مجتمع

السلطة السياسية تضع يد المحاصصة الطائفية على الإدارة العامة في ظل غياب رابطة الموظفين

كتب محمد قدوح

السجالات التي دارت مؤخراً بين وزارة الطاقة والنفط ورئيس إدارة المناقصات د. جان عليِّه حول عروض أسعار بواخر الكهرباء، أو تلك المحملة بالفيول أبعد مما تبدو عليه، من مجرد خلاف مع وزارة معينة، لتصل إلى التأكيد على موقف السلطة السياسية في وضع يدها بالكامل على ما تبقى من اجهزة الرقابة من داخل مؤسسات الدولة بموجب القوانين والأنظمة السارية. وهذا المنحى يفسر الكثير مما يدور على الصعيد السياسي من مناوشات من جهة، ومن جهة ثانية يعبر عن رفض أي عملية اصلاح تطال مواقع النفوذ داخل مؤسسات الدولة. من هنا يمكن القول بتعذر الاصلاح سواء أكان مصدره الداخل أو الخارج ما دامت أبرز مرتكزات قوى الهيمنة السياسية الطائفية الإمساك بزمام الإدارة العامة وتجييرها لحساب مصالحها الفئوية. وهو أمر ليس بمستجد على أي حال، ففي غضون العقود المتلاحقة تمكنت القوى الطائفية عبر محاصصاتها من إزاحة كل من يعترض طريق صفقاتها في الإدارات العامة. وطالت هذه أقوى حلقات التأثير التي كان المديرون العامون يمثلونها. ويذكر الكثيرون أسماء ومواقع الكثيرين منهم، ممن أبعدوا عن مواقعهم ووضعوا بالاستيداع لأن الوزير المعني وجد في بقائهم خطراً على سياساته ومصالحه. بالطبع لم يقتصر الأمر على المدراء العامين بل شمل موظفين من مختلف الرتب والفئات.

ودلالة ما بدأنا به أنه يكشف توجهات السلطة السياسية عن عدم التراجع عن اعتراضها على أداء أجهزة الرقابة مباشرة وعبر ممثليها، أو من داخل الإدارة العامة نفسها عندما تجد ذلك نقيضاً لصفقاتها وأرباحها غير المشروعة، وهو ما يفسر الكثير من الملفات التي تفتح ثم تقفل على أي حال دون أن تصل إلى خواتيمها. وبالعودة إلى موضوعنا ما يثبت ذلك، فقد طلب رئيس هيئة التفتيش المركزي القاضي جورج عطيه من رئيس دائرة المناقصات د. عليِّه إحالة ملف الفيول إلى رئاسة التفتيش ليحيله بدوره إلى المفتشية العامة الهندسية، ويندرج هذا الطلب في إطار التشكيك بعمل إلإدارة المعنية، تمهيداً لسحب ملف الفيول برمته من إدارة المناقصات. وعليه، بات السجال الذي نشب بين وزارة الطاقة ممثلة بالوزير ريمون غجر تحت الحفظ، وهو لن يتكرر بين أي وزير وجهاز رقابي أو مدير عام في أي وزارة لأسباب عدة أهمها:

اولاً – إن تعيين د. عليِّه، وهو المشهود له بالكفاءة والمناقبية والصلابة، قد حصل بقوة قانون التفتيش المركزي الذي ينص على تعيين المفتشين العامين ورئيس دائرة المناقصات من بين المفتشين وموظفي الفئة الثانية في ملاك التفتيش المركزي، أي أن تعيينه حصل أساساً وبالأصل كان خلافاً لرغبة السلطة السلطة السياسية وبمعزل عن ارادتها.

ثانياً – لقد وضعت السلطة السياسية، كما بات معروفاً يدها على مفاصل الإدارة العامة من أعلى الهرم الإداري إلى أدناه، وذلك حصل عندما عينت أزلامها في وظائف الفئة الأولى سواء أكانوا من داخل الملاك الإداري أو خارجه. كما قامت بتكليف أتباعها بوظائف الفئة الثانية، حيث بلغت نسبة الشغور في هذه الوظائف حوالي 50%، ما يعني أن هذه النسبة باتت تتبع تعليماتهم، ومن البديهي أن تصب ضغوطها على الباقين الذكي يتم تطويعهم لمشيئتها. أكثر من ذلك ذهبت السلطة السياسية إلى أبعد من هذا وذاك عندما قامت بتكليف متعاقدين بمهام وظائف الفئتين الثانية والثالثة.

ثالثاً – إن غالبية المدراء العامين المعينين من قبل هذه السلطة يمارسون أشكالاً من التعدي الفاضح على صلاحيات الفئتين الثانية والثالثة، أي أنهم يتجاوزون مبدأ التسلسل الإداري صعوداً ونزولا ًوفقاً لنظام الموظفين. وهو ما قاد من الناحية العملية إلى شل قدرة موظفي الفئتين المذكورتين على صياغة القرارات بموجب الصلاحيات الممنوحة لهم. وتتواصل هذه الظاهرة الإدارية السلبية بالرغم من شكاوى الموظفين والتقارير التي يرفعها المفتشون الإداريون، والتي تتكدس في أدراج هيئة التفتيش المركزي، وهي الهيئة التي لم تجتمع منذ حوالي العام نتيجة إصرار رئيسها على إلغاء دورها، لما يتيحه ذلك ليتفرد بالقرارات التي يتوجب أن تصدر عنها، فإذا بها تصدر باسمه منفرداً.

رابعاً – إن عدم تدخل أي جهة رقابية أو إدارية لوقف تعدي المدراء العامين على صلاحيات موظفي الفئتين الثانية والثالثة دفع ببعض موظفيهما الذين اعترضوا على هذا التعدي على صلاحياتهم نحو حال من اليأس والإحباط وبالتالي الاستسلام للأمر الواقع المفروض عليهم.

خامساً – لقد غاب دور رابطة موظفي الإدارة وسط هذه المعمعة. أما مرد هذا الغياب فقد جاء يعد أن تقاسمت عضوية الهيئة الإدارية في انتخاباتها الأخيرة بين المستقلين وقوى الهيمنة الطائفية. ما قاد إلى تعذر انتخاب رئيس للرابطة حوالي العامين. وعليه، لم تتحرك الرابطة في مواجهة المخالفات الإدارية التي ترتكبها السلطة السياسية، علماً أن مضاعفاتها تنعكس على المالية العامة والانتظام في عمل المؤسسات. أما من الناحية الإدارية فقد وقفت الرابطة مكتوفة الأيدي عندما تجاوزت السلطة نسبة 30% من عدد وظائف الفئة الأولى من خارج الملاك الوظيفي. كما أن هذه السلطة لم تلتزم بنتائج المقابلات التي يجريها مجلس الخدمة المدنية مع موظفي الفئة الثانية للترفيع إلى الفئة الأولى. ولكلا الأمرين مضاعفاتهما على صعيد وضع زمام الإدارة في قبضة السلطة السياسية.

أيضاً وأيضاً لم تتحرك الرابطة لوقف المخالفات الإدارية التي يرتكبها معظم المدراء العامين والتي تؤثر سلباً على أداء وسمعة الإدارة العامة، ما سهّل حصول مختلف الأزمات التي تعانيها الإدارة العامة. ويُخشى أن يكون تلكوء الهيئة الإدارية الحالية عن الدعوة لانتخاب هيئة إدارية جديدة، بالرغم من مرور أكثر من عام على انتهاء ولاية الحالية، مقدمة لحل رابطة الموظفين، وذلك في ضوء عدم قيام هذه الهيئة بالإجراءات القانونية اللازمة لتمديد عملها.

وخلاصة القول في ظل الواقع المتردي في الإدارات العامة وإحجام رابطة الموظفين عن القيام بدورها في الدفاع عن دورها وموظفي القطاع العام، من المؤكد أن تتصاعد عملية تفكيك وإنهيار الإدارات العامة، وشل ما تبقى من فاعلياتها عن مواجهة منوعات الفساد التي تمارسها السلطة السياسية وأتباعها من الداخل والخارج على حد سواء.     

Leave a Comment