سياسة

رحلة الشعب السوداني للخلاص من الحكم العسكري طويلة وشاقة

 زاهي البقاعي

نفذت “لجان المقاومة السودانية”، وتيارات سياسية، و”تحالف إعلان الحرية والتغيير” تظاهرات ومواكب احتجاجية ضخمة في مليونية شملت العاصمة و معظم مدن المحافظات في الثلاثين من حزيران / يونيو الجاري، وهو اليوم الذي يصادف ذكرى خروج المليونية الكبرى للثورة السودانية في العام 2019، وهي التي أجبرت العسكر يومها على الدخول في مفاوضات لتسليم السلطة.  في آب / أغسطس 2019، أي بعد شهرين في العام نفسه، وتحت الضغط الشعبي والضغوطات الخارجية، أذعن العسكر، ووقعوا على مواثيق سياسية ودستورية مع تحالف “قوى إعلان الحرية والتغيير”، احتفظوا فيها بصلاحيات تشريفية وأخرى أمنية، وتشكلت حكومة مدنية، وتوقع الجميع أن يدخل السودان في عملية التعافي الوطني من الحكم العسكري، الذي قاد إلى تمزيق البلاد وافقارها.

لكن الأمور لم تقف عند هذه الحدود، ففي شهر نيسان / إبريل 2019، تظاهر العسكر في السودان بالانحياز لثورة الشعب الذي خرج إلى الشوارع، فأزاحوا الرئيس عمر البشير وحزبه الحاكم عن السلطة، قبل أن يدخلوا في مفاوضات مع قوى الثورة، ويتوصّلوا إلى توافقات معها بشأن تشكيل مؤسسات وأجهزة السلطة الانتقالية كخطوات سياسية نحو بناء دولة مدنية بالكامل على أنقاض حكم البشير. ولكن في أيار / مايو من العام ذاته، وقبل أن يجف حبر تلك التوافقات، نكصوا عن تنفيذها بحجج ومزاعم عديدة.

ففي 3 حزيران/ يونيو من العام نفسه، أي 2019، تورّط العسكر في جريمة فض اعتصام محيط القيادة العامة للجيش بالخرطوم، ظناً من تلك القيادة أن الاعتصام هو أكبر ورقة ضغط لدى قوى الحراك الثوري، وأن قمعه من شأنه أن يعيد الجماهير التي تظاهرت إلى بيوتها يائسة من امكانية التغيير. ما أدى إلى مقتل أكثر من 100 من المعتصمين، فضلاً عن عشرات المفقودين ومئات المصابين. وفي يوم تنفيذ الجريمة، علّق المكِّون العسكري التفاوض مع تحالف “قوى إعلان الحرية والتغيير”، ودعا إلى انتخابات مبكرة، ووعد بتشكيل حكومة انتقالية تابعة له من التكنوقراط المدنيين. خلال التظاهرات التي تبعت تلك المقتلة رفع المتظاهرون مطلب محاسبة المسؤولين عن القيام بتلك الجريمة، ووعدت القيادة العسكرية بإجراء تحقيق شفاف، ينتهي إلى تعيين المتورطين وسوقهم إلى محاكمة عادلة. وهو ما لم يحصل رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات عليها.

ولم يكتف العسكر بذلك، بل سعوا جاهدين إلى التفرد بالسطة، ما يعني مواصلة الحكم العسكري، ورفض التحول إلى الديمقراطية التي أطلقتها ثورة السودان. وتدليلاً على ذلك عملوا جاهدين على تقسيم صفوف الثورة، وتحريك تظاهرات مناوئة للحكم المدني، وتأمين حضور قوى محسوبة على حكم البشير، وتضخيم وزنها ومنحها أدواراً استثنائية، كي يجري، وجرى، تحريكها في الوقت الملائم. وهكذا تم وضع العراقيل أمام نجاح الحكومة المدنية بتأمين الانتقال السلمي السلس للبلاد، بما يعيد العسكر إلى ثكناتهم، ويجعل من الجيش قوة تنفيذية تتبع السلطة السياسية، التي يفترض أن تنتخب من الشعب في غضون السنوات الثلاثة الفاصلة عن إقرار العسكر بقيام السلطة المدنية. ثم جرى تتويج كل  ذلك بالانقلاب العسكري في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي الذي أعاد الأوضاع إلى المربع الأول. وهو الانقلاب الذي حظي يأوسع إدانة دولية وعربية واقليمية، كونه يفتح السبل نحو إغراق البلاد في مستنقع من الدم، وهي التي لم تخرج منه على أي حال، بعد أن تعثرت العملية السلمية. نتيجة هذه العزلة التي أحاطت بالمكون العسكري، عجز طوال الأشهر الماضية عن تشكيل حكومة، وتدهورت الأوضاع الأمنية والاقتصادية والمعيشية في السودان، وشهدت الاقاليم انفلاتاً وفوضى قبلية، انعكست وبالاً على إمكانية الخروج من المأزق الصعب، الذي كان في أساس الثورة أصلاً. يضاعف ذلك تأكيد العديد من الدول على وقف مساعداتها واشتراط تشكيل حكومة مدنية لمعاودتها، ورفض تأجيل ديونها المستحقة على وقع العزلة الدولية. على هذا الايقاع تدخلت أطراف عربية وافريقية ودولية في محاولة منها لتلافي انفجار الوضع، خصوصاً مع عودة النبض للشارع، الذي تأكد له أن العسكر يمارسون المناورات المتلاحقة للبقاء في سدة السلطة، ما يعني أن حكم عمر البشير باقٍ وإن بأسماء مستعارة من تلامذته الذين طالما انتسبوا إلى مدرسته .

في الثامن من كانون الثاني/ يناير الماضي، شرعت بعثة الأمم المتحدة في العمل على اطلاق جهود حوارية، انضمت إليها لاحقاً الهيئة الحكومية للتنمية “إيغاد” والاتحاد الأفريقي، لتقريب وجهات النظر بين أطراف الصراع، ودعت لاجتماعات مباشرة لهذه الاطراف، لكن “تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير” قاطع تلك الاجتماعات، انطلاقاً من ادراكه أن المفاوضات لن تقود الا إلى اعطاء مزيد من الوقت للمكون العسكري، لمتابعة ما شرع فيه خلال السنوات المنصرمة، وبهدف وحيد وأوحد هو البقاء في السلطة. لكن االتحالف تعرض إلى ضغوط دولية وعربية ما دفعه للانخراط  في اجتماعات أخرى مع العسكر، الأمر الذي قاد الاتحاد الافريقي إلى اعلان عزمه على الانسحاب من عمل الآلية، احتجاجاً على ما وصفه بأنه اجتماعات غير شفافة، في إشارة إلى اللقاءات بين المكون العسكري والتحالف، وهو انسحاب لم يعمِّر أكثر من يومين. على أن التحالف لم يقف عند هذه الاجتماعات، بل قام بعقد اجتماعات مع ممثلي الاتحاد الاوروبي ووسطاء دوليين واقليميين من أجل شرح وجهة نظره، التي تختصر بمسألة واحدة تتمثل باعتماد خطوات ملموسة لإنهاء الانقلاب، وإقامة سلطة مدنية كاملة، وعودة العسكر إلى الثكنات.

في الوقت نفسه كان التحالف يؤكد على حق جماهير الشعب السوداني في التعبير السلمي عن أهداف الثورة وتحقيق مطالبها، من هنا كان اصراره خلال تلك المفاوضات واللقاءات على تأكيد حق التظاهر السلمي،  معتبراً أن واجب الآلية الثلاثية حثّ السلطة الانقلابية على وقف العنف ضد المواكب السلمية وضمان سلامة المشاركين فيها.

يبدو الآن المشهد السياسي ضبابياً بين محاولات العسكر الاحتفاظ بالسلطة، وتحالف قوى التغيير الذي يتجه نحو تعميق حضور الشارع في المعادلة لممارسة أقصى درجات الضغط من أجل تحقيق ما سبق وأعلنته الثورة من العودة الفعلية إلى الحكم المدني، وهو أمر ما زالت دونه جبال من الصعاب المتراكمة. اذ يحاول العسكر الإفادة من أي سانحة للانقلاب على ما سبق وتعهدوا به من تسليم السلطة للمدنيين. ولعل ما شهدته الأيام الماضية على الحدود السودانية الاثيوبية من توتر تطور إلى اشتباكات شارك فيها الطيران، يؤكد أن العسكريين يعتزمون تحويل الأنظار عن الداخل إلى الحدود، مع اندلاع المعارك بين جيشي الدولتين، ثأراً لما تقول السلطات العسكرية السودانية إنه اعدام القوات الاثيوبية سبعة من جنودها ومدني واحد، بينما تقول اثيوبيا أن هؤلاء قتلوا خلال توغلهم داخل الاراضي الاثيوبية.

باختصار يمكن القول إن رحلة الشعب السوداني للخلاص من الحكم العسكري الذي طال أمده، ما تزال طويلة وقاسية. وبعدها يمكن التفرغ لحل المشكلات المتراكمة، سواء أكانت في الداخل وهي لا تعد ولا تحصى، أو على الحدود.

Leave a Comment