مجتمع

الزلزال العثماني والسوفياتي ومصير وحداثة المنطقة العربية

أحمد المغربي  

في مقاربة تاريخ المنطقة وواقعها الراهن لا بد من الإشارة إلى زلزالين استراتيجين وتاريخيين ما زالا متفاعلين في المنطقة العربية، وهما سقوط الإمبراطورية العثمانية، بالأحرى سقوط الإمبراطورية الإسلامية العربية في مرحلتها العثمانية، وثانيهما، هو سقوط الاتحاد السوفياتي عند نهاية “الحرب الباردة”. لقد نجم عن الزلزال الأول تكوّن معظم الدول الوطنية (أو الكيانات الوطنية) في المنطقة العربية. ومع تجنّب الدخول في الممرات التاريخية، على الرغم من ضرورة ذلك، إلا أنه يمكن الإشارة إلى مجموعة صغيرة من النقاط بشأن الزلزال الأول. إذ جاء سقوط الإمبراطورية الإسلامية بفعل عوامل لا حصر لها، تشمل الجمود التاريخي للإمبراطورية ونظامها الذي يمكن إعطاء نموذج مكثف عنه بالمقولة التي رسمها سليمان الأول في 1516، آخر الخلفاء الفاتحين، وأوصى بها خلفاءه، وتنص على اتّباع “نفس نظام الأرض، نفس السلم الاجتماعي، نفس سياسة الدولة، ونفس دور الدين”. إنه مجرد نقطة ميكروسكوبية الحجم عن التكلس والركود والجمود الذي سيمتد بعد ذلك التاريخ بعقود قليلة، ويسحب نفسه على مجمل الإمبراطورية.

ويضاف إلى ذلك أن الإمبراطورية الإسلامية كانت آخر الإمبراطوريات في المنطقة، وأنها إمبراطورية دينية. وتضمن تاريخها اضطهادات لا حصر لها، وربما تكون طبيعية في الإمبراطوريات الدينية، للأديان الأخرى. من المستطاع تتبع العلاقة المعقدة مع المسيحيين وطوائفهم، التي تضمنت ضروباً من الاضطهاد الدموي منذ مراحل أكثر تبكيراً في تاريخ الإمبراطوية الإسلامية، وصولاً إلى فصل الإبادة الأرمنية التي قد تكون الصفحة شبه الأخيرة في ذلك الملف. ويضاف إلى الإشكالية مع الأديان غير الإسلامية (تكراراً، يعتبر ذلك مساراً مألوفاً في الإمبراطوريات الدينية)، هنالك الصراع المذهبي (داخل الدين الإسلامي) الذي شهد نقطة نوعية مع الدولة الصفوية التي تأسست في 1501 كأول دولة إثني عشرية في المنطقة، خصوصاً أن مجرد ظهورها شكّل نقطة تحوّل في الفقة الشيعي (انتهاء “الفقه الخاص” الذي هو علاقة المرجع بالمُقلِّد من دون رابط مع الدولة)، وبالتالي في مجمل العلاقات المتصلة بتلك النقطة.

ويصعب عدم الإشارة إلى دور القوى الخارجية في سقوط الإمبراطورية الإسلامية، من دون الدخول في “نظرية المؤامرة” من أي نوع. الأرجح أن ثمة ما يشبه الإجماع على أن تفكيك الإمبراطورية الإسلامية، نوقشت في أوروبا على الأقل منذ القرن التاسع عشر، تحديداً منذ مؤتمر فيرونا 1825، (أو ربما قبل ذلك، على الأرجح) باعتبارها “الرجل المريض” الذي توجّب رعايته بانتظار وراثته، أو بالأحرى الاتفاق على وراثته. لقد شهد التدخل الغربي المعروف والمعلن في الإمبراطورية نقلة نوعية بعد “مؤتمر فيرونا” (استقلال اليونان في 1829 مثلاً)، لكنه لم يبتدئ من تلك النقطة، بل يرجع حتى إلى ما قبل غزوة نابليون بونابرت الفاشلة عند مطلع القرن التاسع عشر. (عند تلك النقطة، من المستطاع العودة إلى الوضع الدولي، خصوصاً بالنسبة إلى النظام الدولي داخل أوروبا في مرحلة ما بعد الحروب النابوليونية).

ثمة أشياء لا تحصى للنقاش في ذلك الإطار، لكن يمكن الإشارة إلى أن تاريخاً مديداً من التدخل في الإمبراطورية و”كياناتها”، على غرار ما حصل في شمال أفريقيا مثلاً، إضافة إلى المثل المصري الأشد وضوحاً. وفي مثل آخر، تمتد خيوط وثيقة بين المقاربة الغربية الاستراتيجية للأمبراطورية الإسلامية، وبين “الامتيازات الأجنبية” في لبنان، مع تأثيراتها على العلاقات بين مكونات ذلك الكيان. وتتصل تلك الخيوط بمسألة “الرجل المريض” التي عُرِفَتْ أيضاً بإسم “المسألة الشرقية”.

وما لا يقل أهمية عن ذلك أن “وراثة” الرجل المريض، شكّل جزءاً أساسياً في مجريات الحرب العالمية الأولى التي أفضت إلى نتائج من بينها إعادة صياغة التوازن بين الإمبراطوريات الغربية (سقوط الإمبراطورية القيصرية الروسية وغيرها مثلاً)، وإمساك القوى الغربية مباشرة بالكيانات التي نجمت عن تفكك الإمبراطورية الإسلامية.

من نابليون إلى محمد علي

ولا يعني ذلك أن الإمبراطورية كانت متماسكة ككيان متكامل، ثم انهارت فظهرت الكيانات في منطقة الشرق الأوسط. الأرجح أن أبسط الوقائع تنفي تلك الصورة التي تظهر أحياناً، خصوصاً في تفكير الإسلاموية المعاصرة. إذ لم تكن الإمبراطورية الإسلامية متماسكة داخليّاً في هزيعها الأخير، بل ربما  أكثر من ذلك. مثلاً، استمر الكيان السياسي- الديني الذي ظهر مع الدولة الصفوية عبر أشكال متعددة، من بينها المملكة القاجارية (1796- 1925) التي استمرت أثناء تفكك الإمبراطورية العثمانية، وعانت تدخل القوى الغربية، بما فيها روسيا، بل فرضت انفكاك أرمينيا وأفغانستان عنها.

وباختصار، منذ بدء العصر الإستعماري الأوروبي في 1521 (بدايته حصلت في أميركا الجنوبية، تحديداً مع استيلاء إسبانيا على مملكة الأزتيك)، تمدد النفوذ والسيطرة الأوروبيين في منطقة الشرق الأوسط، على غرار مناطق كثيرة اخرى، وكانت كيانات كثيرة تحت السيطرة الفعلية الغربية، مع استمرار معظمها في إعطاء ولاء شكلي ـ إسمي للباب العالي في اسطنبول. من الأمثلة الواضحة على ذلك، الكيانات في شمال أفريقيا كمصر والسودان وليبيا والجزائر وتونس والمغرب وغيرها. ومثلاً، تبادلت فرنسا وبريطانيا النفوذ، في مد وجزر مستمرين، منذ “الحملة الفرنسية” 1798 النابوليونية، ومرواً بانتشار عسكري بريطاني مباشر في مصر في 1803، بعد هزيمة نابليون ثم جلاء الفرنسيين عن مصر، وقد تلاه إعادة السيطرة المملوكية وولائها الشكلي للإمبراطورية العثمانية، وحتى السيطرة العسكرية المباشرة للملكة البريطانية عليها في 1882. (لعله من المهم ملاحظة أن التدخل الغربي آنذاك، جرى ضمن مقاربة استراتيجية في المحافظة على “الرجل المريض” العثماني). وبالتالي، تضمنت تلك الفترة تحطيماً أولاً للحكم المملوكي (الذي حافظ على ولاء متقلب للسلطنة العثمانية منذ هزيمته أمامها في العام 1517) على يد نابليون بونابرت، قبل أن يتحطم كلياً أمام صعود مشروع محمـد علي باشا في 1811. ربما يكون مهماً التأمل استرجاعياً في وضعية محمـد علي باشا. إذ قاد حربين هدفهما تثبيت سيطرة الإمبراطورية، بنجاح متفاوت تماماً، في الجزيرة العربية والسودان. (مرّة اخرى، يعطي ذلك مثلاً عن التخلخل الداخلي في الإمبراطورية الإسلامية، ومرحلتها العثمانية، وتفاعله وتشابكه مع القوى الغربية وصِيَغِ هيمناتها في المنطقة).

وربما تمثّل أبرز معلم في تجربة محمـد على باشا في حملته على مصر والشام التي هدفت إلى استيلائه على اسطنبول والإمساك بالخلافة. عند تلك النقطة تبدّى بشكل بارز ملمح مهم في الاستراتيجية الدولية، بالأحرى الأوروبية، حيال الإمبراطورية العثمانية. إذ مدت الإمبراطوريات الغربية يد المساعدة إلى الإمبراطورية الإسلامية ضد مشروع محمـد علي. وحارب الجيش القيصري الروسي مع جيش الإمبراطورية الإسلامية، خصوصاً في معركة نزب 1839 التي كسبها إبراهيم باشا، إبن محمـد علي المُكلف بالحملة على مصر والشام باتجاه أسطنبول. ثم دخلت بريطانيا وفرنسا، وبعد تنازع بينهما، لتحارب إلى جانب جيش الإمبراطورية الإسلامية وتُلحق الهزيمة بإبراهيم باشا، وتنهي مشروع محمـد علي بالاستيلاء على السلطنة في 1840.

(نفتح قوساً للإشارة إلى أن معركة 1840 شهدت أيضاً إنزال جيش الإمبراطورية العثمانية الإسلامية على الساحل اللبناني، خصوصاً جونية، وتوزيع الحلف الأوروبي الإسلامي السلاح على الفلاحين اللبنانيين كي يحاربوا إبراهيم باشا. ثمة أهمية لهذا المنعطف المتشابك في سياق ظهور الكيان اللبناني والعلاقات بين كياناته، بما في ذلك سردياتها السياسية التي غالباً ما يُستحضر فيها ذلك المنعطف مع “إخفاء” انتقائي لتشابكاته وأبعاده الاستراتيجية، بحسب السردية التي تستحضره. ثمة حضور ما لمنعطف 1840 وما تلاه [حرب أهلية لبنانية] ما زال بعضه مستمراً، خصوصاً بشأن العلاقة مع الغرب، ما يزيد كثافة تلك الحوادث وتشابكها).

المنطقة من أوروبا إلى اميركا

وقد فتحت تلك الحوادث مساحة أمام بعض الأصوات للإشارة إلى أن الحفاظ على الإمبراطورية الإسلامية في وضعية “الرجل المريض”، اقتضت ضرب المشروع المصري السلطوي الذي سعى إلى استبدال الخلافة الضعيفة بمشروع تُمْسِكْ به سلطة قوية، ويملك أفقاً في الانفتاح على الحداثة الغربية، خصوصاً فرنسا التي نسج معها محمـد علي علاقات قوية، وأرسل إليها بعثات مدنية وعسكرية، بل استند إليها أساساً في اندفاعته صوب التصنيع، إضافة إلى علاقات وطيدة مع بريطانيا. (هزمت فرنسا وبريطانيا مشروع محمـد علي في سعيه إلى الهيمنة وتجديد الخلافة، لكنهما دعمتا مشروعه طالما بقي في المدى الكياني لمصر، وإلى حد ما السودان. وفي مراحل لاحقة، سيطرت القوى الأوروبية على قناة السويس، مثلاً، قبل عقود من تفكك الإمبراطورية الإسلامية، بما في ذلك هيمنة مشتركة لبريطانيا و”بنك روتشيلد” على أسهم قناة السويس (افتتحت في 1869)، خصوصاً شرائهما كامل أسهم الخديوي إسماعيل (17600 سهماً) في 1875).

ولعله بديهي أن الكلمات السابقة لم تفِ ما تناولته من حوادث ومسارات ومواضيع، حقها من النقاش والتأمل، لكنها حاولتْ إيراد إشارات خاطفة عن مقاربة استراتيجية وتاريخية لحوادث ما زالت قابلة للحوار والنقاش. واستطراداً، ربما تكفي تلك الإشارات للقول بأن ما يروق للإسلاموية تكراره من معادلة “سقوط الإمبراطورية الإسلامية، وظهور الكيانات في الشرق الأوسط”، ليس سوى تبسيط اختزالي، ربما يثير شيئاً من الابتسام المرير.

(نفتح قوسين للإشارة إلى أن الشرق الأوسط لم يعد أبداً إلى وضعية التركيب المتماسك، أو شبه المتماسك بعد سقوط الإمبراطورية الإسلامية. ثمة من يرى أن الخيط الاستراتيجي الذي يربط مختلف المقاربات التي تلت الحرب العالمية الأولى، وقد شهدت ولادة أول نظام عالمي بمسمّى “عصبة الأمم” وبداية تكريس الدور العالمي القيادي لأميركا في الغرب، إنما يتمثّل في الإبقاء على التفكك الاستراتيجي للمنطقة الممتدة من خاصرة أوروبا وصولاً إلى الهند، أو بالأحرى الصين. وربما يظهر من يرى أن المقاربة الاستراتيجية الأميركية حيال أوروبا، وريثة الإمبراطورية الرومانية وما تولّد عنها من كيانات وطنية ملكية ثم جمهورية، تتمثل أساساً في الحفاظ على سيولة مماثلة. وربما نعيش الآن مرحلة خروج أوروبا من تلك الوضعية، بصعوبة وبتعرج ومن دون ضمان بتحقيق النجاح في ذلك. وتكراراً، إنها أوضاع يصعب قراءتها بالأبيض والأسود، بل إن ألوانها متداخلة ومتشابكة وكثيفة على نحوٍ مدوخ. ماذا لو طرحنا سؤالاً عن مقاربة اليسار لتلك المسارات؟ ألم يقع في تبسيط أيديولوجي مضطرب؟).

زلزال سقوط الاتحاد السوفياتي

يتمثل الزلزال الثاني الذي عاشته المنطقة العربية في سقوط الاتحاد السوفياتي والكتلة الإشتراكية السابقة، مع ما رافقه من تمدد للنفوذ الأميركي المهيمن (بالأحرى، ابتدأ مساره في ذلك المعنى، منذ سبعينيات القرن العشرين) في الشرق الأوسط الذي تحوّل بحيرة نفوذ أميركية بالكامل، بعد غياب أي تنازع استراتيجي عليه.

(حاضراً، يبدو الاتحاد الأوروبي مستمراً في صيغة ممارسة النفوذ تحت الهيمنة الأميركية، على الرغم من بعض “التراخي” في تلك الصيغة منذ عهد باراك أوباما، الذي استهل استراتيجية عالمية تعطي أولوية للصراع مع الصين. هل أنها مصادفة تقاطع ذلك مع “الربيع العربي” الذي سارت مآلاته إلى تخبطات ومآزق وتفكك في اللحمة الأساسية للكتل الشعبية في المنطقة، بل إلى طرح سؤال عن وجود شعب، بالمعنى السياسي العلمي، في أكثر من بلد عربي).

في ظل “الحرب الباردة”، انتقلت الهيمنة الغربية إلى المركز الأميركي الذي عمل بوضوح على تصفية الإرث الاستعماري الأوروبي، خصوصاً الأميركي والفرنسي، وساند تحرر الدول، على نحوٍ غير بعيد، في ذلك المعنى، عما فعله الاتحاد السوفياتي. وفي المقابل، سعت أميركا إلى فرض هيمنتها الاقتصادية، مستندة إلى قوى متنوعة من بينها قوة نموذجها في الحداثة والديمقراطية، إضافة إلى “القوة الناعمة” الثقافية التي شاركها فيها الغرب بصورة عامة، استناداً إلى قوة عسكرية لا تتردد في استخدامها. في المنطقة العربية، تنازعت أميركا النفوذ مع الاتحاد السوفياتي الذي شاطرها النفور من الاستعمار وتصادم معها في كل ما عدا ذلك. (عند هذه النقطة، يمكن العودة إلى الوضع الدولي).

مسارا الحداثة

الحداثة بالشكل الذي ارتسمت فيه ضمن المنطقة العربية، تحتاج إلى نقاش مستفيض، يتناول على الأقل مسارين فيها. يتعلق المسار الأول بضرورة بلورة فهم أو رؤية بشأن مسار الحداثة في أوروبا، خصوصاً لدى اليسار في المنطقة العربية وكياناتها. بالاختصار، الأرجح أن أبسط مطالعة لتاريخ بلورة مشروع الحداثة يوضح أنها تبلورت عبر مسار تاريخي امتد على الأقل منذ القرن الثالث عشر (مع القديس توما الإكويني)، عن مسائل علاقة الديني بالدنيوي، مشروعية السلطة وعلاقتها بالدين، ومفهوم السلطة الزمنية مع ما تحمله من قمع ضروري، مفهوم الشعب وتمييزه عن “الجموع” والقبائل ومرادفاتها من جهة، و”شعب الدين” المكوّن من المؤمنين من جهة ثانية، (بما في ذلك الصراعات الضمنية حول الدين نفسه في مذاهبه ومدارسه المختلفة)، وعلاقة الدين بالخير العام المشترك للشعب، وتمييز الإمبراطورية الدينية خصوصاً، عن الممملكة (ثم عن الجمهورية) بالارتباط مع المعطيات السابقة، والكيفية التي ارتسمت فيها العلاقة، وتقلبت بين الفضائين الديني والدنيوي / الدولاتي- الشعبي، وظهور مفهوم السيادة للدولة، بل ظهور مفهوم الدولة نفسها وفصله عن الكنيسة وسلطاتها (وبقاء نسيج مشترك بينهما)، بما في ذلك مفهوم “حق الملوك الإلهي” وصراعه مع الديني من جهة، والشعب والدولة من جهة اخرى، وتطور مفهوم “الخير المشترك” وغيرها. ومثلاً، عاد عصر النهضة إلى مفهوم أرسطو عن الإنسان بوصفه كائناً سياسياً، مع إعطاء الشعب بعداً سياسياً تحديداً، بل وصولاً إلى كون الدولة هي التي “تصنع” الشعب بالمعنى السياسي، خصوصاً في علاقته مع القانون، واستمراراً إلى العقد الاجتماعي وغيره.

يُقصَد من ذلك محاولة التخلص من تبسيطات تدور أحياناً، ربما من غير قصد. ومثلاً، يصعب النقاش عن الديمقراطية من دون ربط ذلك المفهوم في السلطة والحكم، مع الحداثة ومسار تبلورها التاريخي. من دون ذلك، تبقى الكلمات متحكمة بالنقاش من دون أن تُعطى “قوامها/نسيجها” التاريخي، فتصبح لا تاريخية، ما يميل بها إلى الأيديولوجيا الصرفة الجامدة. لقد تحدث أفلاطون عن الديمقراطية وكذلك فعل أرسطو، فما الفارق بين ذلك والديمقراطية التي تبلورت لاحقاً عبر أزمنة النهضة والحداثة؟ ولماذا عادت النهضة إلى أرسطو مثلاً، وما الفارق الذي صنعته في تلك الاستعادة وعبرها؟ ما علاقة ذلك مع تطور مفهوم سلطة الدولة وسيادتها، في تيارات متضاربة توالت منذ مكيافيللي (يروّج عنه هجره للبعد الأخلاقي للسياسة، لكن قليلاً ما يُذكر دوره في بلورة مفهوم الدولة خارج سلطة الدين، وكذلك إسناد شرعية الحكم والحاكم إلى ضرورات دنيوية محضة وسياسية تماماً)، ومروراً بهوبس ولوك، ثم روسو وفولتير وهيوم وديدرو (وخصوصاً) مونتيسكيو مُنظّر الفصل والتوازن بين السلطات، وليس انتهاءً بكارل ماركس، والربط بين الدولة والاقتصاد والبُعد الاجتماعي الطبقي وغيرها؟

لعل المسار الثاني أشد صعوبة، لأنه من المستطاع الاستفادة من التنظير الغربي الواسع والغني عن الأمور السابقة، لكن ماذا عن محاولة تلمس مسار مماثل في التاريخ العربي، القديم والحديث، حتى بالعودة إلى الهيلينية، وخصوصاً في التجربة التاريخية الإسلامية؟ لم تحاول الحداثة العربية صنع “حداثة” فعلية، بل غالباً ما مالت إلى الاكتفاء إما باعتبار الغرب نموذج يتوجب تكراره (هل هذا تفكير تاريخي فعلياً)، أو باعتباره مرجعية دائمة يجب التقيّد بها، أو حتى نقضها عبر الارتداد في اتجاه معاكس، ما يعني البقاء على علاقة “النموذج” مع الحداثة الغربية، لكن بصورة مقلوبة؟

الأرجح أنه في ظل تلك الأسئلة، تظهر مسألة الحوار مع الإسلاموية المعاصرة، باعتبارها أمراً أساسياً، في بلورة مشروع حداثة تاريخي في المنطقة العربية. ولعل العوائق الهائلة أمام ذلك الحوار، غنية عن التذكير بها، لكن لا بأس أيضاً من تذكر الطريقة التي تعاملت فيها الكيانات والأحزاب “الحداثية” في المنطقة العربية مع الإسلاموية، ضمن رؤية نقدية وتفاعلية واسعة.

هنالك أيضاً النقاش الذي ظهر فعلياً في أوساط النخب العربية، يميناً ربما أكثر من يساراً، عن الفارق بين الحداثة والتحديث، ويحتاج الآن، في ظل الكيانات الموصوفة بالحداثية، إلى مزيد من التعميق.

الأرجح أنه يصعب عدم التشديد على مسألة ما بعد الحداثة، وما يعبر عنه تاريخياً، وعلاقة ذلك مع النقاش عن بلورة حداثة تاريخية في المنطقة العربية من جهة، والعلاقة المأزومة دوماً مع الغرب. لقد حمل الغرب مشروع الحداثة مع رؤيته الخاصة، وسعى إلى نشرها عالمياً. ثمة جوانب كثيرة للنقاش في ذلك. في تجربة بريطانيا نقل الديمقراطية إلى مصر، فيما هي مسيطرة ومحتلة لذلك البلد وشعبه، يظهر مثلاً أن أكثر الأحزاب تمسكاً بالديمقراطية وسعياً إلى التمثّل بالديمقراطية الغربية، وهو حزب الوفد، عانى الأمرين من بريطانيا، بل اعتُبر عدوها الألد. لقد كان سعد زغلول هو من صاغ شعار “الاستقلال التام أو الموت الزؤام”، وانتهى إلى كونه الأشد تصلباً في وجه البريطانيين. وعلى الرغم من استمراره حزب الغالبية الشعبية لأكثر من 35 سنة، لم يحكم إلا على فترات متقطعة، بل لم يزد مجموعها عن 05 سنوات. كيف يمكن النظر إلى تلك التجربة الديمقراطية، من وجهة حداثة وديمقراطية فعلية.

ومثلاً، في لحظة “ارتداد” الغرب، خصوصاً أميركا، عن العولمة، كيف تبدو نقاشات النخب العربية عن العولمة بكل أبعادها وخيوطها؟ ما الذي هو مستمر في العولمة، سواء في السياسي المباشر أو خارجه (وهو الأهم) في وقائع الاقتصاد والاجتماع والثقافة والترابط عبر الشبكات العالمية وغيرها؟

واستطراداً، لعل النقطة الأشد غياباً ربما تكون في التخلف. ما هي رؤيتنا للتخلف؟ كيف يمكن نقاش الحداثة وانتاج مشروع يكون مزروعاً في تراب تاريخي، من دون التعمق في مسألة التخلف المتشابكة الأبعاد؟ كيف تبدو مسألة حقوق الملكية الفكرية، مثلاً، في سياق نقاش التخلف؟ ما هي الرؤية عن مسألة المناخ والانتقال إلى طاقات أشد تطوراً، في مجتمعات يتزايد تخلفها بفعل آليات داخلية فيها من جهة، وبأثر من تسارع تقدم مجتمعات توصف بأنها متقدمة فعلياً، من الجهة الثانية؟

هناك مساحة واسعة يجدر العثور عليها، أولاً، ثم الخوض فيها.

Leave a Comment