سياسة

الدولة المفقودة والنوم وسط قبور المصير المجهول!

زكي طه

من المؤكد أن الانتخابات النيابية الاخيرة كانت محطة في مسار طويل، وسيكون لها ما بعدها، في ضوء نتائجها ومضاعفاتها على أكثر من صعيد. ولذلك ستبقى موضع مراجعة لاتصالها بما هو مقبل. ولدى التدقيق في أداء أهل السلطة والحكم حيال أوضاع البلد الكارثية، تجدهم يديرون الحكم وشؤون البلاد وسط اطمئنان شديد، وفق معادلة  أن كل القضايا تحتمل التأجيل والمزيد من البحث والتشاور، باعتبارها امتداد لمشكلات قديمة وموروثة ومتجددة في آن. عدا أنها متداخلة ومترابطة بغض النظر عن اسبابها وسياقاتها الداخلية والخارجية ومساراتها. لذلك بإمكان أي طرف أو جهة أن تحدد الأولويات بينها كما تشاء، تبعاً لاجتهاداتها ومصالحها ومآربها الفئوية الضيقة وارتباطاتها الخارجية. وعليه يتابع المسؤولون خلافاتهم بشأنها من بوابة قضايا الهوية الوطنية، وموقع لبنان وحدوده وحقوقه، ويشاركهم  الأداء عينه، جميع القوى السياسية اللبنانية دون استثناء.

هكذا كان الامر ولم يزل منذ تأسيس دولة لبنان الكبير قبل مائة عام. وفي هذا السياق يقع ملف المفاوضات المتعثرة بشأن ترسيم الحدود البحرية مع الكيان الاسرائيلي لتحديد مياهنا الإقليمية وحقوقنا النفطية فيها. ومثله ملف ترسيم الحدود البرية معه، الذي لم يزل عالقاً منذ صيف العام 2000، بين الخط الازرق وخط الحدود الدولية. وفي امتداده تستمر مفاعيل الاحتلال الاسرائيلي لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا المحتلة بكل التباساتها، بين من يملكها، وهل هي ارض لبنانية أم سورية. وفي المقابل يستمر تداخل الحدود البرية اللبنانية ـ السورية قائماً، باعتباره قضية معلقة على مفاعيل مضاعفات أزمة العلاقات بين البلدين، بما فيها مسألة الحدود البحرية، والحقوق النفطية المستباحة، وسط صمت مطبق من جانب المسؤولين اللبنانيين.

ونظراً لتعدد الاجتهادات حول حقوق لبنان الوطنية، وبعيداً عن ضجيج الاعلام وشعبوية الشعارات، باعتبارها من لزوميات كل قضية.  يتجدد السؤال: أين تكمن مشكلة  الحدود البحرية الجنوبية وحقوق لبنان النفطية في مياهه الاقليمية؟ ومن هي المرجعية المسؤولة عن تحديد طبيعتها؟ هل هي رئاسة الجمهورية منفردة؟ وأين يقع دور الحكومة وما هي مسؤولياتها وصلاحيات رئيسها؟ من يقرر خط الحدود الدولية للبنان؟ وما هي خطة المفاوضات بشأنها، وما هي الضمانات الوطنية، والأصح الحصانات الوطنية. اي دور للمؤسسة العسكرية وضمن أي حدود وأي مسؤوليات. ومن هو المسؤول عن هذا الضياع وفوضى المواقف وتبادل التهم وانعدام  التفاهم والتنسيق بين أهل الحكم ومؤسسات الدولة؟ وهل نحن أمام دولة ومسؤولين حقاً وفعلاً يتولون إدارة ملفات قضايا البلد، أم أننا امام فوضى سلطات ومرجعيات ودويلات في لا دولة.

المؤكد أن ترسيم الحدود الجنوبية، ليس قضية جديدة أو طارئة. بعد انجاز التحرير عام 2000 وضع حزب الله يده على ملف مزارع شبعا وتلال كفرشوبا المحتلة من قبل جيش العدو الاسرائيلي. وجعل منهما ذريعة لاستمرار المقاومة وسلاحها، تحت شعار استكمال التحرير وحماية لبنان والدفاع عنه. وبعد سنوات ومع اكتشاف الثروات النفطية في المياه الاقليمية، وفشل المفاوضات مع العدو الاسرائيلي، وضع رئيس المجلس النيابي الملف في عهدته، باعتباره شأناً جنوبياً، أو قضية فئوية أو طائفية خاصة به. وبعد اعلان رئيس المجلس اطار التفاوض بالاتفاق مع الوسيط الاميركي، أصرت رئاسة الجمهورية وبذريعة صلاحياتها على التفرد في المسؤولية عن إدارة ملف المفاوضات غير المباشرة مع العدو الاسرائيلي، برعاية دولية ووساطة أميركية مباشرة. وعليه جرى تشكيل الوفد وباشر العهد وصهره وزير الطاقة ـ رئيس التيار الحر كما العادة، تنظيم سلسلة احتفالات بتحقيق إنجاز تحوّل لبنان إلى دولة نفطية. واستعرت المزايدات الشعبوية للتغطية على تنافس المسؤولين لتأسيس الشركات الخاصة للاستثمار في خدمات التنقيب وتجارة النفط.

سريعاً تعثرت المفاوضات بسبب الانحياز الاميركي لاسرائيل، في موازاة احتدام الصراع حول موقع لبنان في المنطقة بين المحاور الاقليمية الدولية المتنازعة فيها وعليها، في ظل اختلال التوازنات الداخلية بقيادة تحالف حزب الله والتيار الحر برعاية رئيس الجمهورية لمصلحة النفوذ الايراني. وجرى وضع لبنان في دائرة الحصار المالي والاقتصادي، وطالت العقوبات العديد من المسؤولين اللبنانيين بما فيهم رئيس تيار العهد.  وأمام اصرار رئيس الجمهورية على توظيف المفاوضات في صراعات اهل السلطة والنزاع على الصلاحيات، وفي سبيل إزالة العقبات امام وصول الوزير جبران باسيل لرئاسة الجمهورية، لم يتردد الرئيس من استغلال الالتباس المتعلق بخط الحدود البحرية المعتمد لبنانياً لدى الامم المتحدة. لذلك استحضر خرائط الخط 29 وشجع الوفد اللبناني على وضعها على طاولة المفاوضات في الناقورة. الأمر الذي أثار استياء لدى الوسيط الاميركي الذي رأى في ذلك نقضاً لاطار التفاوض المتفق عليه، وسهل للعدو الاسرائيلي تحميل المفاوض اللبناني مسؤولية تعطيل المفاوضات وتعليقها.

تكشَّف أداء رئيس الجمهورية عن محاولة استغلال المفاوضات من خلال طرح خرائط الخط 29، ومقايضته بالغاء العقوبات الاميركية عن صهره بهدف تعويم ترشيحه إلى رئاسة الجمهورية. أما محاولة التنصل من المسؤولية وإحالتها على الحكومة، فقد اسقطها  توقيع رئيسها والوزراء المعنيين. ولذلك انتهى الرئيس في موقع العاجز عن توقيع مرسوم تعديل الحدود الدولية البحرية المعتمد لدى الامم المتحدة، ما يعني أنه لا يرى في الخط 29 حد الحدود الدولية والمياه الاقليمية للبنان.

وبذلك أضيف ملف الحدود البحرية والثروة النفطية إلى سائر ملفات القضايا والأزمات التي يتخبط بها لبنان واللبنانيين دون أن تجد لها حلولاً، في ظل إدارة العهد وسائر أهل السلطة  الذين يتعيشون على الاستثمار في الأزمات المزمنة والمستجدة، وعبر إدامة الخلافات والمنازعات في ما بينهم بشأنها، وفق قواعد محاصصة مواقع النفوذ.

بصرف النظر عن  ضجيج التهديد والوعيد، وعن استجداء عودة الوسيط الاميركي، الذي ينتظر جواباً لن يحصل عليه. تتابع دولة العدو  بدأب، وبغض النظر عن أزمات الحكم فيها، تحضيراتها واستعداداتها لتنفيذ عدوانها ومباشرة العمل لضمان مصالحها، وتوسيع مساحات علاقاتها وحضور استثماراتها النفطية والغازية في وقت أحوج فيه العالم إلى هذه الطاقة بعد توقف أنابيب الغاز والنفط الروسية عن التوريد إلى اوروبا. أما في لبنان فتجدنا نجتر المزايدات الشعبوية ونقيم استنفارات شد العصب وسط أهازيج الحرب التي لن تقع، لأن من يقرر حصولها عندنا ليس من يتولى التلويح بها. بل اصحاب المصالح فيها، أي اميركا واسرائيل من جانب، والنظام الايراني من جانب آخر، أما الضحية فهي مصالحنا الوطنية اللبنانية أولاً وأخيراً.

أما الخطب النارية لفظاً، وحمّالة الأوجه والوظائف المتعددة مضموناً سواء في الداخل اللبناني أو حيال العدو الاسرائيلي، فقد غابت عنها المعادلات الذهبية الوهمية. أما إجازة المفاوضات وربطها بسلسلة شروط تحت عنوان تحصين المفاوض اللبناني، ثم إعلان الوقوف خلف الدولة، فإنه يطرح السؤال عن أي دولة يتحدث قادة حزب الله. هل هي الدولة المفقودة وقد شُل عصبها وعُطلّت مؤسساتها، لمصلحة دويلة الحزب المدججة بفائض قوة الايديولوجيا وكنز السلاح، أم عن اشباه الدويلات الرديفة لشركائه في منظومة الحكم. والتي يتبادل القيمون عليها جميعاً تهم الفساد والخيانة على مذبح الطائفية والشعارات الوطنية للتغطية على أداء منظومة الفساد وسياسات المحاصصة والارتهان للخارج.

المؤكد أن حماية لبنان والدفاع عنه وصون حقوقه وأرضه هي مسؤولية كل اللبنانيين المعنيين ببناء دولة، كي يبقى لهم وطن. أما تلزيمها لحزب أو طائفة أو إحالتها على الخارج الاميركي فهو لا يعني أكثر من الاقامة وسط قبور المصير المجهول.

Leave a Comment