سياسة

في الذكرى 39 لإنطلاقة جبهة المقاومة الوطنية: السلاح والمقاومة والتحرير في ظل الإنهيار

كتب زكـي طـه

 في ذكرى إنطلاقة جبهة المقاومة الوطنية في 16 أيلول 1982 ضد الاحتلال الاسرائيلي، لسنا بصدد التذكير بمن أطلق النداء لها، أو بمسيرتها ومسارها وما أنجزته،  وهو موثق وتشهد عليه دماء الشهداء وتضحيات المقاومين الابطال وصمود المواطنين ونضالاتهم الذين يستحقون التحية. وهي الإنجازات التي بدأت مع طرد جيش العدو من العاصمة بيروت، بعد أيام على احتلالها وسط مقاومة بطولية. ومن ثم اضطراره تباعاً وتحت وطأة خسائره الفادحة، إلى الانسحاب من أكثر المناطق المحتلة في الجبل والبقاع والجنوب، والإنكفاء إلى منطقتي جزين والشريط الحدودي والتحصن فيهما.

   لقد رفضنا ولم نزل الدخول في محاصصة تاريخ المقاومة والتحرير، للحصول على حصر إرث حول دورنا مع شركائنا في الجبهة. وهو الدور الذي لا يقتصر على إطلاق النداء الأول، لأن مئات العمليات التي نُفذت في المناطق كافة التي شملها الاحتلال تشهد عليه. وهي موثقة أيضاً وأكثرها اعترف بها العدو، ويتذكرها أهالي القرى والبلدات الذين كانوا تحت الاحتلال. كما تؤكدها سجلات مئات الرفاق المعتقلين والأسرى في معتقلات العدو وزنازين الميليشيات العميلة وأقبية سلطات الأمر الواقع.

   وليس من قيّمنا أن نتجاهل دور ومساهمة أيٌ من المقاومين للاحتلال بصرف النظر عن انتماءاتهم وهوياتهم السياسية، وفي طليعة هؤلاء المقاومة الاسلامية وحزب الله. ، كما لا ننكر أبداً التصدي البطولي للعدوان الصهيوني عامي 1993 و1996، وصولاُ إلى  إنجاز التحرير في أيار  2000، حيث أُجبر جيش الاحتلال على الانسحاب من الاراضي اللبنانية دون قيد أو شرط، الأمر الذي شكل  انتصاراً فريداً في تاريخ الصراع العربي ـ الصهيوني، ولا يقلل من شأنه  بقاء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا تحت الاحتلال بذريعة التباس مرجعية السيادة اللبنانية عليهما.

   مما لا شك فيه أن الاحتلال الاسرائيلي وقع على لبنان في امتداد الانقسام الأهلي حول هويته الوطنية وموقعه في الصراع العربي- الصهيوني وعلاقته بالقضية الفلسطينية والمقاومة المسلحة على أرضه.  ومع خروجها رسمياً من لبنان، كان الرهان على مشروع المقاومة الوطنية الذي أطلقته قوى اليسار اللبناني جواباً على الاحتلال، في أن يشكل رافعة للتحرير والتوحيد والديمقراطية. لكن المؤكد أن مشروعنا لم يستكمل لأنه اصطدم بتجدد الحرب الأهلية التي اجتاحت كل المناطق والساحات الطائفية. وهي الحرب التي تقاطعت إدارتها من قبل النظام السوري مع الدعم الاسرائيلي لبعض اطرافها، ما أدى إلى محاصرة قوى المقاومة الوطنية وتراجع دورها وفعاليتها. ما أتاح الفرصة امام المقاومة الاسلامية أن تنفرد بالعمل المقاوم على رافعة دماء وتضحيات المقاومين والاحتضان الاهلي لهم، وبقوة الدعم الايراني والرعاية السورية لها.

مع انكفاء قوى اليسار من ميدان المقاومة العسكرية للاحتلال الاسرائيلي، خسر موقع الشراكة فيها، ما سهّل تكريس فئويتها، وهذا ما جعل مساهمته تقتصر على إبداء الرأي حول قضايا المقاومة والسلاح ودوره، أو تسجيل الاعتراض حول توظيف انجاز التحرير وتنسيبه إلى الموقع الطائفي والفئوي الذي بات قيماً عليه. أما النتيجة فكانت الاطاحة بإمكانية تحويل المقاومة قوة وطنية جامعة، وجعل التحرير مدماكاً في ترقية الوطنية اللبنانية.

 وما فاقم أزمة قوى اليسار، لم يقتصر على ما ورد، بل تعداه إلى افتقاده دور المعارضة الديمقراطية، سواء جرَّاء الإنكفاء السياسي والنضالي بذريعة مراجعة التجربة، أو عبر البقاء حتى بعد اتفاق الطائف أسير الانقسامات الأهلية ومسارات الحروب والنزاعات الطائفية، وعدم الخروج من دائرتها، فإذا به يضاعف خسائره ويفاقم هامشيته.

وعليه فإن خروج اليسار من ميدان العمل المقاوم وخسارته لدوره الديمقراطي التوحيدي، ساهما في إضافة قضية المقاومة التي كانت والسلاح والتحرير إلى مجمل قضايا الإنقسام الأهلي الموروثة حول الهوية والمصلحة الوطنية. وهي الانقسامات المتداخلة والمشرّعة دوماً على تجدد الصراعات الطائفية، التي تبقي مصير البلد معلقاً، حيث القوى لا تكتفِ بتقاسم الحكم وتنازع مؤسسات الدولة ومرافقها ومواردها، بل تمعن في الاستقواء بالخارج والارتهان له ولمصالحة ومنازعاته.

  بعد 39 عاما على انطلاقة المقاومة الوطنية اللبنانية مشروعاً للتحرير والتوحيد والديمقراطية، وواحد وعشرين عاماً على التحرير، وفي ضوء ما حل بقوى اليسار من تراجع وزن ودور وفعالية سواء في ميدان المقاومة ومن ثم في ساحات المعارضة الديمقراطية، ليس غريباً أو مستهجناً أن تتنازع  قوى الطوائف وسط الإنقسام، شعارات المقاومة والتحرير والسيادة والوطنية و…. لتظليل قضايا الخلاف والانقسام بين اللبنانيين الكثيرة والمتشابكة، حول موقع الكيان وصيغة النظام ومواقع السلطة وعلاقة لبنان بالخارج. وبما أن حقوق الطوائف باتت مقدسات، فإن مصالح الوطن وحمايته من الاخطار بما فيها إعادة بناء الدولة والنهوض بمؤسساتها والسعي إلى تطويرها، قد تحوّلت مجرد شعارات للتوظيف الطائفي والفئوي وللاستغلال خلافاً لطبيعتها، وسط الصراعات المفتوحة دوماً على استسهال تبادل تهم التخوين والعمالة للخارج، وسط انعدام المقاييس التي تحدد العدو والصديق. أما النتيجة فهي الإقامة المديدة لشبح الحرب الأهلية والصراع في موازاة الصراع لإبقاء البلد ساحة مرتهنة لنفوذ الخارج واستخدام اللبنانيين لتبادل الرسائل رغم أنهم من يدفع الأثمان الباهظة على نحو متكرر من حياة أبنائهم ومستقبلهم.

    غير أننا ولدى التدقيق في السجالات التي لا تنقطع حول المقاومة ودورها، سواء بين المدافعين عن السلاح والمطالبين بنزعه من أهل السلطة وقواها، فإننا لا نعثر على حاجتهم لوجود الدولة ومؤسساتها، إلا بالقدر الذي يفيدهم في توفير المنافع لمواقعهم الطائفية، أو يخدم  ويؤمن الموارد لدويلاتهم. حيث لا خلاف في ذلك بين أهل السلاح أو المنادين بالدولة القوية أو دعاة الحياد.  وما يؤكد ذلك انعدام أي جهد بينهم لاستكشاف المشترك والايجابي على محدوديته لحمايته من التبديد، والافادة منه سواء في سبيل المصلحة الوطنية، أو في مواجهة المخاطر المحدقة بالبلد من كل الاتجاهات، وسط الإصرار على الهروب من حقائق الواقع الصعب.

    ولأننا لسنا من أهل الرهان على أحزاب الطوائف وأهل الحكم والسلطة لإنقاذ البلد مما تسببوا به من انهيار لمؤسسات الدولة ودمار الاقتصاد وقد دفعوا البلد للاقامة في الفوضى الأهلية، ووضعوه امام مصير مجهول. فإننا وفي ذكرى انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية وفي زمن الانهيار والارتهان، نجدد القول إن التحرير الذي يشكل صفحة مجيدة في تاريخ لبنان باعتباره انجازاً وطنياً تحقق بدماء وتضحيات المقاومين وصمود اللبنانيين، يستحيل حمايته وتحصينه بغير سلاح الديمقراطية ووحدة اللبنانيين، ومن خلال إعادة بناء الدولة، دولة الوطن والمواطنيين بديلاً عن حلبة صراع الطوائف ورعاياها المرتهنين.  

Leave a Comment