سياسة

الاحتجاجات الايرانية وسياسات البطش “المقدس” !

وهو بالأصل وصف ما جرى في لبنان والعراق بأنها “أعمال شغب” يتوجب قمعها، لاسيما وأن المطالب الاقتصادية – المعيشية سرعان ما تتحول إلى مطالب سياسية، وما يصح على الدولتين اللتين تدوران في فلك نفوذه، أكثر صحة على بيته الداخلي. إلى العراق أوفد على عجل قاسم سليماني للاشراف على القمع بالرصاص.

من يراجع التصريحات التي أطلقها المسؤولون الايرانيون، حول الاحتجاجات والتظاهرات التي شهدتها عشرات المدن، وقادت تبعاً لتقدير منظمة العفو الدولية إلى سقوط ما يقارب مائتين من المتظاهرين وألوف المعتقلين، يلحظ مدى انفصال هؤلاء المسؤولين عن الواقع الذي تسبب في هذه الموجة من التحركات. ففي عرف المسؤولين أن التظاهرات مؤامرة قام بتنظيمها الأعداء، وهي بمثابة حرب عالمية عليهم، ومؤامرة اقليمية ـ دولية على سلطاتهم، وهم قادرون على مواجهة الدول المدَبرة والانتصار عليها، اذا ما تجاوزت الخطوط الحمراء. وهي هنا الولايات المتحدة واوروبا والمملكة العربية السعودية واسرائيل. وتبعاً لذلك فإن الأمة الايرانية كما انتصرت في الميادين العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية قادرة على تحقيق الانتصار وتلقين هؤلاء الأعداء درساً جديداً.
أما القائمون بهذه التظاهرات في الشوارع والساحات فهم خونة وجواسيس وعملاء ومرتزقة وارهابيون وأشرار، وتابعون، ينفذون أوامر وإملاءات مجاهدي خلق، وما شابهها من قوى داخلية متآمرة مع الخارج، تستحق القمع المميت والسحق و.. لذا لم يكن غريباً أن يعلن هؤلاء المسؤولون عن انتصارهم على الأعداء المنتفضين. وافتراض النجاح في وأد الحراك الجماهيري لا يعني بأي حال من الأحوال معالجة السبب الذي كان وراء التحرك في أكثر من مائة مدينة ايرانية في عموم البلاد، بعد رفع أسعار البنزين بحوالي 200% عن أسعاره السابقة. ومع أن السلطات حاولت تسويق هذه الزيادة والترغيب بقبولها، بالإدعاء أنها لن تدخل إلى خزينة الدولة، إذ سيجري تحويلها إلى الفقراء الذين باشرت أجهزة الدولة إحصاءهم، الا أن ذلك لم ينفع في تهدئة الشارع الذي انفجر على نحو صاعق مهاجماً مقار الحرس الثوري ومخافر الشرطة ومحطات الوقود والبنوك، مقتلعاً في طريقه الاشارات الكهربائية وتجهيزات الطرقات.
كان المرشد الأعلى علي خامينئي الأكثر حزماً في ضرورة قمع الانتفاضة، وأدرك أن المسألة تتعدى الجانب الاقتصادي المعيشي من حياة الايرانيين الذين يعانون في تدبير شؤون يومياتهم بعد التراجع المتلاحق في قيمة النقد الوطني وارتفاع الأسعار، وهو بالأصل وصف ما جرى في لبنان والعراق بأنها “أعمال شغب” يتوجب قمعها، لاسيما وأن المطالب الاقتصادية – المعيشية سرعان ما تتحول إلى مطالب سياسية، وما يصح على الدولتين اللتين تدوران في فلك نفوذه، أكثر صحة على بيته الداخلي. إلى العراق أوفد على عجل قاسم سليماني للاشراف على القمع بالرصاص. وفي الداخل جرى تجهيز كتيبة الامام علي وكتيبة الامام الحسين وكتيبة عاشوراء للقيام بالمهمة ذاتها، فضلاً عن أجهزة ووحدات من الأمن والشرطة وغيرها. وبالفعل جوبهت التحركات بأمرين متلازمين هما: قطع الانترنت عن البلاد واطلاق حملات القمع من عقالها. كان من الواضح أن القيادة تريد للأمر أن يتم بعيداً عن أعين العالم وأجهزة التواصل السريعة، وبعدها استعملت كل الوسائل الوحشية في قتل مئات المتظاهرين وسوق الألوف منهم إلى أقبية السجون بتهم متنوعة ليس أقلها العمالة للخارج، وتلقي التعليمات منه للقيام بعمليات التخريب. وسط حالة التعتيم السائدة كان يتم ضخ المزيد من الإدعاءات من أن التحركات أسبابها معيشية وليست سياسية. بمعنى أن سلطات المرشد الأعلى وفريقه في المسؤولية هي فوق الشبهات ولا تقربها حركة الاحتجاج. وهو أمر إن دل على شيء فهو يدل على رفض الاعتراف بالمأزق الذي تقود السلطة البلاد إليه. خصوصاً مع حال الحصار الاقتصادي الذي تعانيه ايران جرّاء العقوبات الاميركية التي بلغت حد منع البلاد من الإفادة من مخزونها من الغاز والنفط كثالث احتياط في العالم لتقليص حدة الفجوة المعيشية التي تزداد اتساعاً في البلاد بين الطبقات الوسطى والفقيرة والطبقات الغنية المترفة، بمن فيهم الملالي الذين يتربعون على سُدة السلطة، وقد باتوا كمتربحين من سلطاتهم الدينية والمدنية من ذوي الثراء الواسع. يفاقم هذا الوضع الإنفاق العسكري بشكليه الداخلي والخارجي. فالدولة الايرانية تعمل دون كلل أو ملل على تضخيم آلتها العسكرية، بدءاً من زيادة التخصيب في المفاعلات النووية والصواريخ، وصولاً إلى شراء التجهيزات الحربية المتطورة. يضاف إلى ذلك التحويلات المالية التي تتوجه من ايران لتمويل أذرعها العسكرية على امتداد المنطقة العربية، ما يعني أن جزءاً لا يستهان به من الإمكانات المالية الشحيحة الآن، ينفق للحفاظ على ولائها لنظام ولاية الفقيه، وللقيام بالأدوار المناطة بها في خدمة الاستراتيجية الايرانية، وتمويل عمليات الاختراق التي تمارسها للبنى السياسية والإدارية والعسكرية لدول المنطقة. لذلك لم يكن يكن غريباً أن يهتف الايرانيون المنتفضون رفضاً لمثل هذه السياسة التوسعية في لبنان واليمن وسوريا وغزة وغيرها.
قد يكون صحيحاً من الناحية الأسمية أن سلطات المرشد الأعلى كما أعلن بنفسه، مع روحاني قد انتصرت على الحراك الذي تعرض للقمع، ولكن الأصح أنه سيعاود الانطلاق، إذ إن ما حدث خلال الاسابيع الماضية هو بمعنى من المعاني عملية استكمال لمسلسل من الانتفاضات على “السلطة المقدسة” للمرشد وفريقه، ولعل أبرزها كانت الثورة الخضراء التي تفجرت في أعقاب التلاعب بنتائج الانتخابات الرئاسية بين المرشح الاصلاحي مير حسين موسوي وأحمدي نجاد في العام 2009، والتي أعقبها وضع الأول مع مهدي كروبي إلى الآن في الاقامة الجبرية، وتعرض تيارهما لضربة كبرى.
يبقى القول أنه رغم ما يبدو من متانة وضع النظام الايراني، الا أن الفعلي أنه و منذ أسسه الامام الخميني يحمل عطباً بنيوياً رغم الأشكال التمثيلية والانتخابية التي يتمتع بها، فالواقع الايراني يؤشر إلى سلطة تحمل مشروعاً فارسياً يتظلل عباءة المذهب الإثني عشري وولاية الفقيه، بينما يخفي واقعاً عملية تمييز قومي فاقعة، لا تعبأ بمصالح أكثرية فارسية تمثل 55% من السكان، ولا بمصالح 45% من مختلف المعتقدات والإثنيات من العرب والتركمان والكرد والأذريين والأوزبك والبلوش والترك. يساعد على ذلك طبيعة جبلية ذات كثافة سكانية وحصار وعقوبات اقتصادية قاسية، أدت عملياً إلى إخراج البلاد من دورة الاقتصاد العالمي وبقائها فقط على علاقة مع كيانات ينخرها الفساد من الأعلى إلى الأسفل.
[author title=”محرر الشؤون الدولية” image=”http://”]كتب محرر الشؤون الدولية[/author]