صحف وآراء

الشرق الأوسط في عصر متعدد الأقطاب: لماذا يغازل حلفاء أميركا روسيا والصين 2/2

بقلم مايكل سينغ*

هنا الحلقة الثانية من مقالة مايكل سنغ حيث استعرض العلاقات السياسية – الاقتصادية بين الولايات المتحدة الاميركية وروسيا والصين ومدى تأثيرها في تصعيد التنافس بينها. ويعرض هنا لمواقف الدول متوسطة الحجم والصغرى في مناطق التجاذب بينهم، وخصوصاً في الشرق الاوسط : 

نرجسية أقل، وتعاون أكثر

وبدلاً من السعي إلى تقسيم العالم تقسيماً قاطعاً على غرار الحرب الباردة، يتعين على صناع السياسات الأميركيين القبول بألا يؤدي تكرار المنافسة بين القوى العظمى، على الأرجح، إلى توزيع الدول توزيعاً ثنائياً للدول في كل مسألة. وبدلاً من ذلك ينبغي على المسؤولين الأميركيين أن يسعوا في زيادة فرص الانحياز إلى الولايات المتحدة، وأن يعظموا قيمة هذه التحالفات للشركاء، حتى لو كان هؤلاء الشركاء يشاركون في الوقت نفسه، قوى عظمى أخرى مجالات مختلفة.

وبدلاً من التركيز على المنتديات الواسعة والمتعددة الموضوعات، مثل مجموعة الدول الـ20 أو قمة الديمقراطيات، على الولايات المتحدة أن تبني شراكات ضيقة بين الدول وذات أجندات أكثر تركيزاً وتعزيزاً، مثل الحوار الأمني الرباعي، والاتفاقات الإبراهيمية، وما يسمى بتجمع “آي 2 يو 2” الذي يضم الهند وإسرائيل ودولة الإمارات العربية المتحدة، والولايات المتحدة. ذلك أن تحالفات كهذه تعزز المصالح المتبادلة العالية الأولوية، بما في ذلك الاستثمار في الأمن والبنية التحتية، وتنحي جانباً المسائل الخارجية التي يرى الأعضاء أنها أكثر إثارة للجدال وقد تضعف التماسك. وفي مستطاع مثل هذه المجموعات أن توازن النفوذ الصيني من دون الاضطرار إلى استهداف بكين مباشرة، بالتالي خفض الأكلاف المحتملة التي قد يتحملها الشركاء. مثلاً، تبعث مبادرة “آي 2 يو 2” التي لا تزال فتية احتمال زيادة الاستثمارات الهندية في الشرق الأوسط، وتقدم خياراً ثالثاً إلى الدول الإقليمية التي لا ترغب في الاختيار بين الولايات المتحدة والصين. وزادت الاتفاقات الإبراهيمية بالفعل التدفقات الاستثمارية بين دول المنطقة على نحو قد يقلل من الحاجة إلى دعم خارجي من قوة عظمى.

وعلى الولايات المتحدة، من ناحية أخرى، أن ترسخ مع الحلفاء الحاليين القواعد والتنظيمات المشتركة، مثل حماية خصوصية البيانات وصادرات التكنولوجيا، وتزيد الحوافز التي تدعو الشركاء غير الحلفاء إلى الاستجابة لأولويات واشنطن. والأرجح أن ينتبه الشركاء إلى الشروط الأميركية والتخلي عن الفرص الاقتصادية التي تتيحها روسيا والصين، إذا وفرت هذه الشروط قاعدة معاملات ثابتة، ولم تكن مجرد مبادرات سياسية أميركية، وضمنت منافع ملموسة مثل تيسير الوصول إلى الأسواق الأميركية والأوروبية أو إلى تكنولوجيا هذه الأسواق.

وإلى هذا، ينبغي أن تختار الولايات المتحدة معاركها حين تتقدم إلى الشركاء بمطالبها. وكثيراً ما يفشل تخطيط السياسات بواشنطن في احتساب فهم الشركاء مصالحهم الخاصة. ويفترض صناع السياسات الأميركيون، في الأغلب، أن الشركاء يرون المسائل مثلما تراها الولايات المتحدة، أو أنهم يفهمون تلقائياً مترتبات التضامن مع المصالح الأميركية – وهذه مغالطة مؤسفة يسميها مستشار الأمن القومي السابق إتش آر ماكماستر وغيره “نرجسية استراتيجية”.

وقد يؤدي تنصيب النفس في مركز الأمور إلى نوعين من الإخفاقات السياسية. أولاً، لم تقدر الولايات المتحدة التقدير الوافي التزام شركائها نهجاً من دون آخر. فمثلاً لم تدرك واشنطن أن الرياض قاومت، تاريخياً، طلبات أميركية تستتبع تأثيراً في القرارات النفطية، فكان أن تفاجأت إدارة بايدن بقرار “أوبك بلس” في أكتوبر (تشرين الأول) 2022. وأما النوع الثاني من الأخطاء الناتجة من النرجسية الاستراتيجية، فهو المغالاة في تقدير التزام الولايات المتحدة أولوية معينة على صعيد السياسات، وقد تبين أن واشنطن قد لا تبادر، حين يرفض شريك طلباً، إلى معاقبته. ففي عام 2015، طلبت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما من شركائها جميعاً، في مختلف أنحاء العالم، عدم التعامل مع البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية الذي تقوده الصين، فكان أن رفض أقرب حلفائها، بمن فيهم المملكة المتحدة وأستراليا الطلب. وفي نهاية المطاف لم تفعل إدارة أوباما غير أقل القليل رداً على الرفض. فعلى صناع السياسات الأميركية مناشدة الشركاء في حال توقع احتمال واقعي بأن ينضم هؤلاء إليها، واستعداد واشنطن لفرض أثمان عليهم إذا لم يفعلوا.

تأييد الولايات المتحدة في المسائل المهمة

وعلى الولايات المتحدة، أخيراً، أن تسعى إلى عقد شراكات مستقرة ومستدامة وإن مع شركاء يصعب التعامل معهم وغير ديمقراطيين. وإذذاك، ينبغي لها أن تولي الأولوية لمخاوف أساسية، مثل مواجهة النفوذ الروسي والصيني، وأن ترضى ببطء التقدم في مسائل أخرى، وفي سياق علاقة عمل بناءة. هذا وقد اتهم مسؤولون أميركيون، بمن فيهم كولين كال، نائب وزير الدفاع لشؤون السياسات، الصين أخيراً بالسعي إلى “نسج علاقات تستند إلى مصالحها الضيقة والتفاعلية والتجارية والجيوسياسية وحدها”. والحق أنه في الشرق الأوسط، وفي مناطق أخرى، يغلب على معظم شركاء الولايات المتحدة، رأي خلاصته أن واشنطن كذلك لا تولي اهتمامها إلا إلى مصلحتها الذاتية المتبادلة، لا سيما حين يتحول اهتمامها وتتحول مواردها إلى آسيا.

ويتوقع، في علاقة متبادلة، أن تتزامن المنافع والأكلاف. وفي علاقة تحالف، من ناحية أخرى، قد يطلب من دولة حليفة، في شكل عقلاني، أن تتحمل اليوم بعض الأكلاف في مقابل منافع في المستقبل. وإذا رغبت الولايات المتحدة في رعاية علاقات بعيدة الأجل كهذه، فعليها البرهان على حقيقة المزايا الموعودة ورجحان حظوظها. وتسود عواصم الشرق الأوسط ثقة ضعيفة في احتمال أن تؤدي الاستجابة للطلبات الأميركية إلى تجنب أزمة في العلاقات الثنائية حين يطرأ خلاف تال، أو في احتمال سماع رأيها في واشنطن. وهذه معضلة تتحدى الولايات المتحدة في مناطق تحظى باهتمام أميركي متضائل، شأن الشرق الأوسط. وعندما تنقل الولايات المتحدة أولوياتها بعيداً من منطقة ما، يقلل صناع السياسات في الولايات المتحدة اهتمامهم بها، ويصرفونه إلى الشراكات الرئيسة. وهذا بالضبط الوقت الذي تتعاظم فيه أهمية مثل هذه العلاقات – أي عندما على الولايات المتحدة حماية مصالح تقتضي حمايتها أساليب ملتوية.

وعلى رغم رؤية إدارة بايدن إلى عالم منقسم انقساماً دقيقاً بين أنظمة ديمقراطية وأخرى استبدادية، فمن الجلي، على نحو مضطرد، أن المرحلة الأخيرة من تنافس القوى العظمى ليست سمتها انقساماً قاطعاً يقوم على كل شيء أو على لا شيء. فالدول الصغيرة والمتوسطة الحجم تتحاشى الانحياز إلى قوة واحدة على قدر تحاشيها عدم الانحياز. وهي تختار بديلاً من ذلك الانحياز إلى الجميع: المشاركة في المؤسسات المتعددة الأطراف التي تقودها الولايات المتحدة وفي تلك التي يقودها منافسوها. ويجدر بالولايات المتحدة، عوض فرض قسمتها المفضلة والبسيطة على الواقع العالمي المعقد، أن تتكيف، وتوفر فرصاً أكثر عدداً وتخصيصاً أمام التعاون الثري مع واشنطن. ولا يجوز أن يسأل الشركاء عما إذا هم مع الولايات المتحدة أو ضدها، بل ينبغي سؤالهم عن الطرف الذي سيكونون في صفه – والطرف الذي سيكون في صفهم – حين تطرح مسألة على جانب أكبر من الخطورة.

* مايكل سينغ المدير الإداري والزميل الأول في كرسي لاين – سوينغ في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. وعمل مديراً أول للشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي في عهد إدارة جورج دبليو بوش.

نشرته اندبندنت العربية عن فورين أفرز في  كانون الاول 2022

Leave a Comment