* المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات
سجلت الانتخابات التشريعية الفرنسية، التي أُجريت على دورتين في 12 و19 حزيران/ يونيو 2022، نسبة مرتفعة من امتناع الناخبين عن التصويت (54 في المئة). وتدل هذه النسبة، التي باتت تتكرر في السنوات الأخيرة وفي مختلف الانتخابات التي تجري في فرنسا، على استمرار الفجوة وتوسعها بين الناخب ومؤسسات الدولة. وقد أشارت دراسة نُشِرت نتائجها سنة 2021 إلى أن 44 في المئة فقط يثقون بعمل مجلس النواب وفاعليته، مقابل نسبة 85 في المئة سنة 1985. وكان الامتناع عن التصويت أكبر بين الفئات العمرية الأكثر شبابًا. وبحسب مؤسسة “إيبسوس” لاستطلاعات الرأي، تبلغ نسبة الامتناع لدى الشريحة العمرية بين 18 و24 سنة 69 في المئة، وترتفع إلى 70 في المئة لدى الشريحة العمرية بين 25 و34 سنة.
تحالف حاكم وأغلبية غير كافية
في ظل الاهتمام الشعبي المتراجع بالعملية الانتخابية، أسفرت انتخابات الجمعية الوطنية (البرلمان) عن نتائج سيكون لها تداعيات كبيرة على المشهد السياسي الفرنسي، خلال سنوات عديدة مقبلة. فقد حصل تحالف “معًا” الذي يضم ثلاث قوى سياسية قريبة من الرئيس إيمانويل ماكرون، وهي “الجمهورية إلى الأمام” و”آفاق”، و”حزب الوسط”، على 246 مقعدًا؛ وهو عدد يقع دون الأغلبية المطلقة التي تسمح للتحالف الحاكم بإدارة شؤون البلاد استنادًا إلى مجلس نيابي داعم، وهي 289 مقعدًا على الأقل. ولقد شكلت هذه النتيجة المتواضعة للتحالف الحاكم ورئيسه إيمانويل ماكرون، الذي أُعيد انتخابه لولاية رئاسية جديدة منذ شهرين، هزة كبيرة لموقع الرئيس الذي كان توجّه قبل ساعات من الجولة الثانية إلى الفرنسيين، طالبًا منحه الأغلبية المطلقة التي تسمح له بإنجاز الإصلاحات التي وعد بإطلاقها منذ ولايته الأولى التي بدأت سنة 2017، وعلى رأسها القانون الناظم للتقاعد، والقرارات المتعلقة بتحسين القوة الشرائية، وكذلك القرارات المتعلقة بمعالجة المسائل البيئية والمناخية الملحة.
تحالف اليسار القلق
دخل رئيس حركة “فرنسا الأبية”، جان لوك ميلانشون، بعد أن استطاع توحيد قوى اليسار التي عانت طوال السنوات السابقة خلافات وانقسامات عدة، أدت إلى بلوغها حد الزوال من المشهد السياسي، على أمل الحصول على الأغلبية المطلقة؛ ما يفرض على رئيس الجمهورية اختياره رئيسًا للوزراء في حكومة تعايش كما ينص على ذلك القانون. وقد ضم التحالف الذي جرى تشكيله، بعد مفاوضات شاقة، إلى جانب حركة فرنسا الأبية، حزب الخضر والحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي. وعلى الرغم من أنه حصل على عدد كبير نسبيًا من المقاعد (142 مقعدًا)، فإنه ليس كافيًا لانتزاع رئاسة الحكومة. ومع أن تحالف اليسار بات الكتلة المعارضة الأكبر نظريًا في البرلمان، فإنه ليس مؤكدًا أن تستمر الوحدة التي جمعت بين أطرافه لعبور مرحلة الانتخابات.
وتتعلق أهم الخلافات، التي قد تؤدي إلى تفكك تحالف اليسار، بقضايا الطاقة النووية، والعلاقة مع المؤسسات الأوروبية، ومع حلف شمال الأطلسي “الناتو”. ففيما يخص ملف السياسات النووية لفرنسا، يسعى ميلانشون، من خلال برنامجه المعلن، للعمل بصفة تدريجية على إغلاق كل المفاعلات النووية، والتحول إلى مصادر الطاقة البديلة والنظيفة. وفي حين يتفق الخضر معه في هذا الطرح، يرفض الاشتراكيون والشيوعيون هذا التوجه تمامًا. كما أن القوى اليسارية المتحالفة مع فرنسا الأبية متمسكة بالمشروع الأوروبي السياسي والاقتصادي والنقدي، على الرغم من دعوتها لإصلاح بعض جوانب الأداء فيه. في حين تتسم سياسة فرنسا الأبية بالتشكيك المتواصل في المشروع الأوروبي. وعلى الرغم من امتناع ميلانشون مؤخرًا عن الحديث عن الانسحاب القريب من الاتحاد الأوروبي ومن الناتو كما سبق أن نادى به مرارًا، فإن شكوكه في جدوى تمسك فرنسا بعضويتها في الجسم الأوروبي مستمرة.
تحالف محتمل مع اليمين المعتدل
ما يزال في إمكان حزب “الجمهوريين” الذي يمثل يمين الوسط في فرنسا، والذي انخفض عدد مقاعده من 101 مقعد في المجلس السابق إلى 64 مقعدًا في المجلس الجديد، الاضطلاع بدور مهمّ في ترجيح كفة التحالف الحاكم، أو التسبب في عرقلة مشاريع القوانين التي يطرحها في الجمعية الوطنية. ويتوقع مراقبون أن يسعى الرئيس ماكرون لتشكيل تحالف مع حزب الجمهوريين، للوصول إلى الأغلبية المطلقة التي تمكنه من الحكم. ومع أن لدى بعض قادة الحزب “المعتدلين” ميلًا إلى هذا السيناريو، فإن الاتجاه المسيطر في الحزب هو الامتناع عن الدخول في تحالف حكومي مع تحالف “معًا” أو دعمه. ويفضل هؤلاء تبنّي استراتيجية تقوم على تحالفات مرحلية لتمرير قوانين بعينها؛ ما يسمح لهم بالحفاظ على استقلاليتهم عن التحالف الحاكم. ويعود مصدر هذه السلبية والشك في التعامل مع الرئيس ماكرون إلى التخوف من ميله إلى إضعاف حزبهم، وذلك من خلال اجتذاب بعض رموزهم المؤثرة وإشراكهم في الحكم، كما سبق أن فعل في ولايته الأولى. ففي السنوات الماضية، استطاع الحزب الحاكم تعيين وزراء جرى استقطابهم من اليمين المعتدل، كوزير الداخلية، ووزير الاقتصاد، ووزير التربية. وفي الوقت نفسه، يتعاظم دور وتأثير تيار داخل حزب الجمهوريين يميل إلى التطرف على نحوٍ جلي. وفي هذا الإطار، عبّر قادة في هذا التيار عن التقائهم في أكثر من قضية مع حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف، وخصوصًا فيما يتعلق بملفات معالجة مسألة الهجرة وتعزيز الأمن الداخلي.
مفاجأة اليمين المتطرف
ساهمت عدة عوامل، في العقود الأخيرة، في تعزيز ثقة اليمين المتطرف بنفسه، وفي إتاحة الفرصة له للإفصاح عن مواقفه بوضوح وبلا مواربة؛ أهمها أن كل القوى السياسية التقليدية أخذت في السنوات الأخيرة تميل إلى استخدام الخطاب العنصري المعادي للأجانب، في إطار التنافس على اجتذاب الناخب القلق أمنيا ومعيشيًا. وقد ساعد ذلك في تعزيز فرص اليمين المتطرف المتمثل بحزب التجمع الوطني، وتشجيعه على الإفصاح بوضوح عن مواقفه. وقد تحولت مئات الآلاف من أصوات المزارعين وصغار الكسبة والعمال إلى اليمين المتطرف، بعد أن فشلت قوى اليسار في الاحتفاظ ببنيتها الأساسية، وتحولت هي أيضًا إلى أحزاب تسعى لتحقيق مكتسبات سياسية انتخابية آنية، وابتعدت عن النقابات التي كانت دعامتها الأساسية تاريخيًا.
دفع هذا وسواه إلى حصول المفاجأة في الانتخابات التشريعية الأخيرة؛ حيث حصل حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف على 89 مقعدًا في مجلس النواب، بعد أن كان عدد ممثليه في المجلس السابق لا يتجاوز 8 نواب (أي إن عدد ممثليه تضاعف 11 مرة)، علمًا أن النظام الانتخابي الفرنسي يعتمد على قاعدة الأغلبية، وليس النسبية، وهو ما كان ينبغي له أن يساعد في إبعاد مرشحي اليمين المتطرف عن الفوز.
وقد عكست نتائج الانتخابات الرئاسية، التي جرت في نيسان/ أبريل 2022، الوزن الكبير الذي بات يحظى به اليمين المتطرف على الساحة السياسية الفرنسية؛ فقد حصلت زعيمته، مارين لوبين، على عدد كبير من الأصوات، خوّلها العبور إلى الجولة الثانية، منافسةً وحيدة للرئيس ماكرون. وبالنتيجة، بدا كأنها القوة السياسية الثانية في البلاد، فمن المؤكد والحال هذه أن تحصل على عدد يتناسب مع حجمها السياسي من النواب.
بهذه النتيجة، وبعد أن عانت مارين لوبين وحزبها طوال سنوات، ضائقة مالية ناجمة عن خوض عدة حملات انتخابية رئاسية وبلدية وإقليمية، ما دفعها إلى الاقتراض من مصارف روسية مقربة من الكرملين، فإن الحصول على 89 مقعدًا، سوف يمكنها من الحصول على مخصصات كبيرة من الدولة بناءً على عدد المقاعد الذي حصلت عليه؛ ما سيسمح للحزب بتسديد كل الديون، والتمتع بوضع مالي مريح يسمح له بالاستثمار أكثر في قواعده وزيادة عدد مكاتبه، وترسيخ وجوده في المشهد السياسي المحلي، وتطبيع علاقاته مع الأحزاب الأخرى، ليتحول التطرف اليميني تدريجيًا إلى تيار سياسي “مقبول” ومعترف به في الساحة السياسية الفرنسية.
تحولات بنيوية في المشهد السياسي المحلي
درجت الحكومات الفرنسية، التي كانت تواجه مجلسًا نيابيًا معارضًا لسياساتها، على استخدام بند دستوري هو البند رقم 49 لتمرير القوانين رغمًا عن إرادة البرلمان. ولكن جرت تعديلات أخيرة، صارت تسمح باستخدام هذا البند مرة واحدة فقط في كل دورة برلمانية. ومن ثمّ، فقد جرى الحد من القدرة على استخدامه لفرض الإرادة الحكومية على برلمان معارض. وفي ظل هذا الوضع، سيجري غالبًا الاعتماد على توافقات مرحلية أو جزئية بين الأحزاب للحصول على أغلبية تسمح بتمرير القوانين. كما يتوقع، نتيجة ضعف موقف الرئيس بعد الانتخابات التشريعية، أن تتناقص قدرته على جذب ما يكفي من نواب من بين صفوف اليمين التقليدي، لإنشاء شبكة أمان لأي حكومة يجري تشكيلها.
على مدى عقود ظل الفرنسيون يستحضرون تعبيرًا يوحّدهم، في مواجهة قوى اليمين المتطرف والعنصري، وهو تعزيز “الجبهة الجمهورية”. وطالما نادت القوى السياسية التقليدية بضرورة الاتحاد بين كل القوى التي تنتمي إلى مبادئ الجمهورية الفرنسية البعيدة عن التطرف والعنصرية، وهي قيم العدالة، والإخاء والمساواة، وذلك لمواجهة المتطرفين اليمينيين. لكن الخطاب السياسي والإعلامي، الذي ساد في السنوات الأخيرة، لم يعد يسمح بذلك، بعد أن صار من المقبول أن يجري تصنيف اليسار المتشدد، الذي لا تقبله سياسات الحكومة القائمة، في جدول “القوى المعادية للجمهورية” أو اعتباره أيضًا تطرفًا مساويًا لليمين المتطرف. وحتى في أحلك الظروف الانتخابية، تراجع التقليديون عن سياسات عزل اليمين المتطرف، وباتوا يعتبرونه نظيرًا لليسار المتشدد. وبالنتيجة، صارت الدعوات للتصدي لليمين المتطرف أقل تأثيرًا، بعد أن كانت قادرة في سنوات سابقة على إطلاق مئات الآلاف من المتظاهرين في شوارع المدن الفرنسية.
سوف تحوّل نتائج الانتخابات الأخيرة النظام الفرنسي، من نظام شبه رئاسي يعطي السلطة التنفيذية مجالًا واسعًا، إلى نظام برلماني بامتياز يعتمد على التوافقات؛ وهو ما لم تعتد عليه القوى السياسية الفرنسية، منذ قيام الجمهورية الخامسة سنة 1958. وسوف يحاول الفرنسيون الاستفادة من تجربة ألمانيا، في بناء وتعزيز التوافقات السياسية التي مكنت من إدارة شؤون البلاد، والتقليل إلى الحد الأدنى من التجاذبات السياسية التي تعيق تمرير القوانين وإقرار السياسات. لكن التجربة السياسية الفرنسية تشير إلى أن التناقض بين قوى اليمين واليسار كان دائمًا يسيطر على المشهد السياسي، ويعيق الوصول إلى توافق سياسي يساعد على التقدم. وهكذا، فإن محاولة تقليد التجربة الألمانية أو حتى الإيطالية في التعايش بين القوى المختلفة سياسيًا قد لا تؤتي أكلها في الحالة الفرنسية.
لا شك في أن نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة حرّكت الركود السياسي، وصار في إمكان جميع القوى السياسية الفرنسية المشاركة في العملية التشريعية، بنسب تعكس حقيقة حضورها في المشهد السياسي العام، بعد أن ساهم النظام الانتخابي الذي يعتمد على الأغلبية المطلقة في ترسيخ ثنائية حزبية شبه مكررة خلال عقود طويلة. لقد قدمت هذه الانتخابات نموذجًا جديدًا لمسار مختلف، أنتج مجلسًا معقد التركيب، إن لم يجرِ حلّه ولم يدْع رئيس الجمهورية إلى انتخابات مسبقة، كما يسمح له الدستور بذلك، فسوف تكون تجربة جديدة لم يعهدها الفرنسيون من قبل. في المقابل، مع وجود عناصر متطرفة يمينية فاعلة فيه، ستتأجج الميول المتشددة يسارًا لمواجهتها، وستميل بعض قوى الوسط أو الاعتدال إلى التمايز، بحثًا عن ثغرة تمرّ من خلالها إلى الشريحة الأوسع من الفرنسيين.
على الرغم من أن مجلس النواب الجديد يعكس حقيقة المشهد السياسي الفرنسي، فإن كتلة التطرف العنصري الكبرى التي نفذت إليه ستشكل خطرًا بنيويًا على العملية الديمقراطية في حد ذاتها، من حيث تعزيز التشدد والإقصاء. وهذا يفرض على القوى السياسية التقليدية، من اليمين كما اليسار، العودة إلى قواعدها والسعي لإعادة الناخبين لممارسة دورهم المطلوب في المشاركة في العملية السياسية انتخابًا وترشيحًا.
*نشرت في العربي الجديد والمدن في27/ 6/ 2022
Leave a Comment