كتب كمال اللقيس
إن جردة سريعة لأحوال الثقافة في عالمنا العربي تقودنا إلى استنتاج مفاده أن حقول الكاتب الحر مزروعة دائماً بالألغام. فحين يشرع في الكتابة عليه أن يتخيل موقع موطئ قدمه، ثم يتفكر بالاخطار المشحونة بها الافكار والألفاظ في انتظار لمسة القلم للورق، حتى تفرقع المحظورات ناسفة أول ما تنسف ذلك المتجاسر- أي الكاتب- الواطئ حيث لا يجوز الوطء.
وقد اتفق خبراء المفرقعات الثقافية على تصنيف ألغام الكاتب العربي الحر، فكانت الأولوية للسياسة على الدين. وهذا الترتيب ليس عشوائياً، إنما يعتمد القوة الانفجارية للغم السياسي في نسق تنازلي، فالقوة الناسفة للسياسة تفوق بكثير تلك الكامنة في الدين، بل إن الخبراء يجزمون بأنه اذا ما أُبطل مفعول اللغم السياسي، فان اللغم الديني الموصولة أسلاكه به يبطل مفعوله من تلقاء ذاته (تسييس الدين).
وهذه الأسبقية للسياسة على الدين لا تحتاج جهداً نظرياً وتمحيصاً فكرياً لفك رموزها، فالحظر في السياسة يعني اول ما يعني غياب الديمقراطية عن التنظيم الاجتماعي برمته، غيابها عما يُقال ويُكتب ويُنشر ويُقرأ ويُسمع ويُشاهد ويُعتقد به. أي أن القمع الشمولي في أكفأ صوره اذا ما حقق غايته يباشر ارهابه من دون ارهاب. يباشره عبر تشكيل الفكر في قالبه المهيمن وإخضاع هواجس المرء في مساربه المقررة سلفاً.
واذا ما غابت الحرية السياسية غابت معها سائر الحريات، لأن مبدأ التعددية الذي يجيز الرأي والرأي الآخر المختلف ينتفي عن الكيان الاجتماعي كله. وبالتالي يغدو الخروج عن السائد المألوف ارتداداً وخيانة وجبت مقاومتها.
ولما كان الدين يمثل سلطة تنظيمية في المجتمع يباشرها في أهون صوره عن طريق مضمونه “الاخلاقي”، ومخاطبته للضمير الفردي وافتراضه قوة خير مطلق ما فوق طبيعية ترد الأمور إليها، ويباشر- أي الدين- سلطته في أشرس صوره عن طريق التماهي مع السلطة الحاكمة (العلاقة الوجودية التكاملية بين السياسي ورجل الدين)، فإذا به يضيف إلى قمعها العياني قمعاً آخر غيبياً.
وينبري الدين السلطوي يُعد العدة باعتباره الدين “القويم” للتصدي لمحاربة الآخر، بدعوى الكفر. واذا بالصراع السياسي يكتسي ثوباً دينياً لا تغري ألوانه وزخارفه إلا البسطاء المضللين، والذين نشأوا جيلاً بعد جيل في مناخ غير ديمقراطي يكرس عبادة الفرد، والانصياع للصوت الأعلى والأقوى، ويئد ملكة الفكر والمساءلة في مهدها.
ويبقى السؤال الحيوي عن مشروعية اعتماد الدين مرجعاً لتنظيم المجتمع رهين محبس الاستبداد والقمع الدينيين وغير قابل للطرح أو التداول، بل يتحول السؤال إلى لغم قادر على نسف الواطئ عليه.
إن أكفأ صور الشمولية هو ما مارس ارهابه من دون ارهاب، بأن جعل من الرهبة أسلوب حياة ومنهج فكر وقوة دفع تولد حركتها ذاتياً.
Leave a Comment