اقتصاد

موازنة 2022: مخالفات وارتجال “حلول” تعمِّق أزمة الانهيار

زهيرهواري

أقرّ مجلس النواب الموازنة بواقع 63 صوتاً مؤيّداً، مقابل 37 صوتاً معارضاً، وامتناع ستة نواب عن التصويت. والنواب الذين صوتوا على موازنة الدولة للعام 2022 اعترفوا صراحة أن موافقتهم عليها أتت على قاعدة الاختيار بين  إقرارها السيء  وعدم إقرارها. خاصة وأن  بعضهم يرى ضرورة للاقرار كمدخل لـ”تبييض” صفحة الدولة اللبنانية أمام صندوق النقد الدولي الذي يعوِّل على موازنة العام 2023 وليس على موازنة باتت بحكم المنتهية، بعد أن مر على تنفيذها 9 أشهر من أصل 12 شهراً. ومرد مثل هذه المواقف الباهتة من المؤيدين ومعارضة المعارضين، هو ما حفلت به من مخالفات وثغرات، اذ لم تقرن الموازنة  مع قانون قطع الحساب، وذلك خلافا للمادة 87 من الدستور اللبناني، والمادة 118 من النظام الداخلي لمجلس النواب، بحيث يتوجب أن يصدق المجلس أولاً على قانون قطع الحساب، ثم على موازنة النفقات ثم قانون الموازنة، وفي النهاية على موازنة الواردات، وبخاصة أن موازنة 2022 هي موازنة شكلية لا تعكس ارقام العجز الحقيقي، بدليل الارتباك الحكومي الذي ساد المناقشات حول الارقام الفعلية التي أوردتها، سواء على صعيد النفقات أو الواردات. أكثر من ذلك فإن مثل هذه الموازنة قاصرة حتى عن معالجة ازمة موظفي القطاع العام، كذلك لا تتضمن اي مواد اصلاحية بدليل تعدّيل عدة قوانين ضريبية “غب الطلب” وفي ساعتها الأخيرة، دون الاستناد الى خطة تعافٍ اقتصادي مالي ونقدي شاملة، كما سبق وتلاحقت الوعود منذ حكومة حسان دياب إلى حكومة ميقاتي.

إذن باتت الموازنة أمراً واقعاً بصرف النظر عن معارضتها أو الموافقة عليها، علماً أن الدفاع عنها كان ضعيفاً سواء من وزير المالية، أو من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي أعلن أن العجز الذي تتضمنه الموازنة بين النفقات والواردات ستتم تغطيته من صندوق النقد الدولي. وبعيداً عن تعليق بري من أن المجلس سيد نفسه، يمكن ادراج ما ذكره ميقاتي بأنه من باب التمنيات والكذب على النواب والناس. ومن المعلوم أن  الصندوق وضع جملة شروط على الدولة اللبنانية الالتزام بها قبل اقرار القرض وهو لم يحدث.

وعلى أي حال فإن هذه الموازنة لن تُرضي الصندوق الذي طلبها كجزء من الشروط الإصلاحية الإلزامية للدخول في مفاوضات فعلية معه. حالياً، الصندوق غير راضٍ عنها لأنه لم يلمس ما له علاقة بالاصلاح، ولهذا أصرّ على السلطة السياسية البدء بتحضير موازنة العام 2023، وهي المعيار الأهم برأيه. وبالطبع فموازنة لا تلحظ أي جوانب اصلاحية حقيقية من شأنها أن تثير حفيظة إدارة الصندوق التي “كلّت” أرجل وفودها إلى لبنان ومنه، ولقاءاتها بالمسؤولين. على أي حال شهد مجلس النواب لحظات هرج ومرج ونفاق وكذب لم يعرفها منذ سنوات، دون أن نلمح نقاشاً حقيقياً – باستثناءات قليلة – لدلالات ما تضمنته الموازنة من ارقام سواء على صعيد النفقات أو الواردات في بلد حدوده البرية والبحرية سائبة ومفتوحة بالاتجاهين، وهو أعجز عن اقفالها، بدليل قوارب الموت وما تخلفه من ضحايا بين اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين، الذين تتقاذف جثثهم الامواج. والملفت هو تباري معظم الكتل في النيل من الموازنة تارة لأهداف سياسية ترتبط بموضوع تشكيل الحكومة أو استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية. وكان واضحاً أن معظم الإيرادات التي يجري الحديث عنها لا أساس لها. أما ما سيحدث فهو  المزيد من طبع العملة وارتفاع معدلات التضخم، ومعه انخفاض القدرة الشرائية لأصحاب الرواتب والأجور، ما سيضاعف  من التهرّب الضّريبي والتهريب وانتعاش الاقتصاد الموازي والانهيار المعيشي.

وعلى هامش الجلسة، ولمزيد من رفد الخزينة بالإيرادات، أصدر ميقاتي قراراً يطلب بموجبه من جميع الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات “إعادة النظر بجميع التخمينات العقارية بما يتناسب مع الأسعار الرائجة خلال فترة استصدار المراسيم، على أن تكون المعلومات شاملة وتفصيلية وواضحة وعلى مسؤولية من أعدّها”. وشدد على الحرص بأن تكون التخمينات أقرب ما تكون إلى القيمة الفعلية للعقارات بتاريخ صدور المراسيم ذات الصلة، خلافاً للتخيمنات القديمة، لما في ذلك من ارتداد إيجابي على مصلحة الخزينة العامة”…

وتضمنت الموازنة رفع سعر الدولار الجمركي من 1500 ليرة إلى 15000 ليرة، وهو ما كان متوقعاً من جانب التجار والمستوردين، الذين ضاعفوا عمليات الاستيراد بالدولار الرسمي ما يحقق لهم أرباحاً خيالية، وسيضاعفونها مستقبلاً طالماً أن الدولار الجمركي ما تزال تفصله هوة واسعة عن سعر الدولار السائد في الأسواق. وهو ما سينعكس على ألاسعار عامة، في ظل غياب اجهزة الرقابة والمنافسة، والضوابط التي تحول دون استغلال المستهلكين. وهو ما ينطبق حتى على أسعار السلع التي لا تخضع للدولار الجمركي، فضلاً عن التلاعب بنوعية المستوردات، وتسجيل ما هو غير معفي منها بوصفه معفياً من الخضوع للسعر الجديد. كذلك تم إقرار رسوم أخرى  مثل مضاعفة بدل الحصول على جواز السفر ورسم جمركي جديد بنسبة 10 في المئة على السلع والبضائع التي يتم استيرادها ويصنع لها مثيل في لبنان، وعلى السلع والبضائع المصنفة فاخرة. ويقال أن الموازنة تستهدف من هذا الرسم تشجيع ودعم الصناعة الوطنية، غير أن غياب مؤسسات الرقابة وتهاوي الخدمات العامة تجعله بمثابة فرصة للتجار تفرض على المستهلكين زيادات اضافية بدعوى المواد الأولية المستوردة.

لحس المبرد

لكن يبقى أن أبرز ما أقرته الموازنة يتمثل بزيادات على رواتب وأجور القطاع العام. وهي زيادة لاعلاقة لها بقيمة انهيار العملة الوطنية التي فقدت حوالي 95% من قيمتها في غضون السنوات الثلاث السابقة. إذن لن تلبي مضاعفة الرواتب والاجور مطالب العاملين واحتياجاتهم، بعد تراجع الحديث عن ثلاثة أضعاف إلى ضعفين. لكن الأفدح هو كونها ستطلق موجة جديدة من التضخم النقدي. فالزيادات هذه أقرت مربوطة بشكل أو بآخر بإيرادات الدولار الجمركي، وبمعزل عن عمليات ضبط المعابر المطلوبة، وأي إجراءات إصلاحية أو خطة تستهدف تعزيز القدرة الشرائية للموظفين، بالتوازي مع لجم التضخم. فقد أعطت الموازنة موظفي موظفي القطاع العام المدنيين والعسكريين والمتقاعدين والأجراء كافة في الدولة، مساعدة مؤقتة تساوي ضعفي أساس الراتب الشهري، على ألا يقل إجمالي ما يتقاضاه المستفيد بما فيه راتبه الأساسي عن 5 ملايين ليرة، وعلى ألا تزيد قيمة المساعدة الاجتماعية عن 12 مليون ليرة لبنانية. وهذه الزيادة لا تدخل في أساس الراتب، ولا تحتسب زيادة على التقديمات العائلية والدرجات، أو في تعويض نهاية الخدمة أو المعاش التقاعدي. وعليه، تُعدّ هذه الزيادة استثنائية ومحدودة الزمن، ريثما تتم المعالجة النهائية لموضوع الرواتب. وقد تبين أن احتساب الرواتب والزيادات جرى على أساس دولار سعره 4500 ليرة، في حين أن سعر صرف الدولار في السوق السوداء اليوم بات على عتبة الـ 40000 ليرة.

أيضاً هناك ما يتعلق  بحسم المساعدات التي سبق للموظفين أن حصلوا عليها. فقد وردت الصيغة التالية: “في حال استفاد أحد العاملين في القطاع العام من أية زيادة على الراتب أو تعويض استثنائي أو مساعدة مالية مهما كان نوعها أو تسميتها (ما عدا الدرجات التي يستحقها العامل في القطاع العام) اعتباراً من 1/1/2020، تُحسم هذه الزيادة أو التعويض أو المساعدة المالية من قيمة المساعدة المستحقة، ولا يستفيد صاحب العلاقة إلا من قيمة الفرق بين المساعدة والمبلغ الذي استفاد منه على راتبه”. هذا الحسم يجعل الزيادات هزيلة ولا تعوض سوى جزء يسير من الخسارات، ما يقود إلى مزيد من تحركات القطاع العام العاجز عن الصمود سوى لعدة أيام في الشهر، بفعل انهيار القطاع العام التعليمي والصحي والاستشفائي والصناديق الضامنة وغياب النقل المشترك والطاقة الكهربائية والمياه وما شابه. اذن ستكون الزيادة أشبه ما تكون بعملية لحس المبرد الذي لن ينجح في لجم انهيار الطبقة الوسطى وافقار الطبقات الفقيرة، فضلاً عن أولئك الذين نٌهبت مدخراتهم.

من هنا يمكن القول إن ما جاء في موازنة ما بعد الانهيار لا يختلف عما سبقه من “ترقيع”، تلجأ إليه السلطة دون أن يترافق مع لجم عناصر التضخم والتفكك والانحلال على صعيد مؤسسات الدولة وتراجع وانكماش أداء القطاع الخاص، الذي يبدو مقيدأ بشمول الانهيار شتى المرافق والقطاعات. ومعه يصح الجزم أن موازنة 2022 هي نموذج عن هرب الطبقة المافياوية السياسية – المالية من تحت ” الدلفة ” إلى تحت “المزراب”، بدليل مقدار العجز الدفتري الذي قدرت قيمته بمبلغ 16 ألف مليار لبنانية، فإذا به يتراجع إلى 10 آلاف و800 مليار ليرة، لكنه واقعاً قد يتضاعف في ضوء التهرب الضريبي والفوضى والفساد المستشري الذي لا علاج له.

Leave a Comment