بول طبر
على المستوى البنْيوي، معظم المجتمعات المعاصرة تنقسم الى ثلاث مجموعات، وكل مجموعة لديها ما يكفي من المؤسسات والافكار والمعتقدات ووسائل القمع المادية لكي تحافظ على وجودها وعلى مصالحها:
المجموعة الاولى تتألف من أصحاب الثروة والممتلكات الفائضة عن حاجتهم المباشرة، ومن منتجي هذه الثروة والممتلكات التي تستجرها. والعلاقة بين هاتين الفئتين هي علاقة استغلال كان أظهر ماركس محاججاً في كتاباته، لا سيما في كتاب “رأس المال”. والاصح القول ان هذه المجموعة تتألف من طبقة مستغِلة وطبقة مستغَلة، وهما بدورهما منقسمان الى فئات طبقية دائمة التحول بسبب تطور وسائل الانتاج، الذي يرافق عملية إعادة انتاج هاتين الطبقتين (مثلاً ظهور الانترنيت وما انتجه من وظائف وعلاقات عمل جديدة. بالطبع لا حاجة في هذا السياق للكلام على الطبقة الوسطى وتركيبها المتناقض وأيضاً المتحول باستمرار).
المجموعة الثانية تتألف من المتحكمين بأجهزة الدولة والقوى السياسية الممسكة بمقاليد الحكم والحكومة. ويقابل هذه المجموعة عموم الناس الذين يخضعون إلى إرادة من هم في السلطة ويؤيدون القوى السياسية السائدة.
أما المجموعة الثالثة فتتكون من أصحاب الوجاهة والمكانة الاجتماعية الرفيعة مقابل من يملكون درجة أدنى من الوجاهة والمكانة، أو يفتقدونها بالكامل.
وعليه يكون لدينا على المستوى البنيوي أصحاب الثروة والممتلكات والسياسيين والمتحكمين بالسلطة السياسية، ومن لديهم المكانة الاجتماعية الرفيعة من جهة، ومن جهة ثانية، منتجي الثروة والمحكومين وأصحاب المكانة المتواضعة والذين يفتقدونها بالكامل.
والعلاقة بين مكونات المجموعات الثلاث تفاعلية تقوم على النزاع احيانا،ً والتحالف والتعاضد احياناً اخرى. فكما يمكن للأغنياء أن يتحالفوا ويتساندوا مع من هم في قيادة السلطة والأحزاب السياسية، يمكن لهم أحياناً أن يختلفوا بشأن إدارة الدولة وتوجهاتها السياسية والإقتصادية. فلكل حيز (الحيز الإقتصادي والحيز السياسي في هذا السياق) “لاعبينه” وفوائد تعود للطرف المسيطر في الحيز المعني (أي “الرأسمال” الإقتصادي في الحيز أو الحقل الإقتصادي، و”الرأسمال السياسي” العائد إلى الحيز أو الحقل السياسي). في المقابل، يمكن لفرص الإختلاف والنزاع بين الاغنياء والسياسيين أن تتراجع إلى حد كبير، عندما يكون أهم رموز أصحاب الثروة والممتلكات هم أنفسهم السياسيون الذين يديرون شؤون الدولة وسياساتها العامة. وعلى مستوى المتضررين من سياسة الدولة والمستغَلين إقتصادياً، فإننا نلاحظ مساندتهم لبعضهم البعض في معاركهم ضد المستغَلين، وضد القوى السياسية المتحكمة بالدولة في بعض الأحيان، وخوض كل فريق لمعركته الخاصة دون تدخل الفريق الآخر.
منطق التحالف والنزاع والتفارق يتحكم أيضاً بالعلاقة التفاعلية بين مكونات جميع المجموعات ومن بينها مكونات المجموعة المتشكِّلة حول توزيع الوجاهة والمكانة الإجتماعية (أي ما يطلق عليه تعبير “الرأسمال الإجتماعي والثقافي”). فمثلاً، نلاحظ دوماً كيف أن أصحاب الكفاءات العلمية (أساتذة وخبراء إلخ…) يتم إخضاعهم بصورة عامة من قبل أصحاب الثروة والسلطة، وذلك لدعم مصالحهم وتبرير وشرْعنة مصالحهم وممارسة سلطتهم على عموم الناس.
إلا أن ما اريد قوله هنا هو أن الخيارات والانظمة السياسية التي برزت لحد الآن لمعالجة وإدارة المجموعات الثلاث، هي إما لصالح الابقاء على هذه المجموعات، وإما لإلغائها والسعي لبناء مجتمع مختلف وبُنى اقتصادية وسياسية وثقافية بديلة.
وعموماً يمكن تصنيف هذه الخيارات إلى فئتين أساسيتين بالمعنى الواسع للكلمة: خيارات سياسية يمينية، مقابل خيارات سياسية يسارية. وأغلب الخيارات اليمينية تجسدت تاريخياً بالأنظمة النازية والفاشية والأنظمة الاستبدادية والليبرالية والنيوليبرالية والديموقراطية والملكية والملكية الدستورية. بينما الخيارات اليسارية فقد تمثلت بالدول الشيوعية على أنواعها (سوفياتية وماوية وكوبية الخ..) إضافة الى خيارات الاشتراكية الديموقراطية التي تجسدت بالأحزاب الإشتراكية الديموقراطية في أوروبا وغيرها من البلدان.
والواضح أن العديد من هذه الخيارات لا بل جميعها، لم ينجح بعد في تقديم الحلول الشافية، أو الحلول المقبولة لتلك التناقضات البنيوية التي أشرنا إليها أعلاه. فمنها ما سقط بالكامل وتم التخلي عنه (النازية مثلاً)، ومنها ما يعاد انتاجه وإنما مع بعض التعديلات، غير ان المؤكد في جميع الحالات لحد الآن هو ارجحية الخيارات اليمينية وانتشارها في اغلبية البلدان، وانحسار الخيارات اليسارية وتراجعها، وتخبط البعض الآخر في احسن الاحوال.
بالطبع إن الدعوة لتقديم الحلول للأعطاب البنيوية المشار إليها أعلاه لا تصدر عن قناعة أن تلك الحلول المرتجاة هي حلول نهائية لمشاكل العصر، ولكن يبقى الطموح لتقديم الحلول مشروع، والأهم هو أن ندرك أن هذه الحلول هي دوماً مشروطة بطبيعة المرحلة والبنى الاقتصادية والسياسية والثقافية التي نحيا في ظلها ونتلقى تداعياتها تباعاً.
من هنا تبرز الحاجة الماسة لإعادة إحياء الخيار اليساري بما هو خيار لتجاوز الاستغلال الاقتصادى وإنهاء الاستبداد والقهر السياسي والتفاوت في توزيع المكانة الاجتماعية بين البشر، وذلك على قاعدة النقد الجذري لخيارات وتجارب اليسار السابقة، والاستفادة من ذلك لإعادة تحديد هوية هذا اليسار. وكلما تأخرت هذه المهمة لإعادة تحديد هوية اليسار واعادة بناء أحزابه وقاعدته الشعبية، كلما واجهنا خطر الانتكاس سياسياً واجتماعياً بسبب تقدم الخيارات الفاشية المحدثة واليمينية المتطرفة( مثلاً انتصار القوى الفاشية الجديدة في الانتخابات الايطالية الاخيرة التي أجريت في 25 أيلول من العام الجاري) التي تقوم على فكرة تقديس الهويات القومية العنصرية والاثنية والدينية كأطر سياسية متنوعة، وإنما ملائمة للحفاظ على الاستغلال الطبقي والاستبداد السياسي والاستعلاء الاجتماعي.
Leave a Comment