كتب جمال حلواني
من السهل إحالة المسؤولية عن فشل الانتفاضة في التغيير، على المنظومة السياسية الحاكمة والتركيبة الطائفية للنظام المحكم الاغلاق، وتجاهل واقع الانتفاضة ومسيرتها على مدار أكثر من عام، وما رفعته من شعارات ومطالب تفوق قدرتها علي التحقيق، من اسقاط النظام والحكومة واستعادة الاموال المنهوبة واستقلالية القضاء ومكافحة الفساد ومحاكمة المسؤولين واسقاط حكم المصرف، والخلاص من الطبقة الحاكمة ونزع السلاح والدعوة للانتخابات المبكرة وتشكيل الحكومات على طريق إقامة النظام البديل و….
وللتذكير أنه بعد مضي اسابيع، اعطت استقالة حكومة الحريري الملتسبة، للانتفاضة زخماً، واعتقد غالبية اللبنانيين أن التغيير قادم، وأنهم قاب قوسين او ادنى من انهيار السلطة وتشكيل البديل. إلا أن تشكيل حكومة حسان دياب احبط الناس، ما دفع غالبية مجموعات الانتفاضة إلى الاعتراض عليها ورفض القبول بها والدعوة لاسقاطها. وانعكس ذلك على الساحات تراجعاً في المشاركة مع انسحاب بعض المجموعات تحت عنوان ضرورة اعطاء فرصة لدياب ثم “نحاسبه” على فشله.
وقد تزامن التشكيل وجلسة الثقة وما رافقها من شغب وقمع وبدء انتشار وباء كورونا، مع تضاؤل اعداد المشاركين، وتكاثر الاسئلة حول قدرة الانتفاضة على الفعل وأفق التغيير السياسي رغم استمرار رفع الشعارات والمطالب السياسية التغييرية باسم الشعب اللبناني، وتحميل الانتفاضة أوهام وأحلام غير قابلة للتحقيق بعيداً عن أي مشروع وبرنامج عمل.
طوال أشهر الانتفاضة كانت تتوالد المجموعات حتى فاقت المئات، واختلط الحابل بالنابل، وسادت فوضى التشكيلات والدعوات إلى التحرك وغاب التنسيق. ومع تراجع الوباء جرت محاولة تجديد الانتفاضة وتجميع القوى في حزيران الماضي، إلا أنها باءت بالفشل، بعد اصرار عناصر محدودة على المطالبة بتنفيذ القرار 1559، ما أدى إلى انسحاب قوى ومجموعات عديدة وظهور حالة انقسام بين الصفوف حول موضوع سلاح حزب الله.
مع الاسابيع الاولى بدأت المجموعات والقوى المشاركة تتشكل في تنسقيات وتعقد تحالفات غابت عنها الروابط أو القواسم المشتركة ووحدة الشعارات والمطالب. وكان يجمعها عنوان توحيد الثورة وإنتاجها قيادتها. وكانت التنسيقيات والجبهات تكرر نفس الرؤية السياسية والمطالب وإن اختلفت العناوين. أما تداخل المشاركة فيها بين المجموعات، فسببه التنافس على الأدوار القيادية فيها، على قاعدة إدعائها جميعاً الاهلية والترشح لاستلام السلطة أو المشاركة لحظة انهيارها باعتبارها مسالة وقت.
غير أن كل الجبهات والتنسيقات ولدت مأزومة وعاجزة عن الاستمرار لانها تشكلت وهي تحمل عوامل فشلها معها، في ظل أوهام مصادرة تمثيل الانتفاضة ولعب ادوار رئيسية تؤهل اصحابها للمشاركة في السلطة، أو في أية تركيبة أو تسوية سياسية يمكن ان تحصل، ما شكل مصدر خلاف بين المجموعات على من يتولى القيادة.
أما غرق مجموعات الانتفاضة برفع بشعار “إسقاط حكم المصرف” وتكرار التظاهر امام المصارف، وممارسة الشغب والتكسير لواجهاتها باعتبارها المسؤولة عن الانهيار المالي، ورفع شعار اسقاط الحاكم رياض سلامة، فقد شكل ما يشبه تبرئة لأركان نظام المحاصصة الطائفية في السلطة عن نتائج سياساتهم الاقتصادية والمالية على مدار ثلاثين سنة. خاصة أن الطرح وما رافقه من الممارسات الفوضوية الطفولية اشعرت الناس وجمهور الانتفاضة أن مسارها اخذ في التبدل لمصلحة السلطة واحزابها، ما ساهم إلى جانب القمع الرسمي والميليشياوي بتراجع المشاركة في التحركات الى حد غياب الجمهور عنها. وكذلك لم تكن محاولة نقل التحركات نحو الدوائر والمؤسسات الحكومية أقل فشلاً من سابقاتها.
وقد شكل انفجار المرفأ وتظاهرة 8 آب والحشد الشعبي الغاضب في الساحات، محطة لم تستطع الانتفاضة ان تستثمرها لتجديد زخم تحركاتها، نتيجة رهانات بعض مجموعاتها على التدخلات الخارجية من خلال التواصل مع موفدي دولها خاصة الفرنسي والاميركي، وسط اوهام أن الخارج سيتولى عملية التغيير ويسلمهم السلطة. لكن الأجوبة التي حصلوا عليها شكلت صدمة للجبهات التي تشكلت بعد استقالة حكومة حسان دياب وما رافقها من ترشيحات وتشكيل حكومة ثورية، ومطالبة المجتمع الدولي بدعمها والاعتراف بها، حتى أن بعضها بدأ التحضير لانتخابات نيابية مبكرة اعتقاداً منه باقتراب موعد استلام الثورة للسلطة.
والثابت أنه غاب عن غالبية المجموعات قراءة عوامل قوة النظام المأزوم ، وجرى تجاهل قدرة أطراف السلطة على استيعاب الاحتجاجات وتيئيس الناس، وتفكيك التحركات سواء بقوة القمع أو من خلال اختراقها، بما فيه تشكيل المجموعات وتوجيهها لرفع الشعارات التي تخدمها، والمشاركة في التنسيقيات والتحركات وحرفها عن اهدافها. وساهم هذا في شلل معظم التنسيقيات والجبهات والمنصات المربكة والمفككة اصلاً، وقد باتت تدور حول نفسها وسط مأزق العجز عن الحد الأدنى من التحرك والفعل.
ونتيجة رفض مواجهة الاسئلة الصعبة حول اسباب تجدد الإحباط والتخبط والعشوائية، يسود الهروب من مسؤولية تقييم تجربة الانتفاضة واستخلاص دروسها. في وقت تتابع اطراف السلطة سياساتها وممارساتها وسط اطمئنان كامل أن الانتفاضة لم تعد تشكل مصدر قلق أو احراج في الداخل او مع الخارج.
رغم ما وصفناه من هامشية الانتفاضة، تبقى أنبل ظاهرة عرفها تاريخ لبنان الحديث. فهل يشكل عجز مجموعاتها عن الاحتفال بمناسبة الاستقلال هذا العام محطة لإعاده قراءة تجربة وجودها وجدواها، والتخلي عن المكابرة في الاعتراف بأزمتها بدءاً من طرح الاسئلة الصحيحة، والبحث المشترك عن الاجوبة الفعلية بهدف تجديد الأمل بالانقاذ.
Leave a Comment