سياسة

“الربيع العربي” يُرتجل وطنياً و”يحرج” الاسلامويّة

لو رغب أحد المهتمين في سيكولوجيا الجماهير أن يستعيد شيئاً من مقاربة المفكر الألماني الشهير ويلهام رايش، لكان وَجَد في حضور النسويّة الإسلامويّة وتطلّقاتها وسيولتها في التعامل مع الجسد الأنثوي وحضوره وفعاليته، ما يكفي كتباً. حدث شيء مُشابه في النسويّة الإسلامويّة الشيعيّة إبّان ثورة إيران، كما استمر ممتداً ومتداخلاً مع الصراع بين المعتدلين والمتطرفين فيها.

بحزم يمكن القول إن صعود هوية الدولة الوطنية خيط مشترك بين انتفاضتي لبنان والعراق في “الربيع العربي الثاني”، بل ربما يربطهما مع السودان والجزائر وتونس بأكثر من خيط. ثمة خشية على تلك الوطنية التي جاءت في شبه ارتجال تاريخي، بل سبحت في مياه متخالطة الألوان. (أليس ذلك طابع التغيّرات العميقة؟).
يصعب متابعة ذلك الخيط في مقال صغير، لكن يُخشى على تلك الوطنية أن تضعف، خصوصاً أنها لا زالت تتحرك تحت أنياب الوحش الطوائفي. ربما مقلق أن تتطرف الوطنية إلى عنصرية، لكن تبقى الخشية الكبرى متمثّلة في إمكانية تواهنها. يحضر إلى الذهن كلمات المفكر الجزائري محمد أركون في “القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني” (ص 27) “إن الأديان التقليدية قد استخدمت ولا تزال تُستخدم حتى الآن، كملاذ سياسي، واحتمالاً كوسيلة أو كقاعدة انطلاق من أجل الإستيلاء على السلطة. وما دام هذا الضغط التاريخي واقعاً على الأديان، فإن أكثر الأنظمة اللاهوتية انفتاحاً، و(كذلك) أعظم العلوم استنارة لن ينجحا في موازنة التصوّرات الدينيّة الطائفية بصفتها قوة إيديولوجية مُحَرِّكَة للجماهير”.
“خفاء” الإسلامويّة؟
في الحراك اللبناني، بدا كأن هناك كلمة سر مضمرة، لا “يريد” أحداً نطقها هي الإسلامويّة السنيّة، على الرغم من قوّة حضورها في الحراك. جرت محاولات اعلامية محدودة جداً لملامسة البُعد الاجتماعي لتلك الإسلامويّة في طرابلس وجوارها تحديداً، لكن يصعب اختزال التفكير بها في ذلك البُعد وحده، خصوصاً اختزاله أيضاً في الأوضاع المعيشية والاقتصادية وحدها.
في كلام أميل إلى السياسة المباشرة، ربما شكّل قانون العفو العام “الشامل”، شيفرة مضمرة، وغير حصرية، لحضور الإسلامويّة السنيّة في الحراك الشعبي. بدا ذلك الخيط الصعب متأرجح بين الإعلان والخفاء، لكنه ربما يصبح أكثر بروزاً.
وكذلك أظهرت الإسلامويّة السنيّة في لبنان قدرة كبيرة على التأقلم مع معطيات الحداثة، وهو أمر ملحوظ في الإسلامويات المعاصرة. (يمكن تذكّر أمثلة تمتد من نموذج زياد الجرّاح في “القاعدة” إلى ظاهرة التجنيد الإلكتروني لـ”داعش”).
وفي السياق نفسه، بدا ملفتاً تماماً حضور النسويّة بمعناها الفعلي في الحراك اللبناني. كذلك سارت النسويّة الإسلامويّة معها بسهولة ويُسر وبطرق فائقة التنوّع، وتشير أيضاً إلى عمق مهم في التداخل بين الحداثة والأصولية. لو رغب أحد المهتمين في سيكولوجيا الجماهير أن يستعيد شيئاً من مقاربة المفكر الألماني الشهير ويلهام رايش، لكان وَجَد في حضور النسويّة الإسلامويّة وتطلّقاتها وسيولتها في التعامل مع الجسد الأنثوي وحضوره وفعاليته، ما يكفي كتباً. حدث شيء مُشابه في النسويّة الإسلامويّة الشيعيّة إبّان ثورة إيران، كما استمر ممتداً ومتداخلاً مع الصراع بين المعتدلين والمتطرفين فيها.
هل تكون الدولة الوطنية مساحة اخرى للتداخل بين الإسلامويّة في الحراك اللبناني والحداثة؟ قد لا تسهل الإجابة عن السؤال في ظل التعقيد الكبير للعلاقة بين الطوائفي والدَولاتي في لبنان، لكن ثمة تغييراً ما حدث في ذلك البُعد ربما تجدر متابعته بدقة.
في معانٍ كثيرة، ظهرت خيوط بين الحراكين اللبناني والعراقي، نُسِجَ أحدها في خيط هوية الدولة الوطنية. ولربما كانت المسافة بين الفقه الشيعي في النجف وكربلاء وفقه ولاية الفقيه في طهران وقم، جزءاً من ذلك النَسْج ولو نسبيّاً. هناك أبعاد عدة في ذلك بما فيها علاقة تلك الأمور مع المتغيّرات داخل إيران، لذلك حديث آخر، ويتداخل مع أبعاد استراتيجية وجيوسياسية.
إيران بين العراق… وتركيا؟
لعله مفيد أيضاً الالتفات إلى أحد الجوانب التي لا تُلمَسْ كثيراً بالنسبة لدور الحراك في تقلّص النفوذ الإيراني عراقياً. حدث ذلك “بسهولة” نسبيّاً، مع العض على الحروف والشفاه والقلب للثمن الكبير الذي قدمه الشعب العراقي، إلا أنه أقل من حروب مدمرة. (بالطبع، المقارنة المضمرة هي مع نفوذ القوة الأميركية العالمية العظمى، والأثمان المذهلة المترتبة على ممارسة ذلك النفوذ في المنطقة، ولنترك جانباً مسألة أكلاف مواجهته؟).
إذاً، بدا كافياً، مع كل الألم والوجع، حراك شعبي بقي رجال الدين بارزين في قيادته، كي يتقلّص النفوذ الإيراني، مع التشديد أيضاً على ضرورة العلاقة الطبيعية مع إيران الشعب والدولة. ويُظهر ذلك أيضاً أن سعي إيران الإسلامويّة إلى التحوّل قوّة إقليمية يواجه مُحدِّدات من بينها أنها دولة عالمثالثية تنتمي تماماً إلى المنطقة وتاريخها وحضاراتها. ويذكر ذلك أيضاً بسعي مماثل لتركيا الإسلامويّة أيضاً للتحوّل قوّة اقليمية في المنطقة التي تنتمي إليها تاريخياً وحضارياً. هل مجرد مصادفة تلك العلاقة العميقة بين الدولتين؟ لنستعيد ثلاث ومضات.
ومضة أولى: قبل “الربيع العربي” الشهير، نادى الرئيس التركي السابق عبدالله غول بأن يكون محور طهران- أنقرة الركيزة الأساسية استراتيجياً للشرق الأوسط. صدرت تصريحاته أثناء زيارة إلى طهران التي صدرت منها تصريحات مماثلة.
ومضة ثانية: أثناء توقيع الاتفاق التركي- الأميركي الذي سبق عملية “نبع السلام” ضد الكرد في الشمال السوري، تبيّن أن موضوع رفع العقوبات عن “بنك خلق” التركي كان جزءاً من ذلك الاتفاق، مع التذكير بأن العقوبات الأميركيّة على ذلك البنك، كانت بسبب دوره كممر خلفي مالي لإيران في التهرّب من العقوبات الأميركية عليها.
جاءت الومضة الثالثة أثناء الحراكين العراقي واللبناني، مع نشر صحيفة “نيويورك تايمز” وثائق تتعلق بلقاءات جرت في تركيا بين “الحرس الثوري” و”الإخوان المسلمين”، للتنسيق بينهما في المنطقة. الأرجح أن ثمة علاقات ربما تكون غامضة لكنها تبدو متصاعدة، بين الإسلامويتين السنيّة والشيعيّة في الشرق الأوسط، ولعل المؤشرات عليها أعمق من… ثلاث ومضات.
ثمة استدراك ضخم وواجب. الأرجح أن الأصوليات الدينيّة تميل إلى التصادم مع بعضها بعضاً. يبرز ذلك في تاريخها، وكذلك حاضرها. ما زالت سوريا قيد موجات ذلك التصادم، لكن حروبها لا تفَسر به وحده. في لبنان، هناك تاريخ مديد للتقاتل الطوائفي، بعض ظلاله حاضرة في حراكه الشعبي. في المقابل، قد تتوافق تلك الأصوليات، إذ تخضع لحركة التاريخ أيضاً. كيف تسير أمور الإسلامويّة السنيّة والشيعيّة في لبنان وحراكه، خصوصاً في موضوع الدولة الوطنية؟
[author title=”احمد مغربي” image=”http://”]كتب احمد مغربي[/author]