والمتسلطة  على رقاب اللبنانيين، التي تثبت مرة أخرى وعلى مذبح مصالحها الفئوية الصغيرة، عدم أهليتها وطنياً بالنظر لاستعدادها الدائم للتفريط ليس بحقوق اللبنانيين ومصلحتهم الوطنية وحسب، وإنما بمصير البلد ككل. وهم الذين على عاتقهم وحدهم تقع مسؤولية إنقاذه من الجحيم الذي يُدفعون إليه بديلاً عن الهروب منه إذا أرادوا أن يبقى لهم ولابنائهم وطن.

Leave a Comment